لقد مر العراق بحقب زمنية متعددة تدافعت فيها الأفكار على تباينها، وصيغت بأشكال تمثل الإرادة الحزبية فرسمت خريطة البلد الأيديولوجية، حتى صارت هذه الأفكار الجاهزة تتحكم بالحراك البشري، فالأيديولوجيا تبقى مذخرا للمتفجرات قابع في الرؤوس، تحركها الأطراف المستفيدة كيفما تشاء ومتى ترى الفرصة مواتية لتحقيق الهدف...
يتوعد الجمهور العراقي الطبقة السياسية بأنه سيقتلع جذورها بالعملية الانتخابية القادمة وما يعصي عليهم هو معرفة سبل التخلص من الأفكار التي رسختها أحزاب السلطة على مدى ثمان عشر سنة عقبت تغيير النظام.
اذ قامت تلك النخب الحاكمة بترسيخ أيديولوجيات يصعب التخلص منها في وقت قياسي، فعملت على نشرها بما يحتم على المجتمع تقبلها سواء جملة وتفصيلا او بصورة مجزئة، مع استمرار المناداة بهذا الاتجاه وصولا لمنطقة واسعة من مناطق التأثير على الافراد.
وقد يصادفنا أحد القراء لم يطلع بصورة دقيقة على تعريف الأيديولوجية، فهي "مجموعة القيم والأفكار التي تتبناها جماعة ما، فتؤثر في فكرها وتجعلها ترى الأشياء تبعًا لمنطقها هي لا منطق الأشياء؛ فهي معرفة وهميّة، غرضها إنجاز فعل اجتماعي يحقق مصلحة تلك الأفكار والقيم.
الأحزاب السياسية التي نشطت في العراق بعد العام 2003 جاءت محملة بأفكار كانت الجماهير تراها أفكار إيجابية هدفها بناء دولة المؤسسات التي يحلم ان يراها كل فرد عراقي عانى من قسوة الأنظمة السابقة، وبطبيعة الحال فان الأحزاب استفادت من هذه الرؤى بتغذية الجماهير بالروح الحماسية والتأييد المستمر لها.
حتى أصبحت الأفكار السلبية التي تبثها الأحزاب جزء لا يتجزأ من التغذية اليومية، ويقول الكاتب جيرالد سينكلير، "إن الأفكار السلبية تعتبر جزءا من حياتنا، لكن يجب ألا ندعها تسيطر على تفكيرنا وتعكر مزاجنا، فنحن نقضي وقتا طويلا في التفكير بطريقة سلبية حول حياتنا ومستقبلنا أكثر مما ينبغي، مما يجعل مسألة تخليص أنفسنا من هذه السلبية بالغ الأهمية".
ويضيف سينكلير في تقرير نشره له موقع "أوارنس أكت" الأميركي، أننا عندما نفكر بطريقة سلبية فنحن نهيئ أنفسنا للفشل، وكلما دربنا عقولنا أكثر على التفكير بطريقة إيجابية كانت النتائج أفضل".
وهو ما جعل بعض ممارسي العمل السياسي السلبي يغيب عن ذهنهم التركة الثقيلة التي دفع ثمنها المواطن وليس غيره، وأصبح يبحث عن بديل يخلصه من الأيديولوجيات المناهضة لحرية الافراد والمتحكمة بالرأي العام الداخلي والخارجي، وتصدير الأفكار الجيدة المختارة او المقتطعة على انها هي السائدة في البلاد.
التخبط في النظام الإداري الذي منيت به المؤسسات الحكومية في العراق ولد مجتمع يتقبل أي أخطاء تصدر من الحاكمين، بمثابة أمر واقع لا يجوز القفز عليه، ولا يمكن إلا التعامل معه كواقع موضوعي، وهنا يتطلب قيام الجمهور البحث عن استراتيجية ذكية للخروج من هذا الواقع المرير بأقل الأضرار المحتملة.
وتعود ظاهرة ترسيخ الأيديولوجية وتوظيفها في العمل السياسي الى القرن العشرين، وتجسدت في الفكر الماركسي وهو الذي أنتج قوة سياسية أيديولوجية، الشيوعية القائمة على أسس اقتصادية في زمن التحولات الكبيرة التي شهدها العالم بعد انطلاق الثورة الصناعية، وبعد قيام الاتحاد السوفيتي كأول نظام سياسي شيوعي، اتسع مدى ذلك الفكر نظرياً وسياسياً وبعد الحرب العالمية الثانية، فرضه ستالين نظاماً سياسياً على عدد من دول أوروبا الشرقية.
اما الصين في كل تحولاتها، قدمت نموذجاً جديداً للأيديولوجيا في تجليات عدة، اذ شن ماو حربا بسلاحه وأفكاره لتحرير الصين وتوحيدها، لكنه ضحى بالملايين من البشر الذين ماتوا جوعاً وسخرة عنيفة تحت سوط أفكاره التي لا تقبل النقاش من خارج الحزب أو من داخله.
بعد ذلك وتحديدا في سنة 1987 شهدت الصين تحولاً كبيراً وحاسماً، حيث انطلقت مسيرة إنهاء الأيديولوجيا المقدسة، وبدأت مرحلة البناء والتحديث ولم يبق من الحزب الشيوعي إلا قوته الأمنية والإدارية المسخرة للتطوير الاقتصادي.
ومن عوامل عدم التخلص من الأحزاب السياسية وافكارها الظلامية، هو الاستفادة من المحاصصة بمفوضية الانتخابات التي لم يبقى من استقلاليتها سوى الاسم، اذ افضت هذه المحاصصة الى الحديث عن سرقة ما يقرب من أربعة ملايين بطاقة ناخب، فلو صحّت هذه الانباء، فهي عبارة عن كارثة أولية بحق الانتخابات المقبلة، وربما لم تكن الأخيرة، فهنالك جملة من الشكوك تحوم حول الأجهزة المعدة لغرض التصويت وما يصيبها من خلل اثناء عملية الاقتراع.
وتثير هذه المحاور المخاوف لدى المواطنين المقبلين على عملية انتخابية يحيط بها الشك، ومحاولات الالتفاف عليها من قبل الأحزاب المتعددة، لكن ما يطمئن النفس هو ان جزء كبير من القوى السياسية انهارت افكارها كقصر من الرمل على شاطئ تضربه الأمواج، وأصبحت خاوية من الأيديولوجيا التي كانت أداة للتحريك ثم صارت عاملاً للجمود.
ولم ينتج عن هذه الأحزاب سوى التفكير المعطوب او بتعبير أكثر دقة تفكير خال من رؤية تمزج بين الاقناع وتحقيق الاستمرارية في العمل الحزبي الذي ينظم الحياة العامة، ويحافظ على الجمهور المؤيد للأفكار المختلفة التي تريد المنظمات السياسية اشاعتها في الشارع.
يمكن ان نوصف الحالة التي يعيشها المجتمع العراقي هي حالة أقرب الى اليأس في الخلاص من الأفكار التي اُشيعت قرابة العقدين من الزمن، فعلى الرغم من تغيير الشخوص واحلالها بجديدة، تبقى المشكلة قائمة، طالما العنصر الجدير أخذ رمز المرور الى الحكومة من كبار الحزب المنتمي اليه، وبالمحصلة النهائية تصبح عملية الانتخاب عبارة عن تناول لنفس الأفكار بأوعية مختلفة.
لقد مر العراق بحقب زمنية متعددة تدافعت فيها الأفكار على تباينها، وصيغت بأشكال تمثل الإرادة الحزبية فرسمت خريطة البلد الأيديولوجية، حتى صارت هذه الأفكار الجاهزة تتحكم بالحراك البشري، فالأيديولوجيا تبقى مذخرا للمتفجرات قابع في الرؤوس، تحركها الأطراف المستفيدة كيفما تشاء ومتى ترى الفرصة مواتية لتحقيق الهدف.
اضف تعليق