شكل التدهور الحاد الذي شهده سعر صرف الدينار العراقي مؤخرا تهديدا جديدا لعملية النمو والاستقرار المالي والاقتصادي في البلد، خصوصا مع انحسار النشاط الاقتصادي وتزايد معدلات البطالة والفقر بسبب التقشف المالي الذي فرضته موازنة 2015.
وكما هو الحال بالنسبة لأسعار النفط، يشكل سعر صرف الدينار العراقي هاجسا مزمنا لمعيشة المواطن البسيط؛ بسبب ارتباط معظم السلع المتاحة في الأسواق بسعر صرف الدولار، مما يعني أيضا الارتباط الوثيق بين سعر صرف الدولار ومستويات التضخم في البلد، فحين يرتفع سعر صرف الدولار (زيادة عدد الدنانير اللازمة لشراء دولار واحد) ترتفع تلقائيا أسعار السلع المستوردة في الأسواق بشكل أكبر؛ بسبب جشع التجار من جهة، وتحوطهم من ارتفاعات مستقبلية في سعر صرف الدولار من جهة أخرى.
وقد خسر الدينار العراقي خلال مدة قياسية أكثر من 15% من قيمته السوقية حين انخفض سعر صرف الدينار العراقي من (1220 دينار مقابل الدولار الواحد) إلى (1420 دينار مقابل الدولار الواحد). ويمكن إبراز أهم العوامل التي ساهمت في انزلاق سعر صرف الدينار العراقي مؤخراً وكما يأتي:
1- الهيمنة المالية على أداء السياسة النقدية، وقد برز ذلك بوضوح بعد تحديد سقف مبيعات البنك المركزي من الدولار بـ 75 مليون دولار يوميا (مادة 50 من موازنة 2015)، وتكليف البنك المركزي بجباية الضرائب الكمركية على السلع المستوردة.
2- تدهور سعر النفط الخام في الأسواق العالمية وما خلّفهُ من شحّة في تدفق النقد الأجنبي للبلد، مما زاد من توقعات المضاربين بإعادة تقييم الدينار العراقي بما ينسجم وانحسار الإيرادات النفطية.
3- الفساد المالي والإداري الذي تخلل مزاد بيع العملة الأجنبية منذ سنوات بسبب ضعف الرقابة وهيمنة إرادات سياسية على دخول المزاد، فضلا على وجود شبهات فساد متعددة في عمل المصارف الخاصة الداخلة في مزاد العملة، وتورط عدد كبير منها بتهريب الدولار إلى الخارج، وعدم وجود قوانين رادعة وحاسمة تحدّ من ذلك.
4- ضعف استقلالية البنك المركزي وتقييد حريته في رسم السياسة النقدية واختيار الأدوات النقدية المناسبة لتحقيق الاستقرار المالي والنقدي، ومحاولة السلطة الحكومية ابتلاع المؤسسة النقدية كهيئة مستقلة.
5- انهيار الجهاز الإنتاجي للبلد وفقدان القدرة على إنتاج أبسط السلع وتحول الاقتصاد العراقي إلى سوق كبير للسلع الصناعية والزراعية المستوردة، مما زاد من الطلب على العملة الأجنبية لتسديد فاتورة الاستيراد المنفلت.
6- تدهور الوضع الأمني وتزايد أعمال العنف في البلد مع سيطرة تنظيم "داعش" على مدن عراقية متعددة، مما جعل التوقعات متشائمة خصوصا من لدن أصحاب رؤوس الأموال الضخمة في البلد من جهة والمستثمرين الأجانب من جهة أخرى، وهذا ما جعل اتجاه حركة الدولار نحو الخارج باستمرار.
7- على المستوى السياسي، لم يدعم المناخ السياسي والتشنج الطائفي لدى الطبقة السياسية الحد الأدنى من الاستقرار الاقتصادي والنقدي في البلد؛ بسبب التوقعات المستمرة بانهيار العملية السياسية أو حدوث انقلاب سياسي يطيح بالحكومة ومؤسساتها.
8- المحاصصة السياسية التي أطرت المشهد السياسي في العراق ألقت بظلالها على المشهد الاقتصادي، من خلال إبعاد ذوي الخبرة والاختصاص من كافة الوزارات والمؤسسات الاقتصادية والمالية لصالح طبقة من السياسيين المتلهفين للمال والسلطة، مما زاد من انحراف وتدهور عمل هذه المؤسسات في أداء مهامهما.
ومن أجل تحقيق الاستقرار في سعر صرف الدينار العراقي، ينبغي على الحكومة إبداء مرونة أكبر مع قرارات البنك المركزي ومحاولة فكّ الارتباط القائم بين مهام البنك المركزي والمؤسسات الأخرى (مثل وزارة المالية).
من جانب آخر، ينبغي على البنك المركزي العراقي استحداث أدوات نقدية جديدة، غير مزاد العملة، لتحقيق الاستقرار في سعر صرف الدينار من نحو بيع النفط العراقي بالدينار العراقي حصرا. وتشديد العقوبات على الجهات المالية والمصرفية العابثة باستقرار سعر صرف الدينار عبر ترويج الإشاعات وتهريب العملة والاستحواذ على الدولار لتحقيق أهداف اقتصادية وسياسية.
اضف تعليق