وقد تأكدت بعد قراءتي المتأنّية للكتاب أن رأيي بالسيد مرتضى كان صائباً في مكانه من حيث غزارة معارفه وشموليتها، ومن حيث الجمع بين الأصالة والمعاصرة أيضاً. وهنا أريد أن أتوقف عند محطة هامة لفتت انتباهي في ذلك الكتاب الثّر والغني بمعلوماته الوافية، وما تلك النقطة التي أريد...
ليس غريباً عن المدرسة الشيرازية المعاصرة أن تقتحم ميادين الفكر والثقافة وأن تكون السبّاقة إلى الخوض في أهم المصطلحات الفكرية والفلسفية التي شغلت بال الكثير من أرباب الأعلام والباحثين عن الحقائق والمعارف عبر التاريخ. وليس من الغريب أيضاً أن يكون السيد مرتضى الشيرازي أحد أهم الأعلام الإسلامية والقامات الفكرية الرائدة التي ترفد مكوّناتنا الثقافية وبُنيتنا المعرفية بنبع لا ينضب من المعارف والعلوم التي تحافظ على أصالتها من جهة وتواكب الروح العصرية من جهة أخرى.
وعلى سبيل المثال، قرأت مؤخّراً كتاباً قيّماً للسيد الشيرازي بعنوان (القيمة المعرفية للشك)(1) وقد تأكدت بعد قراءتي المتأنّية للكتاب أن رأيي بالسيد مرتضى كان صائباً في مكانه من حيث غزارة معارفه وشموليتها، ومن حيث الجمع بين الأصالة والمعاصرة أيضاً.
وهنا أريد أن أتوقف عند محطة هامة لفتت انتباهي في ذلك الكتاب الثّر والغني بمعلوماته الوافية، وما تلك النقطة التي أريد الوقوف عندها الآن سوى العنوان التالي (مخاطر الشك وأضراره). إنه عنوان لافت للنظر بلا شك.
وقبل التعرّف على وجهة نظر السيد مرتضى الشيرازي، دعونا نعرف ما هو تعريف الشك Doubt.
جاء في كتاب (المعجم الفلسفي) للدكتور جميل صليبا أن الشك هو: (تردّد بين نقيضين، لا يرجّح العقل أحدَهما على الآخر.... ويرجع تردد العقل بين الحكمين إلى عجزه عن معاناة التحليل أو إلى قناعته بالجهل).(2)
ولا ريب في أن هذا التعريف صحيح نسبياً ومقبول منطقياً، وقد أشار السيد الشيرازي أكثر من مرّة إلى نسبيّة صحة التعريفات والمصطلحات. بل وقد أشار سماحته في كتابه المذكور (القيمة المعرفية للشك) إلى أنواع الشكوك وإلى طرق الوقاية منها وإلى أثر ذلك الشك السلبي على الأفراد والجماعات، بل وعلى الأوطان والحضارات أيضاً. وهنا بيت القصيد في ما يتعلق بمخاطر الشك وأضراره الجسيمة على ضحاياه أفراداً وجماعات.
فالشك السلبي هو بلا ريب الظاهرة المرَضية المناقضة للشك الإيجابي الواعي القائم على نيّة كشف خفايا الحقائق والوصول إلى الأهداف المنشودة في خدمة الإنسان كفرد والمجتمعات الإنسانية ككل. فهناك فرق كبير واضح بين الشك الهدّام عند الفيلسوف (نيتشه) والشك الإيجابي البنّاء عند الفيلسوف (ديكارت). وقد أشار سماحة السيد الشيرازي إلى بعض النماذج من شكوك نيتشه تجاه الإنسان عموماً وتجاه المرأة بشكل خاص، وهذا ما جعل فلسفته كتاباً مقدساً عند بعض التيارات السياسية التي عملت على إشعال الحرب واستنزاف ثروات الشعوب والخروج بنظريات غريبة قائمة على التصنيف العرقي والقومي، وما الفكر الألماني النازي ونظريته العرقية إلا المثال المناسب على ذلك. لقد هاجم نيتشه كل شيء حتى ألواح الشرائع واعتبر فلسفته فوق كل اعتبار، بل واعتبر بنفس الوقت أيضاً أن حركته الفكرية بمثابة حركة وثّابة يحركها إبليس ذاته (3).
في حين، وبالمقابل، هناك فلسفة ديكارت التي تقوم على تمجيد العقل واحترام الحقائق الناتجة عن اليقين بعد المرور بالشك. وقد مرّت فلسفة ديكارت بثلاث مراحل وهي:
1- مرحلة الانتقال من الشك إلى اليقين.
2- مرحلة الانتقال من النفس إلى الله.
3- مرحلة الهبوط من الله إلى العالم. (4)
لقد شك ديكارت في علوم زمانه، وهو شك مختلف عن شك (الريبيّين) الذين لا يشكّون إلا للشك ذاته، ولذلك فقد قال: (لقد كانت غايتي أن أثق بصحة ما أعلم، وأن أبني علومي على الصخر، لا على المتحرّك من الرمال).(5)
إن هذا الفرق الشاسع بين نوعيّ الشك هو ما استرعى انتباه السيد الشيرازي ودعا الإنسان عموماً إلى الانتباه إلى الأهداف الكامنة وراء كل منهما. وفي الوقت الذي أشار فيه سماحته إلى النتائج الإيجابية المستخلصة من الشك الإيجابي المؤطّر ضمن دائرة العقل، فقد أشار بنفس الوقت إلى النتائج الكارثيّة التي تنتج عن الشك الذي ينطلق بدايةً من ذاته ليدور بعيداً وطويلاً ومن ثم ليعود ثانية إلى نقطة انطلاقه الأولى التي انطلق منها.
وقد ركّز سماحة السيد على عدة نتائج مادية ومعنوية تنتج عن هذا النوع من الشك، ونحن نوجز الكلام عنها بما يلي:
النتيجة الأولى: تحويل الحياة إلى جحيم لا يطاق.(6)
فالشك السلبي يمكن أن يقود المرء إلى حالة مرَضية خطيرة تشبه إلى حدّ كبير حالة الوسواس القهري الذي قلّما يُصاب به المرء ويُشفى منه دون تشوّه يصيب شخصية المريض. فالمرء يمكن أن يشك بأقرب الناس إليه وربما يشك بأبيه وأمّه، وأخيه وابنه، وحتى بزوجته وأقربائه وأصدقائه دون وجه حق. وقد ضرب لنا السيد الشيرازي أمثلة عديدة عن هذا النوع من الشك الذي (يحرق الأخضر واليابس) في الحياة الاجتماعية. فلا يهنأ بال للإنسان الشكوك الذي يتحوّل الليل عنده إلى نهار والنهار إلى ليل. والغريب في الأمر أن الإنسان المريض بداء الشك يعيش حالة من حالات الاطمئنان إلى شكوكه وكأنها قد تحوّلت إلى حقائق ثابتة وراسخة عنده، فلا تراه يبحث عن مخرج معقول للتخلّص من براثن الشك وقيوده التي تلتفّ حول عقله. وقد أورد السيد الشيرازي حديثاً هاماً لأمير المؤمنين علي (ع) عن ضرر الشك وعن عظيم أثره، وذلك قوله (ع): (فإن الشكوك والظنون لواقح الفتن ومكدرةً لصفو المنائح والمنن). (7)
ولذلك دعا السيد الشيرازي إلى التمسّك بالعوامل التي من شأنها إزالة أو التخفيف الشديد لهذا النوع من الشكوك غير المبرَّرة شرعياً وعقلياً. وبالطبع سيكون لنا بحث مستقل لاحقاً عن الحلول السليمة التي وضعها سماحة السيد مرتضى الشيرازي لهذه الشكوك التي تعمل جاهدة دون كلل أو ملل لتقويض أسس الحياة الاجتماعية في كل زمان ومكان.
ولا يرى سماحة السيد غضاضة في أن يكون النوع الثاني من الشكوك طريقاً للبحث عن الحقائق بكافة أنواعها على أن لا يتجاوز حدوده التي يمكن أن يخرج عنها أحياناً ليتحوّل إلى سلاح فتّاك يفتك بصاحبه و بمجتمعه الذي يعيش فيه.
النتيجة الثانية: الشك مفتاح لتدمير الحضارات. (8)
قد يستغرب المرء عندما يقرأ أن السيد الشيرازي يعتبر أن من مخاطر الشك السعي لتدمير الحضارات، وقد يتبادر إلى ذهنه السؤال التالي:
ما علاقة الشك بتدمير الحضارات وما هو السبيل إلى ذلك؟؟
في الواقع، إن كلام السيد مرتضى الشيرازي عن علاقة الشك بتدمير الحضارات يشير إلى عمق فكره الأيديولوجي ضمن منظومته الفكرية العامة. فالشك عملية تمدّدية أفقياً وعمودياً، فالشك قد ينطلق من الذات ثم تبدأ دائرته بالتوسع والتمدّد حتى تشمل أسرته ثم مجتمعه ثم بعد ذلك وطنه، ثم يزداد أكثر فأكثر حتى يشمل الجنس البشري، وبالتالي يكون الشك في هذه الحالة قد أخذ كامل أبعاده الأفقية من حيث شمولية الشك في الجنس البشري عموماً وفي كل حضارة من حضاراته القائمة، والمشكلة الأكثر صعوبة هي إذا كان الشخص الشكّاك من ذوي المناصب السياسية أو من ذوي النفوذ الاقتصادي والصناعي، ففي هذه الحالة سيبدأ الصراع الحتمي بين المجتمعات بسبب النوايا والشكوك الضبابية التي تهدف إلى النيل من المجتمعات والحضارات الأخرى المناوئة في القِيم والمبادئ والمقدّرات الاقتصادية، وحتى المواقع الجغرافية على خريطة العالم.
ولعل كتاب (صدام الحضارات) لمؤلفه صموئيل هنتنغتون خير مثال على ذلك. ففي الكتاب المذكور حشد هائل من الشكوك والمخاوف تجاه حضارة العرق الأصفر وحضارة الإسلام، وهو يشير إلى ذلك من باب ضرورة استعداد الغرب لحرب محتملة قادمة مع أصحاب هاتين الحضارتين، فهما التحدّيان الأكبر للغرب عموماً.(9)
ومن هنا ندرك أن ما ذكره السيد الشيرازي عن قوة الشك في زعزعة أمن الحضارات هو سابقة فكرية جديرة بالاهتمام والتأمّل، خاصة عندما يبدأ المرء بالشك في حكوماته العادلة وقادته المخلصين ومُثُله العليا في المجتمع، وعندما – بنفس الوقت – تبدأ الحكومات تشك في مواطنيها وفي إخلاصهم لوطنهم ومؤسساته، فلا بد أن تزداد مساحة السجون ويرتفع عدد الاعتقالات وتصبح الثقة في محل إشكال بسبب فقدانها بين أفراد الأمة ويترهّل نسيجها الاجتماعي ككلّ. ولا ريب أن عدوّ الأمة في الغرب و في غير الغرب أيضاً سيلعب دوره القوي في رفع وتيرة الشك بين القيادات بكل أنواعها وبين أفراد الشعب بكافة أطيافه، فهو سيعمل على نشر فيروس الشك في الجامعات والمؤسسات والأسواق و حتى بين الأحزاب والهيئات والعشائر وما إلى ذلك.(10)
إن كل هذه الطرق ستكون المقدمة لرفع حالة الشك إلى درجات خطيرة تؤدي إلى خلق نزاعات داخلية في بداية الأمر، ولكنها ستتطور لاحقاً لتصبح تربة خصبة لتدخلات خارجية تنهش في جسد الأمة ولا غرابة عند ذلك أن تتحول إلى حروب طاحنة بين تلك الأمم لتفتك بكل ما يقف في طريقها وطريق تحقيق مصالح العدو المناوئ الذي يبحث جاهداً لتثبيت أقدامه في تربة ثرية تتناهبها المشاكل والصراعات الداخلية.
النتيجة الثالثة: انهيار البنيان المعرفي. (11)
يورد سماحة السيد الشيرازي قولَ الله تعالى: {لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطّع قلوبهم والله عليم حكيم } التوبة/110، وقد علق سماحته على هذه الآية الكريمة بالقول إن البنيان المقصود هنا قد يكون بنياناً مادياً ظاهراً كبناء المؤسسات العامة والمصانع وورشات العمل والبُنى التحتيّة المختلفة وما إلى هنالك من منشآت أخرى، وقد يكون البنيان أيضاً بنياناً علمياً ثقافياً قائم على قاعدة ثابتة وقوية أساسها العقل كبناء الجامعات والمؤسسات التعليمية وما شابه ذلك. وليس هذا فحسب، فقد يكون البنيان بنياناً أخلاقياً وقِيَميّاً قائماً على القيمة الأخلاقية في المجتمع انطلاقاً من بناء الأسرة وانتهاءً ببناء المجتمع كوحدة كاملة متكاملة، كما هو حال الجسد الواحد تماماً.
فالتشكيك في أي نوع من أنواع هذا البنيان سيقود حتماً إلى نتائج لا تُحمد عقباها أبداً، فانهيار أي بنيان من هذه الأبنية سيقود إلى انهيار الأبنية الأخرى كانفراط حبّات المسبحة تماماً. ولذلك يُعتبر انهيار البيان المعرفي هو الأخطر بين نتائج الشك في المجتمع، ولأن الغرب يعرف هذه الحقيقة تمام المعرفة ويدرك أبعادها ونتائجها، وينظر إليها بعين الخبير الحاذق، فهو يحاول بلا كلل أو ملل التسلل إلى مجتمعاتنا من خلال تفعيل الشك وزرع بذوره الشيطانية في كل مرفق من مرافق الحياة، سواء في الأسرة أو في المدرسة أو الجامعة أو المصنع أو حتى في الوسائل الترفيهية والتثقيفية المرئية والمسموعة والمكتوبة، إنها حرب لا هوادة فيها.
وأخيراً نقول إن هناك نتائج أخرى أشار إليها بطريقة أو أخرى سماحةُ السيد في كتابه القيّم (القيمة المعرفية للشك)، ولكن نرى أننا قد عرضنا وحلّلنا بشكل واضح وموجز في بحثنا هذا أهم النقاط المترتّبة على مخاطر الشك وأضراره على المستويين الفردي والجمعي. وخير ما نختتم به بحثنا الموجز هذا هو قول سماحة السيد الشيرازي الذي جاء ليلخّص جوهر رأيه الفكري في مسألة الوجه السلبي للشك ومخاطره الهدّامة: (وصفوة القول: إن رجل الدين أو الطبيب أو المهندس أو التاجر والمزارع و غيرهم، لا يمكنهم التضحية أبداً بأي شيء هام إذا لم يكونوا على يقين من الهدف ووضوح من الرؤية ولا يمكن لأية أمة أو جماعة أن تحقق إنجازات عظيمة وهي تعيش في دوامة من الشك والتشكيك).(12)
اضف تعليق