وبهذه اللعبة تحولت التظاهرات من الإصلاح إلى استبدال محافظ بآخر وتَنَقُّل السلطة من حزب إلى آخر، لا تتعدى النتائج أكثر من هذا، وأنا هنا أحدث عما يجري على الأرض وليس على النوايا، والأحزاب سحبت التظاهرات من فعل التغيير إلى رد الفعل العشوائي الذي يفتقد للتخطيط وفهم الصراعات...
ترك محافظ ذي قار منصبه باستقالة قدمها إلى رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، كتبها بخط يده وبالقلم الأحمر، مؤكداً أنه صاحب سمعة بناها في السلك القضائي لمدة عشرين عاماً، وسيقدم استقالته بسبب ما يدور من صراعات لا تخفى على الكاظمي، ونتاجها الاستحواذ على منصب المحافظ. فما الذي يقصده من الصراعات؟ وما الذي يقصده من استحواذ على منصب المحافظ؟ ولماذا ذي قار بالتحديد؟
الحزب الذي يسيطر على محافظة ذي قار يحقق مكاسب سياسية كبيرة، فالمحافظة لها ثقلها الشعبي منذ سنوات، واكتسبت ثقلاً معنوياً بعد مشاركتها الفاعلة في احتجاجات تشرين، وتكاد تكون الوحيدة المستمرة في حركتها الاحتجاجية _غير التشرينية_ فالشارع هناك سهل التحريك، لأسباب تتعلق بغياب الخدمات وفرص العمل وانتشار البطالة، ما يجعل من الضرورة الخروج بتظاهرات للمطالبة بالحقوق.
وهناك الأسباب الأهم وهي استغلال هذه المطالبة من أجل تحقيق غايات سياسية من قبل الأحزاب المتنفذة في المحافظة للظفر بما هو أبعد من الخدمات وفرص العمل، إنها (الأحزاب) تريد السطوة على أموال الخدمات في لجانها الاقتصادية ودفع فواتيرها المتأخرة.
ذي قار هي محافظة الترليون دينار، والصراعات الجارية على هذا الترليون، وليس على خدمة المحافظة كما يُعْلَنُ في وسائل الإعلام. نص كتبه الصحفي سجاد الحسيني المطلع على مجريات أحداث المحافظة، ففي الأمس القريب سرق بعض المصلحين قناني "الأوكسجين" من مستشفى الحبوبي في الناصرية ليأججوا الوضع حتى حصلوا على منصب مدير الصحة، وقبلها جرت على أيدي أتباعهم حملات حرق وتخريب وفوضى كان الهدف منها الحصول على "كرسي الدم" (المحافظ) وكان لهم ذلك بعد دفع الفدية إذ راح ضحية الكرسي المشؤوم شبان بعمر الورود.
واليوم _الحديث للحسيني- تقف تلك الجهات بكل وقاحة أمام الأصوات التي تطالب بإقالة المحافظ الذي وضع ليكون واجهة لفسادهم وصفقاتهم المشؤومة وهذا جزء من الحقيقة وليس كلها.
وبهذه اللعبة تحولت التظاهرات من الإصلاح إلى استبدال محافظ بآخر وتَنَقُّل السلطة من حزب إلى آخر، لا تتعدى النتائج أكثر من هذا، وأنا هنا أحدث عما يجري على الأرض وليس على النوايا، والأحزاب سحبت التظاهرات من فعل التغيير إلى رد الفعل العشوائي الذي يفتقد للتخطيط وفهم الصراعات الجارية على الساحة.
والسبب الأول في ضياع المتظاهرين هو غياب القيادة المركزية، ورفضهم الدائم لهذه القيادة، رغم ما لها من أهمية كبيرة في إدارة الصراع والإستفادة من تناقضات الأحزاب السياسية، بدلاً من الخضوع لإرادتها وأهدافها الضيقة.
هذه هي ذي قار، فماذا يفعل الكاظمي؟
الكاظمي يحب التناغم مع الشارع العراقي أكثر من حبه للحلول الحقيقية، إنه يبحث أولاً عن تهدئة الجماهير، ولا يمكن التهدئة إلا بشخص محبوب من قبل الجماهير العراقية عموماً وجماهير ذي قار خصوصاً، فجاء برئيس جهاز الأمن الوطني عبد الغني الأسدي لإسكات الأصوات هناك.
والاسدي هو قائد جهاز مكافحة الإرهاب قبل ذلك، وقاد معارك شرسة ضد الإرهاب، ما زاد من رصيده الجماهيري برفقة عدد كبير من القادة العسكريين الذين يفضلهم الشعب على حساب السياسيين الفاشلين.
لكن الأصوات لا تسكت، فرغم أحقية المطالب، كما أسلفنا، فإن الصراعات السياسية والحزبية هي التي تحرك الشارع، أو تستغل تحركاته من أجل تحقيق أهدافها الخاصة باسم الشارع، وهو ما لا يمكن للاسدي أن يحله، مها كانت شعبيته.
وعند اختيار الاسدي يعرج بنا الكاظمي إلى ما هو أبعد من محافظ لمدينة جنوبية ملتهبة بالصراعات، وأبعد من صراعات حزبية محلية، الكاظمي وجه رسالة بدون حروف يفهمها جميع ساسة العراق، إنه يعيد للعراق الحلول القديمة، عبر اللجوء إلى العسكر في حكم المناطق الساخنة، ما يعطي تصوراً بأن البلاد مقبلة عن موجة من الحكام العسكريين المحبوبين من الشعب مع عدم الاطمئنان على كفاءتهم في الحكم، كما لا توجد أي ضمانة بعدم تشجيع اقرانهم للطمع بالمناصب السياسية.
لا تحل صراعات ذي قار بحاكم عسكري، كما لا تحل مشكلات العراق بالتمهيد لهذا القائد، إنما الحلول بسيطة ويعرفها ابسط المواطنين، توفير الخدمات وفرص العمل، وتقليل نسب الفساد، هذا كل شيء.
اضف تعليق