تستطيع السياسة والقوى الحاكمة أن تصنع من أحداث معينة ذاكرة تشق طريقها الى وعي الافراد وعقولهم، بينما تستطيع أيضاً أن تسكت أحداثاً أخرى وتضمها الى قائمة النسيان. التذكر والنسيان الجمعيين يخضعان لتأثير وتحكم الانظمة والقوى السياسية عوضاً عن التأثير المجتمعي أو الاجتماعي، فكثيراً مايستخدم السياسيون...
تستطيع السياسة والقوى الحاكمة أن تصنع من أحداث معينة ذاكرة تشق طريقها الى وعي الافراد وعقولهم، بينما تستطيع أيضاً أن تسكت أحداثاً أخرى وتضمها الى قائمة النسيان.
ومن هذه النقطة ننطلق ونشير الى أن كلاً من التذكر والنسيان الجمعيين يخضعان لتأثير وتحكم الانظمة والقوى السياسية عوضاً عن التأثير المجتمعي أو الاجتماعي، فكثيراً مايستخدم السياسيون وأصحاب القوى الفهم الأسطوري للماضي وأحداثه لتعبئة الذاكرة كأداة يمكن استغلالها سياسياً للتحكم بالشعوب وحاضرهم ومستقبلهم أي أعادة صياغة الماضي "فالماضي يمكنه أن يصاغ شأنه شأن المستقبل"، ويكون عن طريق الابتكار المتعمد لحيل وأساليب صنيعة ذاكرية(1).
ان الذاكرة ليست بالضرورة حقيقية لكنها مفيدة، ونشدد على الموقع الذي يحتله فن الذاكرة في عالم الحداثة بالنسبة للمؤرخين والناس العاديين والمؤسسات كشيء يمكن استخدامه، توظيفه، واستغلاله، أي أنها ليست مادة جامدة تجلس في مكان ما ليتبناها الاشخاص، انما هي مادة حيوية يمكن تعديلها، صياغتها، فقدانها، تركيبها وخلقها.
ففي السياسة تمارس الذاكرة الجماعية نفوذها باتجاهين أحدهما من الأسفل الى الاعلى إذ تؤثر تغييرات الماضي على هويات النخب السياسية، والآخر من الاعلى الى الاسفل لأن بعض الشخصيات الفاعلة أو المؤثرة داخل مؤسسات الدول تستطيع أن تصنع من أحداث معينة ذاكرة تشق طريقها الى وعي الافراد وعقولهم، بينما تستطيع أيضاً أن تسكت أحداثاً أخرى وتضمها الى قائمة النسيان بأساليب عديدة تنطوي أساساً على التلاعب غير الظاهر بعقول الأخرين (2).
ويجب أن نشير الى أن الذاكرة التاريخية لايمكن ردها الى الذاكرة الاجتماعية ولا الذاكرة الجماعية، بسبب أنها مكون عضوي من مكونات أي مشروع للهيمنة وينبغي إدراكها سياسياً، لذلك يجب التمييز بين الذاكرة المحددة تاريخيا والتي تمثل تصورات المجتمع بصدد الماضي، وبين تلك التي تتطور بمنأى عن الدولة والتي عادة ماكانت تبدو كوعي ذاتي، والاخرى التي تكون مختلفة منطقيا والتي تستخدم من قبل النخب المهيمنة والتي تسمى (الذاكرة التاريخية المسيسة أو المكرسة) والتي تستخدم لأغراض سياسية، وهي تختلف عن الذاكرة المحددة إجتماعياً، وتعبأ من قبل الدول والقوى المعارضة لها في مساعيها لفرض الهيمنة الأيدولوجية وللتأثير على توزيع المجتمع، كما ويجري تنظيم الذاكرة التاريخية المسيسة ضمن سياق الاحتفاءات بالماضي التي تخضع لرقابة الدولة، ويمكن للأخيرة أن تستخدم الوسائل المؤسساتية للترويج لتصورات معينة بخصوص الماضي، وكذلك الوسائل العقلية لردع الذين لايتفقون مع وجهات نظرها (3).
وسعت دول العالم غير المتقدم الى استغلال محتوى الذاكرة التاريخية لتهميش المكونات الاجتماعية التي اتخذت موقف المعارضة وأخذت هذه العملية ثلاث أشكال: (4)
الاول: تمثل في محاولة الدولة صناعة وقائع تاريخية وفرضها على المكونات.
الثاني: تمثل في تقبل الدولة بشكل ظاهري للموروث الثقافي للجماعات المختلفة وسعيها في الوقت نفسه لإثبات عدم توافق هذه الثقافات مع العصر وعدم صلاحيتها لتكون جزءاً من الحياة اليومية للمجتمع وأنها تقتصر على المناسبات والاعياد الدينية والقومية.
الثالث: تمثل في تجاهل الدولة للثقافات والوقائع التاريخية وتعدها ضارة وتتقاطع مع رؤيتها وتصوراتها مع عدم الإشارة اليها في الوثائق الرسمية للأفراد.
وبهذه الأساليب تؤدي استخدامات الذاكرة التاريخية الى تعزيز مشاعر الشك وانعدام الثقة بين الجماعات الاجتماعية المختلفة في المجتمعات التعددية وانعدام التواصل الثقافي المتبادل وانعدام الشعور بالمواطنة، على العكس في المجتمعات الديمقراطية تتم صياغة ذاكرة تاريخية لتكون حافزاً للتشجيع على الاندماج الاجتماعي والثقافي والتكامل السياسي وتعزيز المشاركة السياسية ولاتحتاج الدولة الى تهميش أو الغاء ثقافات الجماعات المختلفة في عملية تفسيرها وتصويرها للماضي لان التوظيف السلبي يؤدي الى الانغلاق وانعدم التواصل بين الثقافات مما ينعكس سلباً على وحدة المجتمع وتماسكه، ومثال على ذلك في تاريخ اليهود اذ أدرك السياسيون ورجال الدولة أن الذاكرة الجماعية تلعب دوراً قوياً لايمكن إهماله وعدم استخدامه، لذلك سعوا دائماً الى التلاعب بالذاكرة والتاريخ لتحقيق أهدافهم في أنشاء دولتهم وإعطائها الشرعية بين أفرادهم.
ختاماً يجب أن نشير الى أن موضوع الذاكرة التاريخية المسيسة سيبقى يخضع لتعقيدات مادام التاريخ يكتب بأيدي الأقوياء والسياسات المهيمنة، لذلك غالباً ما يجد الفرد نفسه يتذكر أو ينسى بعض الأحداث دون إرادة منه أو تحكم، ممايعني أن سياسات الذاكرة الجمعية تتطلب وعيا بالتخلص من هيمنة السلطات التي تتحكم بالهويات الذاتية والجمعية والتاريخ وفقاً لأهدافها. (5)
اضف تعليق