كثيرون يشيرون الى تماثل ظروف العراق وافغانستان مع فارق التحديث في البنية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، فالنموذج السياسي الذي ورث دولة الاستبداد جاء هجينا وعاجزا ومنخورا بالفساد وسوء الادارة وهدر الاموال وضياع الموارد، وحتى يصمد هذا النموذج يحتاج الى استعداد شعبي كبير للدفاع عنه...

يتابع فريقان من العراقيين تطورات الاحداث في افغانستان، فريق ينظر بقلق وخوف لنتائج سقوط حكومة كابل وسيطرة حركة طالبان مجددا على السلطة بكل ما يحمل ذلك من صور بائسة عن عودة التشدد والراديكالية الدينية، ونموذج الامارة الاسلامية الطالبانية المعاكس لصيرورة التاريخ، وفريق ينظر بارتياح لفشل الاستراتيجية الامريكية واضطرار واشنطن الى الانسحاب والتسليم بهزيمة مشروع بناء الامة الافغانية الجديدة، وانهيار الدولة الديمقراطية التعددية.

الخائفون يعتقدون ان الانسحاب الامريكي يعزز جبهة القوى التي ترى امريكا شرا مطلقا، وهو ليس انسحابا عسكريا فحسب، بل هو انهيار للرؤية الامريكية التي بشرت بنظم ديمقراطية حديثة تصبح فيها المنطقة محصنة ضد تغول قوى التشدد والارهاب التي هي نواتج لفكر قروسطي.

يعكس التراجع الامريكي فشل التحديث السياسي والفكري الذي دشنته القوة العسكرية الامريكية في بداية الالفية الثالثة 2001، بعد المشروع الاول الذي جاء مع الاستعمار والكولونيالية الغربية منذ القرن التاسع عشر.

المستبشرون بالانسحاب الامريكي يرون ان عودة طالبان بعد عشرين عاما من اسقاط حكمها، هو في جوهره هزيمة كبرى للمشروع العسكري الامريكي في العالم الاسلامي، كما ان هذا الانسحاب جاء تحت وطاة مقاومة شديدة ابدتها قوى متشددة عديدة لا تمثلها طالبان وحدها وان كانت الاخيرة هي التي هيمنت على المشهد واقصت بقية القوى المناوئة لأمريكا وأبرزها تيار قلب الدين حكمتيار وفصيل حقاني واخرون.

مشاهد الانسحاب الفوضوي الامريكي والعجلة غير المفهومة في ترك افغانستان نهبا لفراغ امني وعسكري كبير، ينبيء بان تحولا استراتيجيا كبيرا حدث لدى صناع السياسات في البيت الابيض والبنتاغون، وان امريكا خرجت من حرب استنزاف كبيرة كلفتها اموالا طائلة ورجالا يعدون بالمئات، دونما افق واعد لدولة افغانية جديدة على انقاض دولة طالبان المتمردة على عصر الحداثة والديمقراطية.

سيعُد الانسحاب الامريكي المتعجل نجاحا جديدا لفكرة مقاومة الشعوب للاحتلالات الاجنبية ولوليدها السياسي (الدولة الحديثة) التي لم تتأسس وفق سياقات اجتماعية وسياسية وفكرية محلية، انما وفق نمط (نموذج) غربي هو اقرب الى الوصفة الجاهزة للديمقراطية في بيئة غير ديمقراطية اجتماعيا وسياسيا وفكريا، ومؤسسات دولة يقودها اناس غير ديمقراطيين واكثرهم فاسدين.

فشل نموذج الدولة الافغانية الجديدة، سيكون مرضا معديا، فالنماذج الاخرى التي سهرت عليها امريكا وانفقت من اجلها الكثير، ستتهاوى ايضا، هذا ما يتوقعه بعض المراقبين ويروج له اعلام القوى المعادية لامريكا، ويربطون ذلك كله بايديولوجية المقاومة ضد الغطرسة الامريكية.

ماذا عن انعكاسات الانسحاب الامريكي على العراق؟

كثيرون يشيرون الى تماثل ظروف العراق وافغانستان مع فارق التحديث في البنية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، فالنموذج السياسي الذي ورث دولة الاستبداد جاء هجينا وعاجزا ومنخورا بالفساد وسوء الادارة وهدر الاموال وضياع الموارد، وحتى يصمد هذا النموذج يحتاج الى استعداد شعبي كبير للدفاع عنه، اعتمادا على وجود ثقة به ومصلحة في استمراره لدى قطاع اجتماعي واسع، هذا الشرط لم يعد قائما بعد الاحتجاجات التي اكلت من شرعية النظام ومشروعية مؤسساته وانكشاف عجزه وافتقاد ادارته لارادة الحوكمة الرشيدة.

ثمة قوى متأهبة تقدم نفسها وريثة للنموذج الديمقراطي المترهل العاجز، انها القوى المؤدلجة التي تؤمن بأولوية حمل السلاح وتصفية الحسابات والاستمرار بالصراع ضد الامريكان ومَن تصنفهم اتباع ومرتبطون بأمريكا ومشروعها لدواع مختلفة، لكن ما هو النموذج السياسي المقترح؟ بلا شك سيكون هذا النموذج معاكسا للكيفية التي تحاكي النموذج الديمقراطي الهجين، اي ان عشرين عاما من مشروع بناء الامة الجديدة، ونموذجها السياسي التوافقي الاسترضائي، وقوانين عدالته الانتقالية، تبخرت او في طريقها الى التبخر، في لحظة قلقة تنعدم فيها الخيارات الواقعية وتكثر فيها الشعارات الايديولوجية.

سقوط الوليد السياسي المحلي للاستراتيجية الامريكية، يضع شعوب المنطقة امام تحدي تجريب نظم جديدة، واختبار سياق سياسي سيكون معاديا للامريكان ومتمردا على مظلة النفوذ الامريكي -الغربي، ستضطر الشعوب لدفع فواتيرها بالجملة، فلا الامريكان بالقوة التي يعتمد عليها كثيرا لضمان الامن والسلام الاجتماعي والرخاء الاقتصادي، ولا النظم الجديدة ستكون مليئة اليد والجيوب لتلبية مطالب الناس واحتياجات جمهورها، وسيبدأ صراع على السلطة والمال بنمطية مختلفة فيما سيبقى شكل المنطقة ملونا بالاحمر القاني وفق معادلات صراع جديدة لا تتوقف.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق