ورغم الزينة الصارخة ليلاً إلا أنها تكشف وجهاً آخر من وجوه عمتنا المتلونة، ذلك الوجه الكئيب الذي لا يفارقنا طوال النهار، فلا تكاد الأسابيع الأولى لمكوثها في الشوارع حتى تبدأ تستجدي العطف من المارة، شهر جمالها قصير وعمر البشاعة طويل بالنسبة لها، إنها عمتنا الـ...
فجأة وَقَفَتْ بعض عماتنا في الشوارع العامة بكامل هيئتها أمام الجميع، تتخذ من مداخل المدن ميداناً لاستعراض غرورها، لا تهمها خصوصية المدينة، لا تفرق بين العاصمة بغداد أو كربلاء والنجف أو واسط أو ذي قار.
نشاهدها يومياً والهواء يتلاعب في أطرافها يأخذها لأي جهة يشاء، بينما هي تعيش في سكرة الحياء لا تعرف ماذا تريد، ولا تعرف أصلاً لماذا هي واقفة ومن أتى بها إلى هنا ومن يقوم برعايتها. مرة تحصل على عناية جيدة وفي أغلب المرات تعاني من الأهمال حد الموت.
في الليل تتبرج بالزينة من أطرفها السفلى حتى أعلى نقطة فيها، لتبهر الجميع بمنظرها الذي لا يمكنك تجاهله مهما كنت مشغولاً، تشدك تقسيما زينتها حتى يخيل لك أنك في بلد غير العراق.
أغلب عماتنا تأتي بنشاط منقطع النظير خلال أيامها الأولى في استعراض الشوارع، يستمر نشاطها لعدة أسابيع، مع الزينة التي تتزين بها خصيصاً لأوقات الظلام من أجل شد جمهورها إلى جسدها، لكن ورغم الزينة الصارخة ليلاً إلا أنها تكشف وجهاً آخر من وجوه عمتنا المتلونة، ذلك الوجه الكئيب الذي لا يفارقنا طوال النهار، فلا تكاد الأسابيع الأولى لمكوثها في الشوارع حتى تبدأ تستجدي العطف من المارة.
شهر جمالها قصير وعمر البشاعة طويل بالنسبة لها، إنها عمتنا النخلة التي أجبروها على المكوث في شوارع بغداد وكربلاء والنجف ومدن الجنوب الأخرى، أرادوا من زراعها في الشارع تكريمها فأهانوها، اعتقدوا أن زراعة النخيل تكون عبر التسلسل الزمني تبدأ من الأكبر سناً ونزولاً إلى أصغرها سناً.
كانوا يعتقدون وربما يتعمدون نقل النخيل الكبير وزراعته في الشوارع، وهو خطأ واضح يعرفه حتى غير الفلاح، فالشتلة التي نستطيع نقلها هي الشتلة الصغيرة، أما الكبيرة فهي بحاجة إلى عناية بأضعاف مضاعفة مع بقاء مخاطرة تعرضها للموت، على عكس فسائل النخيل الصغيرة التي قد تنمو في أقل ظروف العناية الزراعية لأنها مهيأة للنمو.
في العاصمة العراقية وبعض مدن الجنوب ومنها كربلاء والنجف التي تكثر فيها زراعة النخيل بالشوارع نرى وكأن السلطات المحلية تريد حرق المراحل من أجل تسجيل الانجازات باسمها، ومن بينها إنجازات نخيل الشوارع، ولا أحتاج للشرح كثيراً عما تتعرض له النخلة من إهانات عبر هذه الزراعة العشوائية، فمن غير المنطقي أن تبقى بدون عناية ولا سقي لتموت بعد أسابيع قصيرة وتتحول إلى حطب يتهدل على جذع ميت التفت على خصره الأضواء الساطعة لتخفي الاخفاقات المتواصلة للسلطات المحلية التي تعيد موازناتها المالية للحكومة الاتحادية ولا تعرف كيفية إنفاقها طوال السنوات الماضية وتأتي هذه الأيام وتتبجح بالحديث عن العمل بالإمكانيات المتاحة خلال الأزمة المالية.
نخيل الشوارع فضيحة كبيرة لا تحتاج إلى وسائل إعلام ولا تحقيقات استقصائية ولا أي جهد معلوماتي لمواجهة السلطات المحلية في المحافظات بالأدلة الدامغة لسوء إدارتها وعدم قدرتها على إدارة موارد المحافظات المهدورة في مشاريع لا تعمر إلا أشهر قليلة، طريق يتم تعبيده فتنتشر الحفر فيه بعد عدة أشهر، وبعدها يحفرونه لمد خطوط المجاري والكيبل الكهربائي وغيرها من المشاريع التي تحول الشوارع إلى حقل الغام للموت المجاني كل يوم.
الإدارة السيئة التي أهانت النخلة بالطريقة التي نشاهدها يومياً هي ذاتها التي هدمت 1700 مدرسة في العراق فيما بات يعرف بالمشروع رقم واحد ولم تبنى هذه المدارس حتى الآن.
الإدارة السيئة هي ذاتها التي تسببت بحرق أجمل مزارع النخيل التي تعود للنظام السابق وتركتها تموت بعد إهمالها لسنوات رغم أن المزارع تلك تقع على ضفاف نهر دجلة قرب مصفى الدورة، ولا نعرف معلومة عنها إلا بسوء الادارة.
لا يمكن تعداد إخفاقات الإدارة السيئة للحكومات المحلية والاتحادية، لكن ما يجب فعله هو وقف الإخفاقات أولاً واستبدال الإدارة بإدارة جديدة لا تتخذ من النخلة عموداً لنصب إنارة رخيصة الثمن وتصويرها ليلاً وتصديرها على أنها إنجاز عظيم يجب على المواطن إعادة انتخاب حكومة نخيل الشوارع.
اكرموا عمتنا النخلة قبل أن تتحول إلى رمز من رموز فسادكم، أو تتهمونها بالتعاون مع العدو الخارجي لعدم قدرتها على رفع اطرافها من شدة العطش ونقص الأسمدة وفقدان الرعاية اليومية.
اضف تعليق