تكمن الخطورة الأكبر في أن التضليل غالباً ما يُصاغ بطريقة تبدو عقلانية أو مدعومة بـ"أدلة بصرية"، ما يجعل اكتشافه أكثر صعوبة لمن يفتقر إلى الوعي النقدي أو أدوات التحقق. لمواجهة هذا الواقع، لا يكفي الاعتماد على المؤسسات الإعلامية وحدها، بل لا بد من تعزيز الثقافة الإعلامية النقدية لدى الأفراد...

كيف نثق بما نراه ونسمعه في زمن تنقلب فيه الحقائق إلى أدوات لتوجيه العقول؟ في عالم تتدفق فيه الأخبار لحظة بلحظة، أصبح من الصعب التمييز بين الحقيقة والادعاء، وبين المعلومة والمحتوى المُوجَّه. هنا تبرز ظاهرة "التضليل الإعلامي" كواحدة من أخطر أدوات التأثير على الوعي العام، لا سيما في أوقات الأزمات والصراعات، حيث يتحول الإعلام من وسيلة لنقل الحقيقة إلى منصة لتشكيلها وفقاً لأجندات محددة.

لم يعد الإعلام مجرد ناقل للمعلومات، بل أصبح لاعباً رئيسياً في توجيه الرأي العام وصناعة المواقف السياسية والاجتماعية.

يتخذ التضليل الإعلامي أشكالاً متعددة، منها تقديم أخبار مزيفة، أو عرض محتوى بصري محرَّف، أو استخدام عناوين جذابة لا تعكس حقيقة المحتوى. كما يشمل انتقاء المعلومات وتقديمها بشكل يضلل الجمهور، ليس بالكذب الصريح، بل عبر الإخفاء المتعمد أو المبالغة المقصودة.

في ظل هذا الواقع، تتلقى فئة واسعة من الناس أخباراً مشوّهة تؤثر على تصوراتهم وسلوكهم، وتساهم في خلق بيئة مشحونة بالتوتر وسوء الفهم.

تلعب التكنولوجيا دوراً مضاعفاً في انتشار التضليل؛ إذ تتيح المنصات الرقمية إمكانية مشاركة المحتوى على نطاق واسع وبسرعة مذهلة.

تغذّي خوارزميات هذه المنصات الميل إلى الإثارة والانفعال، ما يمنح المنشورات المضلِّلة انتشاراً أوسع من الحقائق الدقيقة.

إضافة إلى ذلك، يستخدم بعض الفاعلين السياسيين هذه الوسائل لتوجيه الرأي العام، إما بتلميع صورتهم أو بتشويه خصومهم.

وهذا ما يجعل التضليل الإعلامي أداة ناعمة للسيطرة والتأثير، لا تقلّ خطراً عن أدوات القمع الصلبة.

من جهة أخرى، يؤدي التضليل الإعلامي إلى تآكل الثقة بين المواطن والمؤسسات الإعلامية، كما يضعف قدرة المجتمعات على التعامل مع الأزمات.

ففي أوقات مثل جائحة كورونا أو الأزمات الإقليمية، ساهمت الأخبار الزائفة في تأجيج الفوضى، ونشر الرعب، وإثارة الانقسام.

أما في الفضاء السياسي، فقد أظهرت الانتخابات في عدد من الدول حجم التأثير الذي يمكن أن تُحدثه الحملات الإعلامية المضلِّلة على نتائج التصويت وتوجهات الناخبين.

ولا يقتصر أثر التضليل على السياسة فحسب، بل يمتد إلى القيم والمفاهيم الاجتماعية، حيث يتم ترويج أنماط سلوك مشوّهة أو معتقدات زائفة، خاصة بين الفئات الشابة التي تعتمد على وسائل التواصل كمصدر رئيسي للمعلومة.

وتكمن الخطورة الأكبر في أن التضليل غالباً ما يُصاغ بطريقة تبدو عقلانية أو مدعومة بـ"أدلة بصرية"، ما يجعل اكتشافه أكثر صعوبة لمن يفتقر إلى الوعي النقدي أو أدوات التحقق.

لمواجهة هذا الواقع، لا يكفي الاعتماد على المؤسسات الإعلامية وحدها، بل لا بد من تعزيز الثقافة الإعلامية النقدية لدى الأفراد، بدءاً من المناهج التعليمية، مروراً بالبرامج التوعوية العامة.

كما يجب أن تتبنى منصات التواصل سياسات أكثر شفافية في تصنيف المحتوى المشبوه، وتفعيل أدوات تحقق تُدار من جهات مستقلة.

ويقع على الأفراد مسؤولية شخصية بعدم التسرع في مشاركة أي محتوى، وبالسؤال الدائم: ما مصدر هذه المعلومة؟ وهل يمكن التحقق منها؟

في النهاية، لا يمكن منع التضليل بالكامل، لكن يمكن تحجيم تأثيره ببناء مجتمع يملك القدرة على التمييز، والتحليل، والاختيار الواعي.

اضف تعليق