ما الفائدة من المشاركة هذا هو السؤال المفخخ، وسبب تفخيخه ناتج من عدة عوامل، أولها النفخ الدائم في الانتخابات واعتبارها الطريق الوحيد الذي سوف يوصلنا الى ساحة التحرر من الواقع الفوضوي، وهذه اكذوبة يروج لها الساسة من أجل دفع الناس للمشاركة واكتساب الشرعية، ثانيها...
كثيراً ما يتم ربط تغيير الواقع العراقي بالانتخابات، سواء من قبل جهات سياسية فاعلة، أو من قبل الفئات الشعبية المختلفة، فالصندوق الانتخابي هو الطريق السليم للتغيير كما هو شائع في بعض الأدبيات السياسية، في الضفة الأخرى نجد الرؤية المعاكسة، هنا فريق يرى أن الانتخابات هي السفينة الوهمية التي تعبر فيها الكتل السياسية إلى شاطئ الشرعية، لكنها شرعية تأتي بالتزوير والتلاعب واستخدام المال السياسي، وأمور أخرى تتعارض مع المبدأ الأسياسي للانتخابات.
لكن هل الصندوق هو المفتاح الفعلي؟ ولماذا نتساءل أصلًا؟ أليست مفاتيح التغيير الديمقراطي تاتي عبر صناديق الاقتراع؟ وهل هناك شيء مختلف في العراق؟ ولماذا يشكك فريق كبير من العراقيين بقدرة الصندوق الانتخابي على فرز المهنيين وتنصيبهم على رأس السلطة التشريعية التي تختار بدورها السلطة التنفيذية والجهاز الحكومي؟
عند تفكيك حزمة الأسئلة المتشابكة نجد أن صندوق الانتخابات ضعيف وغير قادر على فعل التغيير، فالمفوضية العليا المسؤولة عن اجراء الانتخابات غير مستقلة.
المحاصصة
واتهام غياب الاستقلالية عن المفوضية كلام غرد به رئيس ائتلاف الوطنية اياد علاوي في 27 أيار من عام 2020، وتتشارك معه الجبهة التركمانية في حديث لنائب رئيس الجبهة حسن توران في تصريح له منتصف عام 2020 عندما كانت الحوارات حامية لإعادة هيكلة مكاتب المفوضية في المحافظات.
خمس كتل سياسية يمكن اضافتها إلى معسكر التشكيك باستقلالية المفوضية واتهاماتها الصريحة لها بفقدان الاستقلالية، والكتل كردية في أغلبها وهي: "كتلة التغيير النيابية، كتلة الاتحاد الإسلامي الكردستاني، كتلة الجماعة الإسلامية الكردستانية، كتلة المستقبل النيابية، الكتلة المستقلة النيابية، بالإضافة إلى النائب عن محافظة السليمانية يسرى رجب".
هذه الكتل أعلنت موقفها مبكرًا منتصف عام 2020، وابدت قلقها من عملیة اختیار المدراء العامین ورؤساء الأقسام في فروع ومكاتب المفوضیة العليا للانتخابات، وخاصة في إقلیم کردستان، وسبب القلق نابع من الملاحظات و"المخالفات القانونیة والتدخل الحزبي الواضح، وعدم إتباع المعايير الواجب مراعاتها وخاصة الاستقلالية والکفاءة والنزاھة والحیادیة، بالإضافة إلى إتاحة وحماية مبدأ تکافؤ الفرص".
الحملات الانتخابية ويوم الانتخابات
الحملات الانتخابية في أغلب الأحيان هي عملية تفاوض على مجموعة مشتركات شخصية وليست وطنية بين الناخب والمرشح.
الناخب يملك بطاقة انتخابية تمثل رقمًا بالنسبة للمرشح الذي يريد كسب هذا الرقم أو الصوت الانتخابي أما بشكل مجاني عبر الاستفادة من الولاء السياسي، أو شراء الصوت بطريقة غير شرعية "بالمال أو تقديم الهدايا وخدمات آنية مثل تعبيد الشارع وما شابه ذلك من الدعايات الانتخابية المعروفة".
أي ديمقراطية هذه إذا لم يخضع الناخب والمرشح لمجموعة من المحددات والمعايير الأخلاقية والقانونية التي تمنع تحويل الصوت الانتخابي إلى بضاعة للمزايدة بدون حساب أي نوع من أنواع المسؤولية الأخلاقية تجاه الوطن.
وقد لا يباع الصوت الانتخابي لكنه يذهب للمرشحين الخطأ الذين سوف يقفون بوجه كل عمليات التغيير القادمة، لأن الناخب لم يصل إلى مرحلة فهم العملية الانتخابية ولا نلومه على ذلك كثيرًا فالانتخابات نفسها مشروع مستورد وضعوه عنوة في فم مواطن لا يعرف كيفية هضم هذا الكائن الجديد "الانتخابات"؛ لذلك تجده ينتخب على أساس القرب العشائري والانتماء السياسي حتى وإن كان المرشح لا يملك أي برنامج انتخابي للتغيير، وهو ما يحدث غالبًا.
المحاصصة مرة أخرى
سيطرة الكتل السياسية الرئيسية على المفوضية العليا للانتخابات، وخاصة في مكاتب المحافظات، يحقق لها نوع من التوازن في حالات الفوز وعدد المقاعد كل حسب حجمه السياسي وثقله الشعبي، وربما ثقله العسكري والمالي وعلاقاته الخارجية.
تلك هي المرحلة الأولى من المحاصصة، لتأتي بعدها المرحلة الثانية، محاصصة بين الفائزين وإعادة ترتيب أوراق اللعب من جديد، فهناك من يملك "الفيتو" وحق النقض على كل القرارات حتى وإن لم يكن يملك الأصوات الكافية.
الأحزاب الرئيسية يجب أن تحصل على حصتها من التشكيلة الوزارية ووكلاء الوزراء، والدرجات الخاصة، فتلك تقسيمات يجب أن تجري مع كل انتخابات، تتغير قليلًا لكن من أجل تبديل المواقع بين اللاعبين السياسيين لا أكثر، فالمنصب التنفيذي من درجة مدير عام وما دون يفترض أن تكون مناصب مهنية تخصصية خالصة.. هذا حسب العرف الديمقراطي المهني، لكنها اليوم مناصب سياسية ولا علاقة لها بالتخصص بقدر علاقتها بالتوزيعات الحزبية.
يجب أن لا ننسى دائمًا أن رئيس الجمهورية كردي ورئيس الوزراء شيعي عربي، ورئيس مجلس النواب سني عربي، وما دونهم من المنصاب تقسم بهذه الطريقة لكن تختلف التفاصيل بحسب عدد المناصب وعدد الكتل السياسية المتنافسة.
التدخل الإقليمي والدولي لم نتخلص منه حتى هذه اللحظة، فمسالة التوازنات الإقليمية والدولية في تشكيل الحكومة العراقية مستمرة بغض النظر عن نتيجة الانتخابات، يجب أن ترضى الجمهورية الإسلامية في إيران والولايات المتحدة الأميركية على مرشحي الرئاسات الثلاث، لتكون الحكومة جاهزة للتصويت.
ومهما اختلفت وجهات النظر، لكن لا يمكن لرئيس الوزراء أو رئيس الجمهورية أو رئيس مجلس النواب أن يأتي بدون مباركة من المتحكمين الأكبر في الشأن العراقي "أميركا وإيران".
قد يختلفون في التفاصيل، لكنهم يتفقون في العموميات، ومرشحي الرئاسات في النهاية يكسبون شرعيتهم وقدرتهم على الفعل السياسي واتخاذ القرارات بعد المباركة النهائية من هذه الدول الخارجية، أما شرعية الانتخابات فهي الغلاف الذي توضع فيه الصفقة، ومن المعروف أن الغلاف أكثر جمالية مما يوضع بداخله لا سيما وأننا نتحدث عن بضاعة مستوردة اسمها "الديمقراطية العراقية".
ما الفائدة من المشاركة؟
هذا هو السؤال المفخخ، وسبب تفخيخه ناتج من عدة عوامل:
أولها، النفخ الدائم في الانتخابات واعتبارها الطريق الوحيد الذي سوف يوصلنا الى ساحة التحرر من الواقع الفوضوي، وهذه اكذوبة يروج لها الساسة من أجل دفع الناس للمشاركة واكتساب الشرعية.
ثانيها، قيام بعض الجهات السياسية التي ضمنت الفوز مبكرًا معتمدة على الجمهور المؤدلج الذي يشارك بقوة في الانتخابات، ودعوتها لمقاطعة الانتخابات انها هي دعوة لجمهور الخصوم وليس لجمهورها وبعد تحقيق فوز مريح تقوم هذه الكتل بخلخلة التوازنات السياسية الحالية، وهو ما حدث فعلا عام 2018.
تستفيد الكتل التي تعمل بهذه الطريقة بتعزيز مواقعها في الحوار مع القوى المتحكمة بالشأن العراقي "اميركا وإيران"، لتكسب الشرعية الشكلية ما يؤهلها لتشكيل الحكومة.
لكن كل هذه التناقضات والمشكلات لا تعني أن الانتخابات غير مفيدة، نعم نتفق على أن الانتخابات ليست الطريق المعبد للتغيير السريع واصلاح الواقع السياسي، لكنها ليست صفرية بشكل مطلق وبدون فائدة.
على أقل تقدير نريد من الانتخابات أن تتحول إلى ثقافة عامة، على أمل يتفهم المواطن طبيعتها وتعقيداتها فيحسن الإختيار في المراحل المقبلة ويؤسس لثقافة التغيير عبر الانتخابات لا على أساس الإنتقلابات العسكرية كما كان يحدث سابقًا ويمكن أن يحدث في أي لحظة الآن ونعود الى ظلامية حكم العسكر وعبثيتهم المطلقة.
ما نعنيه من كل هذا أن الانتخابات الحالية وإن جرت بكل هذه الاخفاقات لكن استمرارها يزرع بذرة تجني ثمارها الأجيال اللاحقة، نتفق على أنها لا تحقق التغيير الآني ربما لهذا الجيل بكامله، إلا أنها ستحقق التغيير المستقبلي لو استمرت فتتغير ثقافة الحكم، ومن خلال النقاشات والحوارات وحتى الصراعات السياسية سنكتشف طرقًا أفضل للحكم ونتعود على تبديل الوجوه بالصندوق الانتخابي.
لا نضع آمالًا كبيرة في التغيير الانتخابي الآني وكل من يقول أن التغيير سيكون في الانتخابات المقبلة فهو أما واهم أو كذاب، لكن علينا أيضًا عدم رمي التجربة الانتخابية في سلة المهملات، فهي ما تزال بذرة ولا يمكننا حصاد ثمارها في جيلنا الحالي، علينا أن نتفهم هذه الحقيقة ونستمر بسقيها كل أربع سنوات حتى تكبر وتصبح المظلة التي تعيش الأجيال المقبلة تحتها وتقطف ثمارها.
اضف تعليق