إن مستقبل الصحافة لن يُصنع بقرار تقني، بل بموقف إنساني، فالمشكلة ليست في تطوّر الذكاء الاصطناعي، بل في استسلامنا له دون مساءلة، لن يُهدد الذكاء الاصطناعي الصحافة من الخارج، بل من الداخل، عندما نسمح له أن يُحدّد أولوياتنا، ويختزل مهامنا، ويُعيد تشكيل وعينا بصمت...

هل ما نقرأه اليوم في الأخبار ناتج عن بحث صحفي حقيقي، أم محتوى تولّد عبر خوارزميات تعلّمت أن تكتب ما نحب أن نقرأه؟ هل أصبح الذكاء الاصطناعي صانعًا للرأي العام، أم مجرد أداة في خدمته؟ ومن الذي يقرّر ما يجب أن نراه ونسمعه؟

هذه الأسئلة لم تعد خيالية أو فلسفية، بل تحوّلت إلى ضرورة في عصر بات فيه الذكاء الاصطناعي جزءًا أساسيًا من عمليات التحرير والتحليل والتوزيع الإعلامي.

لم تعد المؤسسات الإعلامية تعتمد فقط على المحررين والصحفيين، بل باتت تستعين بأنظمة ذكية ترصد تفضيلات الجمهور، وتقترح العناوين، وتعيد ترتيب الأولويات التحريرية بناءً على ما تراه الخوارزميات أكثر جاذبية وتفاعلية. وهنا يتغيّر دور الإعلام، ويتحوّل من كونه ناقلًا للواقع إلى صانع له.

في هذا الواقع الجديد، تغيّر دور الصحفي كذلك. لم يعد مقتصرًا على البحث والتحقق والكتابة، بل يُطلب منه أن يعمل جنبًا إلى جنب مع الآلة، وأن يستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي في إنتاج الأخبار، وتحليل البيانات، وتحسين الوصول إلى الجمهور.

ولا شك أن الذكاء الاصطناعي يوفّر كفاءة عالية، وسرعة مذهلة، وقدرة على توليد محتوى ضخم في وقت قياسي. لكنه يفتقر إلى الوعي، والخلفية الثقافية، والإحساس الإنساني الذي يتيح له طرح السؤال المختلف، أو التقاط العمق في المشهد الإنساني، أو إدراك التحيّزات التي قد تنعكس في البيانات التي يتعلّم منها.

وفي ظل هذا الاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي، تبرز إشكالية خطيرة: أن يُنتج المحتوى بما يتوافق مع رغبات الجمهور فقط، لا مع احتياجاته المعرفية. فالأنظمة الذكية تتعلّم من تفاعلاتنا، وتُظهر لنا ما يشبهنا، وتُقصي ما لا نفضّله. وهكذا نجد أنفسنا في "فقاعة معلوماتية" تُرضينا ولا تُثير تساؤلاتنا، تشبهنا ولا تُواجهنا، تؤكّد أفكارنا بدلاً من أن توسّع رؤيتنا.

نحن إذًا لا نستهلك إعلامًا حرًا بالمعنى التقليدي، بل إعلامًا مفلترًا ومدفوعًا بخوارزميات تقرّر ما هو "الأهم" بناءً على بياناتنا، لا على معايير الصحافة.

وهذا يعيدنا إلى السؤال الجوهري: من يقود الرأي العام اليوم؟ أهو الصحفي، أم النظام الذكي الذي يقرّر أي قصة تُدفع إلى أعلى الصفحة؟

ما نحتاجه في هذا الواقع ليس مجرد أدوات أكثر تطورًا، بل وعيًا مهنيًا وأخلاقيًا جديدًا. نحتاج إلى صحفيين يُحسنون استخدام الذكاء الاصطناعي دون أن يفقدوا بوصلتهم، ويدركون أنهم ليسوا مجرد مشغّلين لتقنيات، بل حرّاس للمعنى والحقيقة.

كما نحتاج إلى مؤسسات إعلامية تُقدّم القيم التحريرية على مقاييس التفاعل والأرقام، وتفكّر في المعلومة بوصفها مسؤولية، لا سلعة.

وأهم من ذلك، نحتاج إلى جمهور لا يتعامل مع الأخبار كمجرد محتوى ترفيهي، بل كمسؤولية ثقافية تستدعي الانتباه، والسؤال، والمساءلة.

إن مستقبل الصحافة لن يُصنع بقرار تقني، بل بموقف إنساني.

فالمشكلة ليست في تطوّر الذكاء الاصطناعي، بل في استسلامنا له دون مساءلة.

لن يُهدد الذكاء الاصطناعي الصحافة من الخارج، بل من الداخل، عندما نسمح له أن يُحدّد أولوياتنا، ويختزل مهامنا، ويُعيد تشكيل وعينا بصمت.

الصحفي الذي ينجو في هذا العصر، ليس الأسرع ولا الأكثر تفاعلاً، بل الأكثر وعيًا وقدرة على حماية الحقيقة من الانسياب الآلي.

هو من يُدرك أن المهنة ليست مجرد نقل خبر، بل بناء وعي.

فالذكاء الاصطناعي أداة قوية، لكن من يحدّد كيف تُستخدم... هو نحن.

اضف تعليق