في ظل هذه الخبرات الاجتماعية تتهيأ عادة الفرص لتشكل المفاهيم وانباثقها، فكل مفهوم من الناحية المعرفية يختزل خبرة اجتماعية وثقافية يكون متمثلا لها، ومعبرا عنها، ومتقوما بها. ومن هذه الجهة يكتسب مفهوم التباعد الاجتماعي ميزة يتفاضل بها على غيره من المفاهيم الأخرى، وذلك لكونه استند إلى خبرة...
في ظل تفشي جائحة كورونا وانتشارها الواسع والعابر بين البلدان والمجتمعات على اختلافها وتباعد المسافات بينها، اتخذت لمواجهتها والحد منها حزمة إجراءات احترازية ووقائية فعالة، كان من أبرزها إجراء له طبيعة اجتماعية عرف بتسمية "التباعد الاجتماعي"، التسمية التي قفزت إلى المشهد العام ولقيت رواجا واسعا، وأصبح العالم ينطق بها، ويتحدث عنها، بمختلف لغاته وألسنته الفصيحة والدارجة، لا فرق في ذلك بين مجتمع وآخر، وبين ثقافة وأخرى، وبين لغة وأخرى.
وعدت هذه التسمية واحدة من أقوى التسميات حضورا وتداولا في النطاق العالمي، وظلت تجري على ألسنة الناس بعفوية وبلا توقف، تذكر بها، وتنبه إليها، وقاية واحترازا.
هذه التسمية بهذا الصك البياني، وبهذا التركيب الثنائي، سوف تتخطى وضعية الإجراء الاحترازي المؤقت، لتصل لاحقا إلى وضعية المفهوم المحكم والثابت، وذلك لكون أن هذه التسمية تحمل في بنيتها صفة المفهوم وتتشبه به، وتمت صياغتها مبنى وبيانا بطريقة صياغة المفهوم، سواء حدث هذا الأمر بطريقة واعية ومقصودة أم لا. فالذي وضع هذه التسمية ولا نعلم به على وجه التحديد، كأنه أراد أن يضع مفهوم على صورة إجراء احترازي، أو كأن الذي وضع هذه التسمية ينتسب إلى حقل الدراسات الاجتماعية فصاغها بيانا وتركيبا بطريقة بناء المفهوم، وتحديدا بناء مفهوم اجتماعي، باعتبار أن التسمية المذكورة تنتمي إلى حقل الدراسات الاجتماعية.
من جهة أخرى، اكتسبت هذه التسمية، خلال فترة وجيزة وقياسية، خبرة اجتماعية واسعة، ظلت وما زالت تتسع وتتراكم متصلة بسائر مجتمعات العالم تقريبا، على ما بين هذه المجتمعات من فروقات ومفارقات جمة. تكوّنت هذه الخبرة من خلال الممارسة التطبيقية الفعالة والنشطة، والمقيدة في بعض المجتمعات بقوانين وعقوبات جزائية رادعة. الوضع الذي ترتب عنه وبحكم الضرورة إفراغ مدن العالم بكل شوارعها وساحاتها وميادينها وحدائقها وأسواقها ومتاجرها ومعاملها من البشر، وإلزام هؤلاء البشر المكوث في منازلهم أياما وساعات، تقيدا بما عرف بالحجر المنزلي، في سابقة لا تحدث إلا نادرا في التاريخ الإنساني.
مجموع هذه الممارسات الاجتماعية السيالة كانت بحاجة لأن تتأطر في مفهوم يكون وصفيا لها من جهة، وتفسيريا لها من جهة أخرى. من هنا يبرز مفهوم التباعد الاجتماعي ويتقدم، إما لكونه سابقا على غيره من المفاهيم الأخرى، وإما لكون أن هذه الممارسات الاجتماعية جاءت بداية متصلة بهذا المفهوم وعرفت بتسميته وعنوانه، وإما لأنه المفهوم الذي سد الفراغ الحادث بحثا عن مفهوم في هذا الشأن.
في ظل هذه الخبرات الاجتماعية تتهيأ عادة الفرص لتشكل المفاهيم وانباثقها، فكل مفهوم من الناحية المعرفية يختزل خبرة اجتماعية وثقافية يكون متمثلا لها، ومعبرا عنها، ومتقوما بها. ومن هذه الجهة يكتسب مفهوم التباعد الاجتماعي ميزة يتفاضل بها على غيره من المفاهيم الأخرى، وذلك لكونه استند إلى خبرة اجتماعية واسعة من جهة، وسيالة من جهة أخرى، وفريدة من جهة ثالثة.
يضاف إلى ذلك أن هذا المفهوم يتصل بمفهوم آخر من ناحية النسق، وإن كان يتفارق معه من ناحية المعنى، ونعني به مفهوم التواصل الاجتماعي الذي يتصل بنسقه الاجتماعي مع مفهوم التباعد الاجتماعي، ويتفارقان من ناحية المعنى بتفارق التواصل مع التباعد.
هذا الاقتران يفتح لنا مقارنة حيوية بين هذين المفهومين، ويحقق لهما عنصر التقابل بينهما، فقد أصبحنا أمام مفهومين متقابلين، فلم يعد التواصل الاجتماعي مفهوما أحاديا لا تقابل له ولا اقتران، وبات بإمكان كلا المفهومين أن يذكر أحدهما بالآخر تناظرا وتفارقا.
من صور المقارنة بين هذين المفهومين، أنهما مفهومان عامان لا يتقيدان بمجتمع من دون آخر، ولا بدين من دون آخر، ولا بثقافة من دون أخرى، ولا بلغة من دون لغة، ولا جدال بينهما من هذه الناحية ولا نزاع، فهما ظاهران ومتحققان بلا غموض ولا إبهام. فكما أن التواصل الاجتماعي يحدث بين الناس كافة، بلا فرق بينهم في أي جهة من الجهات، كذلك الحال يحدث مع التباعد الاجتماعي الذي يجري بين الناس كافة، بلا فرق بينهم في أي جهة من الجهات.
ومن صور المقارنة كذلك بين هذين المفهومين، أنهما يتفارقان ما بين مفهوم ينتسب إلى عالم إلكتروني افتراضي متمثلا في شبكات التواصل الاجتماعي ومتحددا بمفهوم التواصل الاجتماعي، وبين مفهوم ينتسب إلى عالم واقعي حسي متحددا في مفهوم التباعد الاجتماعي. وهما في هذين العالمين مفهومان نشطان بدرجة كبيرة، لا يعرفان خمولا ولا ركودا، فالتواصل الاجتماعي الذي يحدث بين الناس إلكترونيا يعد من أنشط الطرق والوسائل التي تعرف إليها الناس وتفاعلوا معها في هذا النطاق. وأما التباعد الاجتماعي، فقد عد من أنشط السلوكيات الممارسة التزاما واحترازا بين شريحة كبيرة من الناس.
ومن وجه آخر لهذه المقارنة، أن في ظل التباعد الاجتماعي تأكدت الحاجة إلى التواصل الاجتماعي وتعاظمت، فقد خففت هذه الشبكات التواصلية من المعاناة النفسية لفئات من الناس، ولبت قدرا تعويضيا من الشعور الاجتماعي كان بحكم المرتفع أو المفقود بسبب تقيد الناس بإجراءات التباعد الاجتماعي. ولو حدث هذا التباعد من دون توافر شبكات التواصل الاجتماعي لكانت معاناة الناس أو فئات كبيرة من الناس صعبة وقاسية.
وفي نطاق هذه المقارنة أيضا، يعتبر مفهوم التواصل الاجتماعي أعم من مفهوم التباعد الاجتماعي، فهو وإن تعلق بالعالم الإلكتروني الافتراضي الذي يحدث عن بعد بين الناس، إلا أنه يصدق كذلك على العالم الواقعي الحسي الذي يحدث عن قرب بين الناس. أما التباعد الاجتماعي فلا يصدق تحققا إلا في نطاق العالم الواقعي الحسي، فهذا هو موضوعه الفعلي ونطاقه الحقيقي.
مع ذلك، هناك وجه لتقريب مفهوم التباعد الاجتماعي إلى ساحة التواصل الاجتماعي، متحددا في جهة الاستفادة من هذا المفهوم إلكترونيا، بقصد التخفف من الانغماس الشديد، وهدر الوقت والجهد في شبكات التواصل الاجتماعي، الذي وصل إلى حد عند بعض وصف بالإدمان المرضي، مخلفا تأثيرات نفسية وعصبية واجتماعية وتربوية، انعكست سلبا على مستوى التحصيل الدراسي والتعليمي بالنسبة إلى فئة الطلاب بمراحلهم الدراسية كافة، من التعليم العام إلى التعليم الجامعي، وانعكست سلبا كذلك على المستوى الإداري والإنتاجي بالنسبة إلى فئة الموظفين والإداريين بدرجاتهم كافة، وهكذا على مستوى العلاقات الزوجية ومؤسسة الأسرة عموما التي تضررت كثيرا في هذا الشأن.
ولشدة حساسية هذه الظاهرة وخطورتها، فقد استدعت انتباه المعنيين بالصحة النفسية والصحة الاجتماعية، وكذا المعنيين بالتوجيه التربوي والارشاد الأسري، الذين أطلقوا تحذيرات قوية، وقدموا تنبيهات وارشادات جادة، خصوصا بالنسبة إلى فئة الصغار والشباب والمراهقين، باعتبارهم الأكثر تأثرا والأشد تضررا.
وفي حقل الدراسات الاجتماعية سوف يتنبه الدراسون والباحثون لكثير من الظواهر الاجتماعية التي استجدت وتأثرت بوضعيات التباعد الاجتماعي، الذي مثل نمطا اجتماعيا طارئا وجديدا، بات بالإمكان دراسته واختباره إلى جانب الأنماط الاجتماعية الأخرى، فهو النمط الذي قلب الحياة الاجتماعية للبشر بصورة مفاجئة وسريعة لم تكن في أبدا الحسبان.
هذا النمط الاجتماعي الطارئ والجديد سيظل حاضرا في الحياة الاجتماعية للبشر، لن يتلاشى أو يغيب، متحددا بمفهوم التباعد الاجتماعي وموصوفا بهذا الوصف، كما أنه سيشكل مفهوما له أثره وتأثيره في تطور الدراسات الاجتماعية.
في ضوء هذه الحقائق والمعطيات والخبرات المتنوعة والمتراكمة والسيالة، سوف ينبثق التباعد الاجتماعي بوصفه مفهوما له صفة المفهوم، بنية ودلالة وخبرة في الدراسات المعرفية والاجتماعية.
اضف تعليق