أي عدالة هذه وأي ادارة للإقليم، لسان حال الشعب الكردي يقول لا مجال للانتظار، أو أن الواقع يدفعه للانفجار ضد حكومته، إنها ارتدادات سوء الادارة من غرب العراق إلى وسطه وجنوبه ثم إلى إقليمه الوحيد، إنه الزلزال السياسي الذي يضرب العراق، فلا علاقة لوعي المواطن بحقوقه بقدر تعلق الأمر بانتفاخ المنظومة الحاكمة...
لا اتفق مع الفكرة القائلة بأن الانتفاضات التي حدثت في البلدان العربية بأنها ربيع عربي، ليس لأن التسمية غربية سوقتها وسائل الإعلام، أو شرقية أصلها خيالي، بل لأن المعنى الدقيق يجب أن تُسمى أي حركة احتجاجية بالخريف السياسي، وما حدث في العراق مثال واضح من نهاية عام 2019 وحتى الآن، إذ انتقلت العدوى من بغداد إلى الناصرية ثم كربلاء والنجف وبابل والديوانية وواسط والسماوة وميسان والبصرة.
التظاهرات كانت زلزالاً سياسياً بكل المعايير، ولهذا لا نحبذ تسميتها بالربيع، فالزلزال يقلب الوضع الراهن، ويجعل من الصعب التنبؤ بالجديد، وهذا ما حدث فعلاً خلال احتجاجات تشرين التي اجتاحت وسط وجنوب العراق، والزلزال هنا تعبير عن تشققات ضربت العملية السياسية العراقية منذ عام 2003 واستمرت حتى يومنا هذا، وما نتج عن الزلزال التشريني أضاف تشققات جديدة في منظومة الحكم وطريقة أدائها، لكنها لم تبرز لنا حتى الآن أي منتج يدل على أنها ربيع سياسي.
الربيع يعني تطور مجموعة من التنظيمات القانونية بطريقة لا تحدث الضجة التي حدثت، كما ان مخرجاتها تبرز بشكل واضح على شكل تشريعات تعيد تنظيم الدولة العراقية، وهذا لم يحدث، حتى وأن اعتبر تعديل قانون الانتخابات واحداً منها، لكن لا يمكن مقارنته بحجم الخسائر والتضحيات التي سقطت، ولا حتى حجم الشعارات والآمال التي عقدت على تشرين.
ما نقوله ليس قدحاً بالنشاط الاحتجاجي، إنما التأشير على أصل التحرك، إذ من الغريب القول أن المنظومة السياسية الحاكمة هي المغذي الأساسي لتظاهرات تشرين، وسوف تغذيها في المستقبل، وعلينا التفريق بين نوعين من التغذية أو الدعم:
النوع الأول: وهو الدعم المالي والإعلامي الخفي والمعلن الذي تقوم به بعض الجهات السياسية التي تستغل الأزمات من أجل الحصول على مكاسب جديدة تضاف إلى غلتها من السابقة.
النوع الثاني: التغذية بالأخطاء، وهذا ما نقصده، أي أن استمرار أخطاء المنظومة السياسية الحاكمة في التعاطي مع الواقع العراقي سيولد حركات احتجاجية جديدة، والأخطر قد ينتج فوضى جديدة لأن غياب العدالة الدائم يولد شعوراً لدى المواطنين وخاصة المعدمين منهم على ان الالتزام بالقواعد العامة وعدم الالتزام بها سواء، فالقانون بالنسبة لهم وجد لحماية الأغنياء والمتنفذين، والمؤسسات الحكومية محصورة على شريحة معينة من الموظفين الذين لا يقدمون خدمة تليق بحجم الرواتب التي يتقاضونها شهرياً.
هل استطاعت المنظومة السياسية حل الإشكاليات التي تم تأشيرها على طريقة أداء عملها، أم أنها بقيت على طريقتها السابقة؟ النزول للشارع العراقي يقدم الاجابة، فلا شيء تغير، الأمور تسير نحو الهاوية حتى أن الموظف الذي كان يدرج في خانة المترفين بات لا يستلم راتبه بشكل منتظم، وهو أسوأ ما وصل اليه المواطن العراقي منذ عام 2003 وحتى لحظة كتابة هذا المقال.
يمكن ملاحظة أن الاحتجاجات الشعبية خفت بسبب غياب الدعم الإعلامي وخيانة بعض الجهات، بالإضافة إلى انتشار فيروس كورونا وتبعات تشكيل الحكومة وما نتج عنها من تغيرات في رأس الهرم والحاشية الحاكمة في البلاد لتنتقل بعض الداعمين الإعلاميين والسياسيين للتظاهرات من الساحات الساخنة بالشعارات إلى القصور المرفهة فاختلت المعادلة لكنها لم تنتهي بعد.
السبب الذي يدعونا للقول أنها لم تنتهي يعود لأصل التظاهرات ذاتها فهي وان حصلت على دعم إعلامي وسياسي داخلي وخارجي راكباً الحقوق المسلوبة لكنها نشأت في جوهرها كرد فعل، وليست فعلا مستقلاً بذاته، بمعنى أن من خرج للتظاهرات لم يخرج بسبب فيضان الترف المعرفي لديه ووجود رغبة افلاطونية ملحة لديه ببناء دولة فاضلة على مقاسات الفيلسوف اليوناني، إنما خرج الشعب لأن المنظومة الحاكمة قد فشلت في أداء أبسط واجباتها.
لم يكن النشاط الاحتجاجي ربيعاً لأنه لم يخرج من ذاته بشكل خلاق، ولم يكن الفعل الاحتجاجي بذرة وعي كما حاول بعض المتصدين تسويق هذه الفكرة المجانبة للحقيقة، ولذلك فان فعل الاحتجاج هو في الواقع رد فعل على فشل، انه ارتدادات الزلازل التي هزت العملية السياسية في العراق منذ تكوينها عام ٢٠٠٣ وحتى الآن، والزلازل والعواصف قد تعجل بظهور الخريف بشكل قسري على الطبيعة فتدفع نباتاتها الي السبات.
تعود العراق على أن مناطقه الشمالية من أكثر المناطق تعرضاً للزلازل إذا ما تحدثنا عن المتغيرات الجغرافية الطبيعية، لكن المنطقة الغربية هي أكثرها اهتزازاً وبعداً عن الاستقرار لدرجة يمكن وصفها بمنطقة الزلازل السياسية والاجتماعية والأمنية، هي منطقة منتجة للسلطة تاريخياً لكنها منتجة للفوضى أيضاً وما تزال تعيش ارتدادات آخر زلزال ضربها عام ٢٠١٤ وقضى بشكل جزئي على القيادات السياسية السنية التقليدية وأنتج جيلاً سياسياً جديداً لم يعهد مقاطعة الانتخابات ولم يتعود الانسحاب من جلسات البرلمان لأسباب طائفية.
الزلزال الذي هز المنطقة الغربية بتظاهرات ما يسمى بـ"ساحات العز والكرامة" وختامها بتنظيم داعش امتدت حركاته الارتدادية إلى مناطق الوسط والجنوب، تظاهرات تنطلق موسمياً خلال فصل الصيف احتجاجاً على غياب خدمات الكهرباء، يتكرر المشهد سنوياً إلى مرحلة انفجار الجمهور الجنوبي من شدة الضغط الفساد وانعدام الخدمة العامة ليس ما يتعلق منها بالكهرباء وحسب بل أن اغلب الخدمات باتت ضعيفة وغير مجدية للمواطن.
يبقى اقليم كردستان الحصن المنيع على الزلازل السياسية مخالفاً طبيعته الجيولوجية، ولأن "دوام الحال من المحال" انفجر الشعب الكردي بوجه القيادات السياسية الحاكمة من الحزبين المتنفذين منذ تسعينيات القرن الماضي، استولوا على السلطة ومقدرات الاقليم لعدة سنوات، اقفلوا الابواب بوجه الحكومة الاتحادية، يتحكمون بكل شيء تقريباً لا شيء ينتمي للمركز، المنافذ الحدودية دمرت الاقتصاد العراقي لانها تستورد الممنوع، والنفط يباع بطريقة غير مفهومة لدى حكومة بغداد، القيادات الحاكمة في الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني يسيطرون على التوظيف والبيع والشراء وحتى توزيع الرواتب.
حتى الرواتب هناك لا يجري توزيعها بشكل منتظم، والذريعة جاهزة عبر القاء التهمة على حكومة بغداد، هذه المشكلة متواصلة منذ اربع سنوات كما يقول النائب الأول لرئيس مجلس النواب حسن كريم الكعبي، وفي عام 2020 لم يستلم الموظف الكردي سوى أربعة رواتب مع استقطاعات تصل الى 20 بالمئة.
أي عدالة هذه وأي ادارة للإقليم، لسان حال الشعب الكردي يقول لا مجال للانتظار، أو أن الواقع يدفعه للانفجار ضد حكومته، إنها ارتدادات سوء الادارة من غرب العراق إلى وسطه وجنوبه ثم إلى إقليمه الوحيد، إنه الزلزال السياسي الذي يضرب العراق، فلا علاقة لوعي المواطن بحقوقه بقدر تعلق الأمر بانتفاخ المنظومة الحاكمة وحصرها المواطن في زاوية لا يملك فيها خياراً سوى الثوران مثل البركان.
والبراكين لا تعرف التنظيم ومراعاة العلاقات الطبيعية، تبحث البراكين عن المساحات الرخوة لخروج حممها إلى الفضاء المتاح أمامها، والفضاء العراقي المفتوح للدول الخارجية سيكون أفضل بيئة للزلازل والبراكين السياسية خلال السنوات المقبلة.
اضف تعليق