ما يحدث في العالم اليوم من تظاهرات واحتجاجات وتنامي للحركات الشعبوية الناقمة على الاوضاع السياسية والاقتصادية في كل دول العالم، يعطي دلالة واضحة على وجود اختلالات بنيوية في الأنظمة السياسية العالمية، وطريقة تعاطيها مع الأزمات والاحتجاجات المناهضة لها، ولاسيما أن اغلب هذه الأنظمة خلقت جيوشاً من المهمشين...
تتسارع أحداث العالم منذ مطلع القرن الحالي بشكل ملفت للنظر على كافة المستويات، ولاسيما على الصعيد التكنولوجي والتطور المعلوماتي وحضور الآلة محل الإنسان، وتذويب الحدود بين دول العالم وسط تطّرف السياسات الليبرالية وسياسة العولمة، وطغيان وفساد النُخّب السياسية، فضلاً عن الانقسام والتجّاهل الذي خّلفه هذا التطور على المستوى الاجتماعي، والسخط الذي بلوره ‘‘اتجاه كل تلك المفاهيم‘‘ من قبل اغلب طبقات المجتمع، ولاسيما الطبقة الوسطى وما دونها كطبقة العمال غير الآمنة(1)، التي تّشعر بالتجاهل والتهميش؛ جراء السياسات الليبرالية التي تتحكم في الاقتصاد السياسي العالمي منذ بداية تسعينيات القرن الماضي وحتى الآن.
الأمر الذي زرع نواة مناهضة له، هذه النواة تكاد تكون معروفة ومّعرفة للكل، ومكشوفة التوجهات، إلا أن العالم بسياسته الليبرالية التقليدية واغلب المتخصصين، يكاد يغض الطرف عن هذه النواة ومسبباتها ومستقبلها، أو يحاول تزييف مطالبها وتوجهاتها.
وعلى الرغم من التحفظ العام الذي تبديه النخبة واغلب المتخصصين على مسببات تلك النواة البشرية "المهمشة" التي خلقتها سياسات العولمة، إلا أن هناك فئة تعتقد، بانها ستكون المسؤولة عن رسم ملامح القرن الواحد والعشرين على الصعيد السياسي والاقتصادي، وتقويض النظام الحالي، ولاسيما في ظل تداعيات جائحة كوفيد 19-؛ انطلاقاً من تفسيرات الفلسفة الماركسية وماديتها الجدلية والتاريخية ورؤيتها للتطور العالمي، بتسليمها بأن (كل نظام يحوي بداخله بذور فناءه)، ولاسيما أن النشاط السياسي لهذه النواة بانت ملامحه الحقيقية في أوروبا وأمريكا وبعض دول العالم من خلال تنامي التيارات الشعبوية واليمينية المناهضة للسياسات الليبرالية التي تدير الاقتصاد العالمي، وهي حركات نشأت وتنامت نتيجة التصدعات التي اصابت المجتمعات البشرية، جراء السياسة الانتقائية التي تتبعها الفلسفة الليبرالية وسياسة العولمة واقتصاد السوق.
إن ما يحدث في العالم اليوم من حركات وتظاهرات واحتجاجات وتنامي للحركات الشعبوية الناقمة على الاوضاع السياسية والاقتصادية في كل دول العالم، يعطي دلالة واضحة على وجود اختلالات بنيوية في الأنظمة السياسية العالمية، وطريقة تعاطيها مع الأزمات والاحتجاجات المناهضة لها، ولاسيما أن اغلب هذه الأنظمة خلقت جيوشاً من المهمشين.
والتهميش هنا، يشمل فئات متعددة ومحاور كثيرة، كما أنه أنواع ودرجات متباينة، ويختلف معناه من بلد لآخر، ويشير إلى شيء شديد التعقيد وأحوال متداخلة، كما انه ينطوي على الإقصاء الاجتماعي والحرمان من الحقوق والفرص والموارد، التي يتمتع بها أفراد الجماعة وتكون ضرورية للتماسك الاجتماعي؛ لذلك يعتبر الفرد المهمش شبه مواطن، وقد يكون نصف أو ربع مواطن، أو شخص ناقص المواطنة، والأخير لفظ كان يستعمل في روما القديمة وصفًا للأجانب المقيمين في الدولة الرومانية. وإذا ما رجعنا إلى عنوان المقال وفرضيته، سنجد أن مصطلح أو مفهوم البريكاريا، يجّسد ويختزل نشاط هذه التيارات والحركات واهدافها ومسببات ظهورها، ليس في أوروبا وأمريكا فقط، وإنما في أغلب دول العالم، التي تشهد حراكات واضطرابات شعبية، وحالات عدم استقرار بشكل عام.
ماهي البريكاريا:
هي الطبقة الخطرة الجديدة (The Precariat, the new dangerous class)(2)، أو كما يسميها البعض البروليتاريا الجديدة، أي طبقة العمال الجديدة، في إشارة إلى المفهوم الماركسي الذي استخدمه كارل ماركس في فلسفته الماركسية، والبريكاريا: هي مفهوم اجتماعي اقتصادي، يتكون من لفظ مقتبس أو لفظ منحوت من مصطلح البروليتاريا في علوم الاقتصاد السياسي. دخلت اللغة الانجليزية رسمياً عام 2004، وتمزج بين مفهومي البروليتاريا، كما أشرنا لها انفاً، وكلمة البريكاريوس، التي تعني المتزعزع والمؤقت وغير المثبت.
إذ يعد البروفسور جاي إستاندينج (3) أول من أطلق هذا المصطلح المستحدث في كتابه (البريكاريا: الطبقة الخطرة الجديدة) في إشارة منه لوصف طبقة من الناس، الذين يعيشون في وضع اقتصادي – اجتماعي هش، وكان يشير به إلى الشك وعدم اليقين وعدم الائتمان على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي، وسط مجموعة متنامية داخل المجتمع على نحو من شأنه أن يقود إلى التطرف والشعبوية. واصطلاحاً، يشير المصطلح أو المفهوم إلى طبقة العمال المؤقتين العابرين، أو تلك الطبقة التي أسلفنا ذكرها "طبقة العمال غير الآمنة"، الذين يستعان بهم عند وجود حاجة إليهم، بينما يرسلون إلى منازلهم دون أي حقوق أو ضمانات عندما تنتفي تلك الحاجة سواء بصفة يومية أو أسبوعية أو حتى شهرية، في إطار نموذج عمل جديد شائع تتسامح معه معظم حكومات الغرب، بوصفه لازمة للرأسمالية المتأخر.
وأهم ما يميز هذه الطبقة هو نقص فرص العمل وقصر مدة عقود العمل وانخفاض الدخول، وصعوبة العلاقات الاجتماعية، وانخفاض الضمان الاجتماعي، والافتقار للأمن الوظيفي، وانعدام الصوت السياسي. فضلاً عن خطر ارتفاع معدلات الفقر (مثل نظام الوظائف القصيرة الأمد في ألمانيا)؛ الأمر الذي يجعلها عرضة لنمو الراديكالية والشعبوية، ويساعد على نمو التطرف بداخلها اتجاه المفاهيم الليبرالية والنخب السياسية والثقافية، ويجعلها أكثر عداء للديمقراطية والمفاهيم التقليدية السائدة.
وقد شهدت هذه الفئة السكانية غير المستقرة اقتصادياً واجتماعيا، انتشاراً في المجتمعات العالمية في السنوات الأخيرة، وكانت أكثر تنوعاً حسب اسيتاندينج، الذي يقدر عدد أفرادها في اليابان بأكثر من 20 مليون شخص، بينما اصبحت هذه الطبقة في أوروبا تشّكل موضوع نقاش منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، ولاسيما بعد عام 2016، العام الذي شهد رواجاً فكريا وسياسياً للشعبوية والتيارات الراديكالية المناهضة لليبرالية والديمقراطية والعولمة والنُخّب السياسية، فهناك شباب حائزون على درجات عالية من التعليم عاطلون عن العمل وليس لديهم أية وظيفة يؤدونها أو أنهم يقومون بأداء وظائف أو أعمال ذات أجراً زهيد.
وهذه المميزات تكاد تُمثل القاسم المشترك بين اغلب الحركات الاحتجاجية في دول العالم، بغض النظر عن طبيعتها واهدافها سواء كانت بوعي أو بدون وعي، إلا أن مؤشراتها العامة تضعها في خانة البريكاريا.
فضلاً عن ذلك، تتميز الحركات الجماهيرية لطبقة البريكاريا، بافتقادها إلى قيادة محركة وجامعة لها، أو ما نسميه بالتنظيم أو رأس محرّك، وانعدام صلتها بالأحزاب المعروفة أو السائدة داخل البلاد، كما تتميز بالصلابة والشجاعة في مواجهة عنف الدولة الجسدي والمعنوي، وانتشارها الواسع عبر القطاعات الاقتصادية والجغرافية على تفاوت مشاربها الإيديولوجية.
ربما تتراوح التوصيفات او التسميات لهذه الحركات وتتفاوت بين بلد وآخر، فهناك من يرى بأنها عبارة عن تيارات شعبوية – يمينية، أو فاشية، كما يحصل في أوروبا وأمريكا، أو هي تيارات وحركات عميلة، مدفوعة الثمن من دول خارجية، تحاول الاطاحة بالأنظمة السياسية القائمة، كما حدث ويحدث في دول العالم الثالث والانظمة الفاشلة، ولاسيما في منطقة الشرق الأوسط منذ عام 2011 وحتى وقتنا الحاضر، كما هو الآن في العراق وبعض دول المنطقة.
في حين يرى بعض المتخصصين (وهو ما نراه أيضاً)، بأن تلك الحركات هي وصف دقيق وترجمة عملية للتحولات العميقة التي أصابت سوسيولوجيا المجتمعات الغربية بشكل خاص، والعالمية بشكل عام، في ظل حكم النيوليبرالية منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى وقتنا الحاضر.
هذه التحولات والتغيرات البنيوية، التي اصابت النظام السياسي والاقتصادي العالميين، وتسببت بتآكل شرعيتهما المحلية والعالمية، لدى هذه الحركات، كانت أكثر خطورة مع توابع الأزمة المالية التي ضربت الاقتصاد العالمي عام 2008، وسياسات التقشف الحادة التي فرضتها وتبنتها معظم الحكومات الغربية والعالمية، كانت سبباً مباشراً في ظهور هذه الطبقة، التي بدأت ملامحها العامة بين عاميي 2015-2016 في أوروبا وأمريكا، التي حصرها الإعلام الغربي تحت مفاهيم الشعبوية واليمين المتطرف.
هذه الطبقة "طبقة البريكاريا"، ستكون أكثر تطرفاً في تحركاتها وتوجهاتها السياسية اتجاه كل المفاهيم التي سادت مع سياسة العولمة والديمقراطية الليبرالية، فهناك من يعتقد بأنها سترسم ملامح النظام العالمي الجديد لعالم مابعد كوفيد 19-، في ظل التحولات البنيوية التي من المتوقع أن يحدثها الوباء على النظام السياسي والاقتصادي العالميين، ولاسيما أن هذه الحركات في غالبيتها لا تؤمن بالعمل الحزبي ولم تثق بالاتحادات العمالية للعمال، وتتميز باعتزالها الفطري للعملية السياسية، بوصفها ديمقراطية زائفة ولعبة كراس موسيقية للنخب والبرجوازيات دون الفقراء والمهمشين.
وهذا ما تشترك فيه معظم الحركات العالمية سواء في أوروبا وأمريكا أو في دول العالم الأخرى، فنجد على سبيل المثال حركات الاحتجاج، اصحاب الستر الصفراء في فرنسا وأوروبا بشكل عام، واحتجاجات اصحاب البشرة السمراء، أو التيارات الشعبوية في أمريكا، كذلك الحال بالنسبة للاحتجاجات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، في العراق على سبيل المثال حراك تشرين، وفي إيران ايضاً، فضلاً عن الحركات الشعبية في لبنان وتركيا... وغيرها.
وهي حركات ستتزايد بشكل أكبر مع تقادم الوقت وتفاقم تداعيات جائحة كوفيد 19- على الاقتصاد العالمي، حتى وأن هبط حراكها في الوقت الراهن، إلا أنها ستعود بشكل أكبر وأكثر تطرفاً وعنفاً اتجاه كل المفاهيم السياسية العالمية السائدة، التي رسمتها نتائج مابعد الحرب العالمية الثانية وبلورتها معطيات انتصار الفلسفة الليبرالية بعد نهاية الحرب الباردة.
قد تكون البريكاريا، شكلاً محدّثاً من بروليتاريا القرنين الماضيين، وهذا ما ينفيه المفكر الإيطالي أليكس فوتي في كتابه (النظرية العامة للبريكاريا -2016)، إلا أننا نعتقد بأن هذا التحديث لا يمكنه أن يتجاوز حدود المفهوم العلمي لهما؛ لأن التكوين الاجتماعي لطبقة البريكاريا قد لا يفهم ما تنّظر له النُخّب وما يكتبه المتخصصون؛ نتيجة لحالات اليأس والاحباط، التي اصابتها جراء سياسات الديمقراطية الليبرالية وسياسات اقتصاد السوق والعولمة والتهميش، ولاسيما في دول العالم الثالث.
وبهذا الجانب يعتقد فوتي: "أن هذه الطبقة المستحدثة التي خلقتها النخب الرأسمالية خلقاً بسياساتها النيوليبرالية القاسية، وبتجويفها الدولة لمصلحة رأس المال، وتعامي برلماناتها عن حماية الضعفاء، وفساد التمثيل في منظومات الديمقراطية الزائفة، تحولت بفعل تراكم الأزمات إلى الخطر الأكبر على استمرار تلك النخب واحتكارها التام للعيش الكريم، وأنها ستكون – كما أظهرت بدايات الحراك الفرنسي الأصفر – حاملة تغيير ثوري تاريخي قد يكسر قواعد الهيمنة ويعيد نثر أوراق المجتمعات الغربية على نحو غير مسبوق"(4).
ولعل ما تمتلكه هذه الطبقة من مشتركات ثورية ومفاهيم راديكالية وطرق احتجاجية بين اغلب حركاتها العالمية، قد تجعل الأمر ممكناً بالنسبة لها، ولاسيما في ظل تراكم الازمات الاقتصادية العالمية وتداعيات جائحة كوفيد19-، فالبؤس وحد بين المجموعات العمرية والعرقية والثقافية بديلاً عن الأيديولوجيا، وهذا ما نراهُ وأّشرناهُ في مقالاتنا السابقة بخصوص حراك تشرين في العراق، وكذلك في نمط الاحتجاجات الفرنسية لأصحاب الستر الصفراء في فرنسا وأوروبا، فضلاً عن الحركات الشعبية في لبنان وإيران، وغيرهما من دول المنطقة.
فأفراد هذه الطبقة ليس لهم ما يخسرونه سوى ديونهم ومتاعبهم اليومية، ولاسيما أن هذه الطبقة اكتسبت طابعاً أممياً بين أغلب دول العالم، تكاد تتجاوز حدود التصدع الاجتماعي والسياسي والاختلافات الايديولوجية المذهبية والقومية والدينية، في ظل الانفتاح العالمي لوسائل الاتصال والانترنيت؛ الأمر الذي يضعها في موقع أفضل من سابقتها "الطبقة البروليتارية"، وهذا ربما يساعدها في رسم ملامح عالم مابعد كورونا بشكلٍ تدريجي.
اضف تعليق