q
في بعض الأحيان تتوافر قيمة الغرابة في خبر ما، لكن محرر الأخبار يمتنع عن نشره لأنه يتعارض مع أخلاقيات مهنة الإعلام التي تمنع انتهاك خصوصية الآخرين، حتى لا تتحول القضايا الشخصية إلى وسيلة لكسب الانتشار على حساب المعايير المهنية، ذلك هو الحد الفاصل بين التغطية الإعلامية المهنية والصحافة الصفراء...

عام 1892 رفض رئيس جامعة كولومبيا "سيث لو" منحة مالية من الصحفي الشهير جوزيف بوليتزر قدرها مليوني دولار لتأسيس اول كلية للصحافة في الجامعة تحمل اسم بوليتزر فضلا عن التأسيس لجائزة تحمل اسمه أيضا، ورغم الرفض بقي بوليتزر مصراً على الامر وكتب المنحة في وصيته، وفعلا تم قبولها بعد تغير رئيس الجامعة، ومن هذه الأموال تم تأسيس كلية الصحافة عام 1912، وجوائز بوليتزر التي قدمت للمرة الأولى في عام 1917، وبلغ عددها 21 جائزة، منها 14 جائزة للصحافة والباقي لأعمال خاصة بالإنجاز الأدبي والإبداع والموسيقي. الان تعتبر جائزة بوليتزر من أفضل الجوائزر العالمية في مجال الصحافة.

وأكثر الصحف التي حازت الجائزة هي نيويورك تايمز و«وول ستريت» و«واشنطن بوست».

لكن هل تعلمون ماذا قال رئيس الجامعة حينما رفض عرض بوليتزر قال: "لست منبهرا بالسمعة السيئة له، وانعدام المبادئ في عمله الصحافي".

فمن هو بوليتزر ذلك الصحافي المكروه من رئيس جامعة كولومبيا والذي تتهافت عليه كبريات الصحف الان لنيل جائزته؟

بوليتزر هو مهاجر مجري وصل إلى الولايات المتحدة في العام 1864، واستقر في مدينة سانت لويس بولاية ميسوري، عمل في عدد من الوظائف كسائق للبغال ونادل وحامل حقائب. وفي عمر الخامسة عشرة أصبح بوليتزر ناشراً، ونجح بإبرام عدد من الصفقات الاستثمارية والاستحواذ على مؤسسات صحافية، تغيرت حياة ذلك المهاجر اليهودي الذي عرف باسم "جوي اليهودي"، بعد أن أصبح مالكاً لصحيفة نيويورك وورلد.

نجح بوليتزر في زيادة عدد النسخ المطبوعة إلى أكثر من 600 ألف نسخة، لتكون صحيفته أكبر صحيفة في أميركا.

شهرته هذه لم تأتي من فراغ فقد استطاع جذب الرسام الشهير "ريتشارد بلاتون" الذي ابتدع له أول شخصية كاركاتيرية جماهيرية في الصحافة الأمريكية باسم "الولد الأصفر" اذناه كبيرتها ورأسه كذلك ابتسامته عريضة ولباسه فضفاض ولونه اصفر وبسببه أطلق لقب الصحافة الصفراء على هذا النوع من الصحافة.

في هذه الفترة وبعد نجاحات بوليتزر دارت رحى الصراع بينه وبين ووليم راندولف هيرست صاحب صحيفة "نيويورك جورنال"، واشتدت حدة التنافس بينهما وقد استخدم كل منهما طرق الإثارة والدعايات الكاذبة.

في هذه المعركة الحامية دعا هيرست أهم محرري جريدة جوزيف بوليتزر إلى الغداء، وبمجرد أن جلس، أسقط كمية كبيرة من النقود على الطاولة، وقام بتوظيفهم لديه ومن بينهم رسام بوليتزر الشهير الذي ابتكر شخصية الولد الأصفر، بهذه الطريقة، أصاب هيرست عصفورين بحجر واحد، فقد حصل على فريق ممتاز وأزاح منافسه الرئيسي بوليتزر.

لم يهتم هيرست بالمراسلين، إذ عمل على توظيف صبايا عشرينيات وقام بنشرهن في الدوائر الحكومية والوكالات بغرض إقامة علاقات حميمة مع موظفيها، وبهذه الطريقة كان هيرست يسرق الأخبار السرية والعاجلة ويقوم بنشرها.

من ابرز مواصفات الصحافة الصفراء التي أسس لها هيرس وبوليتزر:

- لا تهتم بالمصادر ولا الحقوق الفكرية (كوبي بيست)

- تعتمد الاخبار القصيرة

- رخيصة الثمن

- موضوعاتها تهدف للإثارة من اجل تحقيق الربح المادي والسياسي

- يتلاشى فيها الحد الفاصل بين الأخبار العامة وانتهاك خصوصية الاخرين

- تتخذ من المعلومات وسيلة للابتزاز السياسي والمالي

- مستعدة لانتهاك خصوصية الاخرين من اجل تحقيق الاثارة.

المنافسة على سوق الصحافة القائمة على الفضائح والابتزاز المالي ونشر الاخبار المثير لم تنتهي، فبينما كسب هيرست المرحلة الأولى من حرب الاستحواز على الاخبار الصفراء، كسب بوليتزر الحرب بكاملها وصار اسمه يذاع سنويا على اهم جائزة للصحافة المهنية في العالم.

تزداد الاثارة فتكتب صحيفة الواشنطن بوست تقريرا عن مساوئ الصحافة الصفراء وقالت فيه: المؤكد أنه عندما تتحول صورة شخص ما إلى سلعة فإن فكرة الخصوصية والذوق العام تتحول إلى جزء من جهود التسويق، لكن هذه الصحيفة التي ما زالت تعادي الصحافة الصفراء هي من أكثر الصحف فوزا بجائزة بوليتزر احد ابرز المؤسسين للصحافة الصفراء.

هكذا هي تناقضات الصحافة ان يتربع سيء السمعة على أفضل صحف العالم، ان تكتب الصحف المهنية ضد الصحافة الصفراء لكنها تتفاخر باستلام جوائزها، وهذا ما دفع رئيس جامعة كولومبيا لرفض العرض المالي من احد اهم اقطاب الصحافة الصفراء بتأسيس كلية للصحافة باسم رائد الصحافة الصفراء جوزيف بوليتزر وقال بحقه: "لست منبهرا بالسمعة السيئة له، وانعدام المبادئ في عمله الصحافي".

اذا كانت هذه أساليب الصحافة الصفراء فما هي معايير النشر في الصحافة المهنية الاحترافية؟

لا يمكن لوسائل الإعلام حصر جميع الأخبار وتحريرها ونشرها يوميًا، لذلك تعتمد على مجموعة من المعايير التي على أساسها يتم اختيار حدث معين وتحويله إلى خبر، واستبعاد مجموعة من الأحداث التي لا تتناسب والمعايير الموجودة منذ عدة عقود وساعدت على تطويرها ممارسات مهنية احترافية ودراسات أكاديمية معمقة.

أهم المعايير في النشر أو ما يطلق عليه بالقيم الأخبارية هي:

1. الجدة أو الحالية، أي أن يكون الخبر جديدًا، بل آنيًا يمكن نقله لحظة وقوع الحدث.

2. القرب، فالحدث الذي يقع في مدينة صينية يختلف في عن حدث يقع في بغداد بالنسبة لمواطن عراقي، لأن تأثير الحدث في بغداد أكثر من تأثير الحدث في الصين.

3. الضخامة، بحدث اصابة مواطن بحروق بسيطة في احد الأفران، يختلف عن مقتل 20 مواطنًا بسبب اعتداء ارهابي، ما يعني نقل الحدث الثاني وعدم نقل الحدث الأول.

4. نطاق التأثير، فاعلان الحكومة عن زيادة في المخصصات المالية لموظفي شركة صغيرة يختلف عن اعلانها زيادة في رواتب المعلمين، أو اعلانها زيادة عامة في مرتبات الموظفين بجميع الوزارات، بالتأكيد ينقل الخبر الثاني مع اجراء تغطية إعلامية موسعة تحلل الخبر وأبعاده.

5. الصراع، وهذه ميزة موجودة حتى في الأفلام، كلما زاد الصراع زاد التشويق، وينطبق الأمر على الأخبار، فالصراع مادة جاذبة لوسائل الإعلام، فالأخبار عن سوريا قبل 2011 تخلف في حجمها عن الأخبار 2015، والسبب هو تزايد حدة الصراع في هذا البلد.

6. الاهتمامات الإنسانية، فالإنسان عاطفي ويتفاعل مع الإحداث التي تتميز بجانب إنساني، على سبيل المثال تعاطف العالم أجمع مع قصة وفاة الأميركي جورج فلويد في اميركا وقصة ليان الكردي الذي غرق بالبحر وهو هارب من الحرب السورية، لان هذا النوع من الاحداث محمل بالعواطف الانسانية.

7. الغرابة والطرافة، وهي قيمة اخبارية يطلبها الجمهور ويتابعها، لذلك تعمل وسائل الإعلام على اشباع هذه الحاجة، عبر رصد الظواهر الغريبة والطريفة، لكن هذا النوع يخضع لمجموعة محاذير حتى لا يقع محرر الأخبار في فخ انتهاك خصوصية الآخرين، لا سيما وأن الخصوصية من أهم موارد هذا النوع من الأخبار.

أما إذا احتوى الخبر على أكثر من قيمة أخبارية ستكون له الأولوية في النشر، ثم اذا استطاع المحرر تغطية جميع الأخبار التي تحتل المكانة الأولى ينتقل لما بعدها ثم يبحث بعد ذلك عن الأخبار الغريبة لتلطيف جو الأخبار الجدي.

في بعض الأحيان تتوافر قيمة الغرابة في خبر ما، لكن محرر الأخبار يمتنع عن نشره لأنه يتعارض مع أخلاقيات مهنة الإعلام التي تمنع انتهاك خصوصية الآخرين، حتى لا تتحول القضايا الشخصية إلى وسيلة لكسب الانتشار على حساب المعايير المهنية.

ذلك هو الحد الفاصل بين التغطية الإعلامية المهنية والصحافة الصفراء القائمة على الفضائح وانتهاك خصوصيات الناس.

اضف تعليق