لغة الجسد تستطيع أن تمنح المفاوضين المزيد عما يريدون معرفته او قوله للطرف الاخر، أكثر مما تفعله الكلمات مهما اكتسبت من فنون البلاغة. من هنا تظهر الحاجة الى ابداء المزيد من الاهتمام بدراسة لغة الجسد في المؤسسات التعليمية والسيادية، وتهيئة الخبراء بفنونها ولاسيما في مجال العمل...
لا يستغن الافراد عن التواصل فيما بينهم بوسائل ومفردات لفظية وغير لفظية، ارادية وغير ارادية، للتعبير عن الافكار والمشاعر والمواقف وتبادل الرسائل، تشكل عند تراكبها وتكاملها الوظيفي والتوافق عليها بين الافراد، لغةً قائمة بذاتها مستقلة بسماتها ووظائفها وغاياتها.
وإذا كانت اللغة المنطوقة (اللفظية) من أدق العلامات التي يتواصل بها الافراد ليعبروا بها عن مواقفهم واحتياجاتهم، فإنها ليست اللغة الوحيدة؛ بل وحتى ليست اللغة الاهم لبني البشر عامة؛ اذ تشير الدراسات الى ان الكلام لا يشكل سوى 7% من التواصل اليومي بيننا، وإن باقي الرسائل نرسلها لا شعوريا عبر نبرة الصوت والايماءات والاشارات التي يبعثها جسد الانسان، عند تواصله غير اللفظي مع الاخرين ضمن اطار ما يسمى بـ(لغة الجسد) والتي تتفاعل –بدورها، وعلى نحو تلقائي- مع ادوات التواصل اللفظي للغة المنطوقة لتحقق الغاية التواصلية للأفراد ؛ ولعل هذا ما يؤكد ويبرر كذلك دقة وصواب الرأي الذي تبناه الخبير الدولي (ساندرو رادو Sandro Rado) بأن "لغة الجسد تمثل قاعدة كل اللغات طالما تجذرت اصولها في الإحساس الخاص بالجسد". وفي هذا السياق يرى الأخصائي النفسي الدكتور موسى مطارنة "أن لغة الجسد سميت لغة، لأن لها تعابير ومعان واشارات توفر انطباعات واضحة وصادقة عن مستخدمها من جانب وتساعد المتلقي من فهم تلك الرسائل غير اللفظية من جانب اخر؛ أي بعبارة اخرى، ان لغة الجسد شأنها شأن اي لغة أخرى، تتألف من مجموعة من العناصر والتراكيب، كالإيماءات، ووضعية الجسد، وتعابير الوجه التي تتفاعل فيما بينها بانسجام وتناغم لتعبر عن مكنون الانسان ومشاعره ومواقفه ومقاصده بكل بساطة وتلقائية.
ولغة الجسد من حيث التعريف "إحدى صور التواصل غير اللفظي، والتي تصدر عن الجسد على شكل إيماءات وإشارات، والتي تعبر عن المشاعر والأحاسيس الداخلية لا شعورياً، حيث يتم عن طريق هذه الإشارات والإيماءات إيصال العديد من الرسائل والأفكار للأشخاص الآخرين". وهي لدى (ألن بيز): "الاتصال غير اللفظي الذي يعتمد على التواصل بين المرسل والمستقبل، باستخدام التلميحات والإشارات والحركات الصادرة من الجسم"
على أساس ما تقدم، يتضح أن لغة الجسد تعد قناةً مهمة تستخدم في نقل المعلومات والمواقف وتبادل الرسائل بشكل غير لفظي، ونافذةً تطل على ما يدور في الذهن من خواطر ومشاعر وتعبر عنها بإيماءات وحركات حسية تلقائية بالتناغم مع اللغة المنطوقة؛ فما لا يقال شفهيا بشكل مدروس، يقال بشكل تلقائي غير ملفوظ. وفي كثير من الأحيان تكون هذه اللغة غير المنطوقة، أكثر بلاغةً وصدقاً من أبلغ العبارات والالفاظ، لكونها في الأغلب تعبيراً عفوياً أقل تصنعٍ من الكلمات المنمقة التي يلجأ إليها البعض لأهداف معينة لا تعبر بالضرورة عما يقصد ويريد، كما ان حركات الجسد والوجه تلقائية ولاتخضع لسيطرة الانسان مهما تدرب عليها، أي انها لغة لا يشعر بها صاحبها، إنما يستشعرها ويفسرها من هم حوله مهما حاول كبت مشاعره والتصنع في ردود افعاله، الامر الذي ميز هذه اللغة الحسية عما سواها من لغات منطوقة وصيرها الوسيلة الاكثر اهمية في كشف الكثير من الاسرار والخواطر والمشاعر الدفينة للآخرين. وفي هذا الشأن يقول الخبراء "إذا ما تعارضت الكلمات مع النبرة أو مع تعابير، فصدِق النبرة وتعبيرات الوجه لأنها لا تعرف الكذب، كما أن التلاعب بالكلمات أسهل وأهون من التلاعب بالحركات والإيماءات ونبرات الصوت".
ولأن معظم الإشارات الجسدية تعبر عن نفس المعنى في كل بقاع العالم تحولت لغة الجسد الى اللغة العالمية، الأكثر رواجاً وإستخداماً من كل نظيراتها المنطوقة؛ إذ تنتقل بوساطتها نحو 55% من رسائلنا ومواقفنا اليومية بصيغٍ ارادية ولا ارادية؛ فبإمكان أي شخص أن يخمن المعنى المقصود من الحركات والإيماءات لغيره من الناطقين بلغات اخرى في جميع أنحاء العالم، دون الحاجة الى مترجم، فمن ذا الذي يحتاج إلى مترجم لتعبيرات الوجه والعيون.
إن لغة الجسد التي يستخدمها الناس جميعا، بكثافة وعفوية عند تواصلهم اليومي مع الاخرين، يندر من يفهمها ويقرأها بدقة او يوظفها في تحقيق مصالحه وغاياته بصورة فاعلة، رغم اهميتها وبساطتها (بالتعبير دون التفسير) وبلاغتها، لأن إيماءات الجسد وحركاته التعبيرية، ينبغي أن تحلل في السياق العام للحدث، وليس في النطاق الضيق للحركة بحد ذاتها، الامر الذي يرفع منسوب الخطأ في التفسير، مهما بلغت خبرة وكفاءة الخبير المتابع، من جانب.
ومن جانب اخر، ثمة صعوبات اخرى تحيط عملية التعبير غير اللفظي عن المواقف والمشاعر والتحليل الحصيف لها، تتعلق باختلاف ظروف وطرق التعبير والخواص النفسية والسلوكية للشخص المعني فضلا عن اختلاف الثقافات؛ فعلى سبيل المثال، إنَّ تشابك الذراعين قد يكون دليلاً على المقاومة أو العصبية، لكنه قد يكون دليلاً على الثقة والسلطة في حالات أخرى.
إن ما تتميز به هذه اللغة من خصائص وعناصر نوعية فذة، وما توفره من مزايا لمن يجيد قراءة مفرداتها وعناصرها وتوظيفها، قد جعلها ميداناً معرفياً مغريأ، ومهنةً تختص بقواعدها واعرافها المستقلة، ومقصداً وسلاحاً فاعلاً، إجتذب إهتمام العديد من الخبراء والمختصين وطلاب السطوة والتأثير واصحاب السلطة والمصلحة، لتوظيف مفرداتها في جولاتهم التفاوضية مع الغير، لإنجاز جملة من المهام والاهداف يمكن إيجازها بالاتي:-
اولا - التحليل:
1- تحليل الشخصية وتكوين الانطباع: إن لغة الجسد تمنح المفاوض فرصةً مهمة لتحليل الخصائص النفسية والسلوكية للطرف الاخر، وإستيعاب غير مغلوطٍ لمشاعره، وأفكاره، سبيلاً لتكوين الانطباع الاولي والنهائي عنه، والتعرف على مفاتيح القوة والضعف في شخصيته بغية الافادة منها اثناء العملية التفاوضية، وذلك بناء على الطريقة التي يتبعها في توصيل فكرته أو رغبته ومدى اتسامه بالحماس والإيجابية؛ اذ يصعُب على اي انسان مهما بلغ من الذكاء والمهارة او حاول التصنع أو التمثيل، ان يخفي مكنون شخصيته ويسيطر على اندفاعاته وانفعالاته، لان ما يفكر او يُحسّ به الفرد سينعكس بالضرورة على تصرفاته وسلوكياته ويؤثر فيها بصورة تلقائية ولا ارادية. فمثلا تبرز مشاعر الفرح والسرور باتساع بؤبؤ العين وتسارع نبرة الصوت، وعلى النقيض من هذه العلامات الجسدية تبدو مشاعر الحزن، واما مشاعر الغضب فتتشكل بعيونٍ واسعة وحواجب مقطبة وفمٍ مفتوحٍ وذراعين مضمومتين بشكل مُحكم. وعند الشعور بالخجل تتحرك العيون في اتجاهات عشوائية؛ لاخفاء حالة الاضطراب والارتباك.
2- تحليل لغة الخطاب واستكشاف مساحة الصدق والكذب فيه، واستظهار حقيقة نوايا الطرف الاخر ومقاصده، وجدية التزامه، بالاعتماد على تحليل انماط سلوكه غير اللفظي؛ فعند التحدث بصدق -على سبيل المثال- يتجه البصر إلى اليمين، عند الكذب يتجه البصر إلى اليسار مع فرك الكفين بتوتر بصورة لا إرادية وتحاشي النظر الى الطرف الاول لأن ذلك سيزيده إرتباكاً.
ثانيا - التدعيم والتوضيح:
يعزز الاتصال غير اللفظي بلغة الجسد، المعاني التي يرسلها الطرف الاول عبر الاتصال اللفظي الى الطرف الاخر؛ فتستخدم حركات الجسد في تبيان وتوضيح، وتكملة المغزى والمقصود من الكلام، او حتى تُعدّيل الرسالة التي يريد الشخص إيصالها او حتى تأكيدها واستبدالها. وكلما زاد اتقان لغة الجسد تنامت قدرتنا على التأثير في الآخرين، واقناعهم بوجهات نظرنا؛ فتكون لغة الجسد ضمن هذا المسار بمثابة العنصر المساعد والعامل المحفز بين الكلمات من أجل تعزيز المعنى والفروق الدقيقة والتضمينات، لإعطاء مزيٍد من الثقة، والحضور الأقوى، والإقناع، والتأثير، وخلق شعور من الثقة، عبر استخدام نوع النظام التعبيري المُناسب لإيصال فكرة معينة للآخرين.
الامر الذي سوف يعطي أفضلية كبيرة وزخما اكبر للطرف الاول حساب الطرف الاخر اثناء الجولة التفاوضية. فمثلاً اذا اراد الطرف الاول إظهار الحزم والعزم والثقة والسيطرة فما عليه -بتعابير لغة الجسد- سوى الجلوس مستقيما مع الحرص على التواصل البصري الثابت برأسٍ ثابتة والتحدّث بصوت منخفض. وعند الرغبة في انهاء الحوار واظهار الملل من الاستمرار فيه فما على الطرف الاول -بتعبيرات الجسد- الا وضع اليد على جانب الوجه أثناء الحديث، والجلوس منحنيا إلى الأمام.
ثالثا - توفير البدائل:
من الممكن أن يستخدم المفاوض لغة الجسد كبديل للاتصال اللفظي، كأن يستخدم حركات وتعابير الوجه التي تُغني عن الكلام، مثل الإشارة بالموافقة أو الرفض؛ فابتسامة بسيطة بمقدورها أن توحي للطرف المقابل بالموافقة على طلبه، وكأنها تجسيد لعبارة " لك ما تريد". وعند التأكيد يتم استخدم نبرة صوتٍ مختلفة لكلمات مُعيّنةٍ وتكرارها في سياق الحديث للتأكيد على أهميتها، مع الحرص على ثبات الراس والنظر وإظهار مساحة أكبر من الجسد.
رابعا- التنظيم والتقييم:
تؤدي لغة الجسد وظيفًة مهمة في تحديد مسارات العملية التفاوضية وتعيين محطاتها ومفاصلها الرئيسة والتحكم في تدفق الرسائل بين أطرافها وضبط إيقاع المحادثات بينهم، وتثبيت نقطة انطلاق المحادثات وانهاءها، وبالمثل قياس مدى نجاح المفاوضات او فشلها في ضوء ما يبديه الطرف الاخر من ايماءات واشارات حسية للإعلان عن موقف ما، لا يتم التصريح به بلغة منطوقة. أي بعبارة اخرى ان لغة الجسد تتقمص في هذا المحور دور ضابط إيقاع الجولة التفاوضية ومنظم توقيتاتها والفيصل في تقييم مدى نجاح المهمة التفاوضية؛ فقراءة حركات الراس والعيون – على سبيل المثال كفيلة بإعطاء إشارة الانطلاق الحقيقية والجدية في الجولة التفاوضية وتشخيص الحاجة الى الاستمرار بالكلام، أو المقاطعة، والمطالبة بممارسة حق الرد، وهي ذاتها من تعطي اشارة النهاية للجولة التفاوضية بالنجاح او الفشل.
فإن رأيت الشخص مركزاً نظره عليك وقد اتّسع بؤبؤ العين مع تكرار تحريك حواجبه وأبعد رجليه فهذا يعني انه مهتم ومتشوق لما يعرضه الطرف الاول من افكار حريص على استمرار التواصل معه. وسيحصل العكس تماما اذا مل الحوار وفقد الرغبة في استمراره.
ومثلما يعني تشبيك اليدين خلف الظهر والنظر للأسفل باتجاه اليسار – بمفردات لغة الجسد – التأمل والتفكير في مقترح ما اثناء الحوار، فإن انحناءة أصابع الشخص الخفيفة، تدُل على أنه يشعر بالارتياح على الأرجح. بالمقابل تشير العيون الخافتة او المغلقة الى عدم الارتياح والإحباط، والتهيّج، ونفاد الصبر، وتدل الأطراف المضمومة على الرفض المقاومة.
صفوة القول إن لغة الجسد تستطيع أن تمنح المفاوضين المزيد عما يريدون معرفته او قوله للطرف الاخر، أكثر مما تفعله الكلمات مهما اكتسبت من فنون البلاغة. من هنا تظهر الحاجة الى ابداء المزيد من الاهتمام بدراسة لغة الجسد في المؤسسات التعليمية والسيادية، وتهيئة الخبراء بفنونها ولاسيما في مجال العمل السياسي والدبلوماسي او أي مجال يحتاج التفاوض والتواصل مع الاخرين.
اضف تعليق