ويمكن ان ينظر الى الموضوع من الناحية الاقتصادية فالكثير من الموارد المالية توفرها شبكة سكك الحديد لخزينة الدولة، يذهب جزء يسير منها لصيانة الأعطال فيها، ويدخل الجزء الأكبر ضمن الناتج القومي الإجمالي للبلد، وفي العراق تحديدا معدوم هذا المرفق الحيوي الذي يعتبر من الشرايين الاقتصادية المهمة في البلد مقارنة...
بلغت من العمر خمسة وثلاثين عاما ولا يزال يراودني حلم الوصول الى احدى المدن العراقية عبر خطوط شبكة سكك الحديد (القطار)، التي انشأها الالمان في العراق بمطلع القرن العشرين، لنقل الافراد والبضائع، وامتدت من مدينة البصرة جنوباً وحتى الحدود التركية، مروراً بالناصرية والسماوة والديوانية وبابل وبغداد وسامراء والموصل وغيرها من المدن العراقية.
فهي اليوم معطلة بصورة قريبة من التامة ولا يمكن الاستفادة منها بالقدر المطلوب نتيجة تدميرها خلال عمليات محاربة الجماعات الارهابية، وكذلك الحروب التي حدثت في العراق منذ عقود، فلا يمكن الاعتماد عليها كما في السابق بعمليات النقل للبضائع والسلع المختلفة عبر العراق الى أسواقها الاستهلاكية.
تلجأ الدول وعادة المتقدمة في مجال النقل البري الى استخدام السكك الحديدية للتعويض عن النقص الحاصل بالطرق المعبدة، نتيجة لعدم وجود المساحات الكافية لإنشاء هذه الطرق، او لصعوبة تشيديها لظروف اقتصادية قد تكلف مبالغ أكثر بكثير من انشاء سكك الحديد، وبالتالي فهي اوجدت البديل الناجح للقضاء على الازمة من جهة وكذلك السرعة في الوصول الى أماكن متفرقة من البلاد او خارجها عبر شبكة عنكبوتية بأبعاد مترامية.
فالخطوط السككية تتميز عن غيرها البرية والبحرية بالسرعة الفائقة، في نقل الأشخاص وكذلك السلع، فعلى سبيل المثال تستغرق الرحلة من شنغهاي إلى مطار شنغهاي 7 دقائق و20 ثانية فقط، بفضل قطار ماجليف الذي يستخدم مغناطيسات للرفع فوق القضبان، وبالتالي تقليل الاحتكاك والوصول إلى سرعات تبلغ 430 كم / ساعة.
لكن تبقى هذه السرعة لا تضاهي الأرقام القياسية التي وصلت إلى 600 كم في الساعة، كما نقلت مجلة "لوبوان" (lepoint) الفرنسية، عن موقع "بيزنس إنسايدر" (Business Insider)، الذي يُعنى بعالم المال والأعمال والذي سلط الضوء على تطور الأرقام القياسية في سرعة القطارات حول العالم.
وفيما يخص القطارات المخصصة للنقل التجاري تبلغ السرعة القصوى لها حوالي 300 كم في الساعة، في حين سجلت بعض القطارات الأخرى سرعة تفوق ذلك بكثير في سياق حملات التسويق التجريبي.
من المشكلات المستعصية التي لم يجد لها العراق حلا هي مسألة النقل في المناسبات الدينية، فبعض المدن التي تشهد توافد ملايين الزائرين سنويا مثل كربلاء المقدسة والنجف والكاظمية، تعاني من الاختناقات المرورية عند مداخلها، وتكتفي الحكومة المركزية والمحلية بجلب سيارات النقل ذات الحمولات الكبيرة، تعمل الى جانب آليات الجيش وبقية وزارات الدولة الخدمية.
بالتأكيد هذه الطريقة تعتبر من الأساليب البدائية في التعامل مع الازمة المتكررة في كل عام، ولا نجد عزم حكومي جاد لاقتلاع هذه المشكلة من أساسها، والعمل على إيجاد الحلول المفيدة والمناسبة مع التضخم الكبير في اعداد الزائرين سنويا عبر المنافذ البرية والجوية.
ومن المفترض الا يقتصر تفكيرنا بالمناسبات الدينية فقط، بل التفكير في كيفية الوصول الى معالجات شاملة وكاملة لهذه القضية، ففي الأيام الاعتيادية أصبحت مشكلة النقل الداخل من المشكلات التي تواجه المواطنين بشكل يومي، وتمنعهم من الوصول الى أماكن عملهم بالوقت المحدد، وهنا تكون عملية التأخير بمثابة العبء الإضافي على كاهل الفرد.
فلو كانت موجودة مثل هذه الشبكة الحديدية في المدن او في العاصمة انطلاقا الى بقية المحافظات، لأصبحت هنالك مرونة واضحة بعملية التنقل بين المدن، كما هو معمول فيه بالعاصمة المصرية وكذلك خطوط النقل الحديدي المتواجدة في اغلب عواصم دول العالم.
ويمكن ان ينظر الى الموضوع من الناحية الاقتصادية فالكثير من الموارد المالية توفرها شبكة سكك الحديد لخزينة الدولة، يذهب جزء يسير منها لصيانة الأعطال فيها، ويدخل الجزء الأكبر ضمن الناتج القومي الإجمالي للبلد، وفي العراق تحديدا معدوم هذا المرفق الحيوي الذي يعتبر من الشرايين الاقتصادية المهمة في البلد مقارنة بغيرها من الموارد المحلية.
ولكي يعود العراق الى ميدان النقل عبر خطوط سكك الحديد عليه ان يعمل على إعادة تشغيل الخطوط التي تربطه بدول الجوار منها الخط الذي يربط بغداد بخانقين وصولا الى الحدود الإيرانية الذي تم الغاءه عام 1980 بعد اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية.
إضافة إلى خط بغداد -كركوك الذي توقف العمل به قبل أعوام طويلة، فضلا عن الخط الثالث الذي يمتلكه العراق ويربطه بسوريا عن طريق مدينة القائم الحدودية، مرورا بمدن الفلوجة والرمادي وعكاشات لنقل الأفراد والمنتجات النفطية والبضائع، لكنه تعرّض لأضرار كبيرة خلال المعارك مع تنظيم "داعش" أثناء تحرير مدن محافظة الأنبار.
ومن الخطوات الصحيحة بهذا الاتجاه هو صرف مبالغ كافية لإطلاق حملة تأهيل كبيرة لربط الخطوط الداخلية التي قطعت اوصالها الحروب والحوادث المتلاحقة، بعضها ببعض، وتفيد هذه العملية العراق بصورة مباشرة لا سيما وانه يعاني من سوء طرقه الخارجية، وما تحتضنه من تكسرات وتخسفات تودي بحياة الافراد بشكل يومي.
اما على المستوى العمل الدولي فان الحاجة ملحة لإعادة النظر بمشروع القناة الجافة الذي يربط ميناء الفاو بتركيا عبر ميناء فيشخابور وتشير المعلومات الى وجود تنافس من قبل شركات دولية متخصصة لإنشاء القناة بطول 1211 كيلومتراً، والتي ستكون مشروعا استثمارياً بنسبة 100%.
ويتلخص مشروع "القناة الجافة"، بمدّ سكة حديد عبر العراق للبضائع الآتية من أستراليا وشرق آسيا نحو أوروبا، وذلك من خلال شحن حمولات السفن في الموانئ العراقية إلى الخليج العربي، بخاصة ميناء الفاو الذي ما زال قيد الإنشاء ومن ثم نقلها عبر خطوط نقل برية إلى تركيا ومنها إلى أوروبا.
ومن المتوقع لهذه القناة أن تحقق عائدات مالية تصل إلى ستة مليارات دولار سنوياً، وهو مبلغ قريب لما تحصل عليه قناة السويس، وبذلك يكون العراق قد حصل على مصادر دخل متنوعة، فضلا عن تحكمه بالممرات المائية.
ويبقى على العراق ان يعرف أهميته التجارية والعمل على الاستفادة منها بشتى الطرق، مثلما تتحكم مصر بمصير الدول لامتلاكها قناة السويس، وكما ضغطت إيران على طريق التجارة الدولية عندما هددت بغلق مضيق هرمز عندما ساءت العلاقة مع الولايات المتحدة الامريكية ومنعت نفطها من التصدير الى دول اوروبا.
اضف تعليق