التجربة ليست بمعيار أسبقيتها فقط، وإنما بما تطرحه للنقاش من أبواب مفتوحة للمستقبل، وبما تحمله من مفاهيم قابلة للتعميم وللقياس وللاستنتاج أيضاً، وهنا قد يكون العنوان الأساسي، بحيث يتطابق النتاج الحقيقي لحراك التغيير والمقاربة والأداء مع معطى الواقع، وأن يتجرد من صفة كونه فقط مجرد صدى...
انفض الاستحقاق الديمقراطي مع أول انتخابات تشريعية تشهدها الجزائر منذ إنهاء حكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة... وتصدر حزب جبهة التحرير الوطني نتائج الانتخابات التشريعية التي جرت يوم السبت الماضي بحصوله على 105 مقاعد من بين مقاعد المجلس الشعبي الوطني الـ407. ونقلت وكالة الأنباء الجزائرية "واج" عن رئيس السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات محمد شرفي قوله إن المستقلين فازوا بـ 78 مقعداً لأول مرة في التاريخ البرلماني للبلاد فيما حصلت "حركة مجتمع السلم" على 64 مقعداً. وأضاف شرفي إن "التجمع الوطني الديمقراطي" حصد 57 مقعداً كما نال "حزب المستقبل" 48 مقعداً و"حركة البناء الوطني" أربعين مقعداً وسجل حضور أحزاب معتمدة حديثا لقبة البرلمان كصوت الشعب الذي نال ثلاثة مقاعد فيما غابت أحزاب أخرى كتجمع أمل الجزائر.
والحقيقة، فإن مجرد إجراء الانتخابات ـ أي انتخابات! ـ في بلد يشهد حراكا أسبوعيا ودعوات لمقاطعة الانتخابات وإعلام خارجي يشوه الحقائق، فكيف إذا أضيف إلى ذلك أنها سجّلت شفافية لا نظير لها من حيث مطابقة الأرقام للواقع، بخاصة فيما يتعلّق بأعداد الناخبين ونسبة الانتخاب، وهو ما أجمع المراقبون عليه دون استثناء. صحيح أن هناك من خرج ممتعضاً ومتأففاً، ولكن الامتعاض والتأفف شيء والتشكيك شيء مختلف تماماً... فقد تحدّث كثيرون عن المال الانتخابي وعن القوائم المرتبة مسبقاً، واستنكف آخرون عن المشاركة لأنهم "افتقدوا بين المرشحين من يحظى بقناعاتهم ومن يعبّر عن تطلعاتهم"، ولكن الانتخابات جرت وفق الجدول الزمني المحدّد لها، في النهاية، وبنسبة مشاركة لا يستهان بها رغم أنها تقلّ عمّا هو معتاد ومنشود وطنياً في مثل هذه الاستحقاق.
وعلى هذا الأساس تبدو قراءة ما بين السطور واجبة وضرورة استراتيجية بكل دقائقها وتفاصيلها وأفعالها وردات فعلها... فالحديث عن المؤسسة التشريعية يستأثر بكثير من التفاصيل، التي تبدو في بعض جزئياتها سابقة للعناوين، وفي أحيان أخرى تستحوذ على الاهتمام، الذي يعيد ترتيب بعض من الأولويات، ويرسم إلى حدّ بعيد إحداثيات التقاطع التي تفرض إيقاعها على محددات وخصائص المرحلة، لكن هذا كله لم يلغ، ولا يمكن أن يلغي، ما يجري تداوله من عناوين عريضة للمرحلة بكل حساباتها والمعادلات الناشئة بأبعادها المختلفة، وتحديداً ما يتعلق منها بتحديات بدت بالنسبة للجزائريين، أنها المسألة التي تعتبر المعيار وأحياناً المقياس لكل ما يمكن التحرك من خلاله، وما هو مطلوب فعلياً للمرحلة القادمة بما تعنيه من حيث المبدأ ـ على الأقل - باعتبار أننا على عتبة مرحلة تشريعية جديدة في عهد جديد، يحمل في طياته ما يؤشر إلى الحسم في قضايا كثيرة، والأمر متوقف على ما يجري تداوله من خيارات.
إن استنهاض القدرات والإمكانيات المجتمعية، وإدراك المجتمع الجزائري لذاته كقوى ومجموعات مصالح متنافسة، وليس متقاتلة تتبادل الإلغاء، هو وحده الذي يوفّر الدينامية الضرورية لضمان التجديد المجتمعي والحفاظ على البقاء وسط استشراس وتكالب المشاريع الغربية الجديدة التي باتت تحدق بالجزائر من كل اتجاه. لقد آن الأوان في ظل الظروف الصعبة التي تعيشها الجزائر، على أن يكون مجلس الشعب الوطني الجديد، جسر عبور حقيقي للغد الأفضل بكل ما يحمله من أمنيات جميلة للجزائريين الذين يريدون منه أن يكون سلطة تشريعية بكل ما للكلمة من معنى، تراقب بشدة وتحاسب عندما يستوجب الحساب تحت قبة البرلمان حتى لو وصل الأمر إلى حد طرح حجب الثقة عن الحكومة طالما هي مقصرة بمهامها، فالمواطن الذي أعطى صوته لأعضاء المجلس ملّ من معادلة الخندق الواحد بين الحكومة والبرلمان!
فالقضية لا تتعلق بما تفرضه الاعتبارات التقليدية لوجود المؤسسة التشريعية ودورها ومهامها، التي تنتظر الكثير من التفعيل والكثير من العمل الممنهج على أساس ألا تكتفي بما هو منصوص في النص التشريعي، بل أيضاً بما تعنيه على المستوى الوطني وحدود التفاعل والتكامل مع المؤسسات الأخرى، وهي تشهد تطورات نوعية لا يمكن لأحد أن يتجاهلها. وإذا كان التغيير في رأس هرم المؤسسة التشريعية يضع محددات واضحة من جهة، ويفتح الباب من أوسع أبوابه لكثير من الاتجاهات والقراءات المتباينة من جهة ثانية، فإنه في المحصلة النهائية يقود إلى النتيجة ذاتها التي تعلن عن الهوية الجزائرية وعن الحضور الجزائري، وعن الدور الجزائري وما يعنيه...
هنا قد تبدو التحديات أكثر وضوحاً على الأقل من اتجاهين، الأول: بما تمثله المرحلة وتداعياتها وما تفرضه من سياقات، والثاني: بالرغبة في التغيير، وأن ينسحب تلقائياً على تغيير في الأداء والمقاربة والمعالجة والدور، وفي بعضه أن يأخذ كامل مساحة ذلك الدور وأن يكون في ذروة الأداء، لتكون المقاربة من الوضوح الذي لم تصل إليه من قبل، بحيث يكون المعطى معبّراً عن ذاته، كما هو معبّر عن الهوامش المضافة إليه بحكم الضرورة حيناً والتطورات حيناً آخر.
لذلك فالتجربة ليست بمعيار أسبقيتها فقط، وإنما بما تطرحه للنقاش من أبواب مفتوحة للمستقبل، وبما تحمله من مفاهيم قابلة للتعميم وللقياس وللاستنتاج أيضاً، وهنا قد يكون العنوان الأساسي، بحيث يتطابق النتاج الحقيقي لحراك التغيير والمقاربة والأداء مع معطى الواقع، وأن يتجرد من صفة كونه فقط مجرد صدى، بل حالة تفاعلية تضيف هنا وتحذف هناك، تعدّل حيناً وتجسد ما هو مطلوب في كل الأحايين.
بهذا المعيار نعتقد بل نجزم أن السياق السياسي الموازي الذي يستحضر أوراقه بقوة في أي حدث جزائري يضيف إلى المشهد ما يعوزه وما يشعر بغياب بتأييد إفادته أو روايته لما هو قادم، حيث تعود التجربة لتكون حاضرة أيضاً في آليات التظهير المطلوبة لمواجهة التحديات ولمعالجة أوجه القصور ولسد الثغرات، ومن ثم في مرحلة غير منفصلة ولا متروكة خارج حالة التفاعل إلى الإضافة النوعية لتتحول تراكمات ما نتج من كمّي متنوع إلى نوعي متميز.
الثابت والمؤكد لدينا، أنّ الجزائريين باتوا اليوم على يقين بأن قاعدة الوعي الوطني في نفوس جماهير الشعب أصيلة، لكنها بحاجة إلى مزيد من الرعاية والدعاية والتعزيز، وقد استهدفت قاعدة الوعي الوطني والجماهيري هذه، وكاد الاستهداف يحقّق بعض مراميه، وكان هذا الاستهداف قبل، بل مقدمة، لاستهداف بعض مؤسسات الدولة الوطنية براياتها، ورموزها، وقيمها وثوابتها.
فقد استُهدفت الجماهير بضراوة جراء التضليل والضغوطات...، ولا تزال تُستهدف، كما استُهدفت الدولة ومؤسساتها مادياً ومعنوياً، وهذا ما يحتاج اليوم إلى تدقيق، ومراجعة، وأدوات وأساليب عمل جديدة، لإعادة إنتاج، وبناء مستلزمات الرهان على قاعدة الوعي الوطني هذه، ومن أهمها الترحيب بالآخر وتوعيته، وتأهيله لإدماجه بفاعلية في هذه القاعدة، فمن يختلف معك كشخص، أو ككرسي، لا يعني خلافه معك أنك وطني أكثر منه، بل إن هذا الخلاف يرتب عليك مسؤوليات ليست إقصائية، فالوطنية كالإيمان يُحكم عليها بالوجدان وبالممارسة... هذا جميعه يرتب على الأحزاب الوطنية رفض استمرار التعرّض لموجات متتابعة من غزو: الانتهازي ـ الأخواني ـ المتعصب ـ رأس المال ـ المعايير المزدوجة ـ رافعي الشعارات: أسمع كلامك... وأرى أفعالك؟ هذه بعض ملامح الوعي الوطني الواعدة التي يجب أن يعززها تشكيل مجلس الشعب الوطني الجزائري (مجلس النواب في البرلمان).
خلاصة الكلام: ليس ما أكتبه هنا دفاعاً عن الديمقراطية الانتخابية في الجزائر، وإنما دفاع عن المنطقة والواقعية في التفكير وبخاصة المنهج المقارن، ورفضاً للنمطية (الستيريوتايب) وازدواجية معايير التقييم... وما يهمني هنا أن ''شكلانية الديمقراطية'' في الجزائر لا تزيد عن شكلانية الديمقراطية في فرنسا، ما يعني أن مصداقية الأولى لا تقل عن مصداقية الثانية. المنهج المقارن يمنع من استخدام المعايير المزدوجة في التقييم. لا يمكن أن نستخدم في الجزائر معايير المدينة الفاضلة وفي فرنسا معايير الواقعية السياسية... صحيح أن الديمقراطية الجزائرية لا تشذ عن مجمل القواعد الفكرية للنظام السياسي، لكن هل الديمقراطية الفرنسية تشذ عن القواعد الفكرية للنظام السياسي الأمريكي؟ بأي حق يكون ''في فرنسا ديمقراطية وفي الجزائر استبداد''؟
اضف تعليق