q
الجذر الحقيقي للمشكلة القائمة والتي صدعّت الهيكل الاقتصادي في البلاد هو إتباع النظام الريعي، واعتمادها على مصدر وحيد لتزويد المنافذ الاستهلاكية للحكومة العراقية، وهي من المشاكل التي يتشارك فيها الجميع بنسب متفاوتة، بينما تتوقف الجهود للتخفيف من جسامة الضرر...

ارتفعت الحمى مجددا واخذت مفاصل الجسد تأن من شدتها، بينما لم تكن المضادات تجدي نفعا بعد ان اخذت الحالة تزداد سوءً، فالأزمة الصحية التي يمر بها الجسد هي التمثيل الحقيقي لما يعيشه العراق في الوقت الحالي.

المسارات المستقبلية التي سيخوض فيها البلد ستظهر ملامحها في المستقبل القريب، اذ لا تزال الطبقة السياسية لم تعي المنزلق الخطير والنتائج المفجعة التي ستلحق بالقطاع السياسي والاقتصادي على حد سواء، فالأزمة الأخيرة لم تكن كما الازمات السابقة، لما يمر به المجتمع الدولي قاطبة، بسبب تفشي وباء كورونا وآثاره المترتبة على القطاع الاقتصادي.

مثلما يحتاج المريض جرعة من الصبر لاستئصال مرض ما، وتحمل الكم الكبير من الألم، العراق يحتاج الى وقفة حقيقية وتصالح من قبل السياسيين مع أنفسهم، من اجل إيجاد حلول اقتصادية تقتلع جذور الازمات او خلخلتها بدافع الخلاص منها، وبخلاف ذلك من المتوقع ان يحدث سخطا شعبيا مثلما حصل في تشرين من العام الماضي، وبذلك يكون البلد على شفاء حفرة او أدنى من ذلك من اندلاع ثورة شعبية.

ونرى حكومة السيد الكاظمي ومع اشتداد الوضع تأزما تعمل على تهدئة الأوضاع عبر إصدارها ورقات إصلاحية، لإخماد شرارة الغضب المتوهجة، ومن الممكن ان تستخدم الحكومة الحالية الظرف العصيب مسوغا للخلاص من الدولة الريعية التي تعتمد وبنسبة تفوق الـــ 90%، على النفط لإدارة شؤون البلاد ومرافقه.

الموازنة العراقية في السابق لم تكن تعتمد على النفط بهذه النسبة الفاحشة، حيث اخذت ملامح الدولة الريعية تتشكل في بداية الخمسينات بعد اتفاقية مناصفة الارباح التي عقدتها الحكومة العراقية مع شركة نفط العراق البريطانية.

عام 1950 الذي بلغت ميزانيته نحو 33 ونصف مليون دينار، كان للنفط فيها بحدود 16 بالمئة من إجمالي الدخل، فيما شكلت الرسوم والجمارك نحو 40%.

بعد ذلك اخذت نسبة الاعتماد بالتزايد ففي عام 1951 بلغت الميزانية العامة نحو ٤٥ مليون دينار ساهم النفط فيها بنحو 29.5%، فيما تراجعت مساهمة الرسوم والجمارك إلى نحو 35%، تقريباً.

وتنفيذا لاتفاقية المناصفة تضاعفت ميزانية الدولة تقريباً في 1952، وهذه المضاعفة جاءت بسبب ارتفاع عوائد النفط لحين بلوغها 47%، من ميزانية ذلك العام الذي بلغت الميزانية العامة فيه نحو 80 مليون دينار، فيما كانت نسبة عوائد الجمارك والرسوم نحو 20%، من الميزانية.

بينما حققت ميزانية 1953 قفزة اخرى في رقمها الإجمالي لتبلغ أكثر من 91 مليون دينار شكل النفط فيها نحو 64%، تقريباَ، فيما بلغت نسبة مساهمة الرسوم والجمارك 20 ونصف بالمئة.

اخذ النفط يتدافع مع الموارد الأخرى التي تصب بصندوق الموازنة العامة فمنذ عام 1953 وعلى امتداد الخمسينات والستينات لم تتراجع مساهمته عن النصف مع تصاعد المبالغ الإجمالية للميزانية لتبلغ مليارات الدولارات في السبعينات.

وبعد حرب تشرين في ١٩٧٣ ارتفعت العوائد النفطية عقب إكمال عملية التأميم وتقبله بشكل كبير في الأسواق العالمية، ازدادت هيمنة القطاع الحكومي على المرافق الاقتصادية في البلاد، فاخذ القطاع العام بالتوسع بصورة غير مدروسة مما سبب ترهل كبير بعدد الموظفين بغض النظر عن الحاجة الفعلية لهم، تحقيقا للمبدأ الاشتراكي الذي يهدف لتحقيق جزء مقبول من العدالة الاجتماعية.

تلك الاعداد وبعد تضاعفها ساعدت على ظهور البطالة المقنعة، مما افضى الى تحجيم إرادة العاملين وعدم امكانيتهم على التفكير الإبداعي الذي يسهم بإيجاد بدائل سليمة قادرة على المعالجة الفعّالة، وتحويل الموظفين من عاملين فحسب الى مفكرين ومنتجين.

العام 2003 هو موعد تغيير النظام الشمولي الذي كان يحكم العراق وانتهاء الشمولية السياسية، لكنه لم يكن في نفس الوقت تاريخ القضاء على الشمولية الاقتصادية، على الرغم من اتباع الحكومة فلسفة اقتصادية قائمة على الرأسمالية او ما يُطلق عليه (الاقتصاد الحر)، والتنافس الكبير بين أصحاب رؤوس الأموال والمسيطرين على المشهد التجاري في البلاد.

وقد استخدمت الأحزاب موضوعة التوظيف غير المبرر جسرا للعبور صوب مدينة الامنيات المعطلة، فتضخمت اعداد العاملين في القطاع الحكومي ليتضاعف عدد موظفي الدولة الى أكثر من اربعة ملايين في عام ٢٠٢٠، بينما بقي القطاع الخاص يعاني من ذات القيود المفروضة عليه سابقا.

فالمراقب للداخل العراقي يجد ان الأرقام المخيفة التي تضمنتها الموازنات العامة السابقة والحالية لم تُثير حفيظة صناع القرار السياسي والمالي في البلاد، وما سيؤول اليه الملف الاقتصادي، فعلى سبيل المثال استهلكت رواتب الموظفين ومعاشات المتقاعدين نحو ٤٧%، من ميزانية عام ٢٠١٩ البالغة نحو ١١٢ ترليون دينار. ولم تستقر هذه النسبة عند هذا الحد بل قفزت الى ٦٧%، من ميزانية عام ٢٠٢٠ البالغة أكثر من ٨٠ ترليون دينار.

ويجري العمل حاليا في ميزانية عام ٢٠٢١ التي يتوقع أن تمثل رواتب ومعاشات الموظفين وغيرهم من الشرائح نحو ٤٥%، من المبلغ الإجمالي لها والذي يصل إلى ١٦٤ ترليون دينار، ويعني هذا إنه رغم انخفاض النسبة المئوية للرواتب والمعاشات في ميزانية ٢٠٢١، فإن المبالغ المخصصة لها ازدادت لتصل إلى ٧٤ ترليون دينار مقارنة بعام ٢٠٢٠ التي وصلت مبالغها أكثر من ٥١ ترليون دينار، بعد إضافة أكثر من٣٠٠ ألف موظف جديد في العامين الماضيين، بينهم الذين سيُضافون في عام ٢٠٢١.

الجذر الحقيقي للمشكلة القائمة والتي صدعّت الهيكل الاقتصادي في البلاد هو إتباع النظام الريعي، واعتمادها على مصدر وحيد لتزويد المنافذ الاستهلاكية للحكومة العراقية، وهي من المشاكل التي يتشارك فيها الجميع بنسب متفاوتة، بينما تتوقف الجهود للتخفيف من جسامة الضرر.

الاقتصاد المحلي العراقي لم يتكئ على قدميه مالم تنصب الجهود لتنشيط القطاع الخاص، وإدخال منظومة إصلاحية حقيقية عميقة، تسهم في تقليل دور الدولة في ادارتها لاهم المرافق، وربطه بالاقتصاد العالمي، لتدارك الوصول لنقطة اللاعودة والخلاص من اللعنة التي تلاحق العراقيين منذ عقود.

اضف تعليق