q
استمرار التشظي العربي الحاد، يؤدي في المحصلة النهاية إلى أن يتحول الكيان الصهيوني إلى حاجة عربية بمعنى أحد اللاعبين الأساسيين في الداخل العربي.. ولا ريب أن هذه الحالة تشكل خطرا استراتيجيا على الأمن القومي العربي. فإسرائيل كيان عدواني خطير، لا يمكن مهما كانت ظروفنا السياسية...

أثار العدوان الصهيوني الأخير على قطاع غزة، الكثير من الأسئلة والتحليلات السياسية المتناقضة والمتباعدة في منطلقاتها ومآلاتها..

والمجال العربي بأسره، لم يشذ عن هذه المسألة، بل دخل المجال العربي بكل دوله ومؤسساته في عملية اصطفاف سياسي، لم يشهدها الواقع العربي من قبل..

فالحرب الصهيونية مدانة ومستنكرة من كل الدول والمؤسسات العربية، إلا أن قراءة العرب لهذه الحرب من الناحية السياسية – أفضى إلى قناعات وتصورات متعددة ومتباينة.

وما نود أن نثيره في هذا المقال هو:

كيف نمنع عملية أن تتحول إسرائيل إلى حاجة عربية..

بمعنى أن استمرار التشظي العربي الحاد، يؤدي في المحصلة النهاية إلى أن يتحول الكيان الصهيوني إلى حاجة عربية.. بمعنى أحد اللاعبين الأساسيين في الداخل العربي.. ولا ريب أن هذه الحالة تشكل خطرا استراتيجيا على الأمن القومي العربي..

وما نتطلع إليه أن يكون العدوان الصهيوني الأخير على غزة، هو الحدث الذي يجعلنا جميعا نفيق من إمكانية أن تتحول إسرائيل إلى دولة طبيعية في المنطقة..

فإسرائيل كيان عدواني خطير، لا يمكن مهما كانت ظروفنا السياسية والاقتصادية المحلية والإقليمية والدولية أن تجعلنا نعتقد أن بإمكان الكيان الغاضب أن يتحول إلى دولة طبيعية في المنطقة.. فالطبيعة العدوانية لهذا الكيان، هي التي تحول دون ذلك. ومن يراهن على غير هذا، فإنه يدخل المجال العربي بأسره في امتحان عسير على أكثر من صعيد. ولا شك أن خطاب خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في القمة العربية الاقتصادية في الكويت هو الذي أعاد البوصلة للعالم العربي. وهو الذي منع بعض الجهات العربية في التمادي على هذا الرهان الخاسر..

وقصة هذا الرهان أو هذه الرؤية بدأت منذ عقد الثمانينات من القرن الماضي تقريبا.

ففي نهاية عقد الثمانينات تسارعت الأحداث وتلاحقت بشكل هندسي مؤدية على المستوى الدولي إلى الانهيار السريع لنظام القطبية الثنائية الذي سيطر على العالم قرابة نصف قرن. وقد انعكس هذا الانهيار السريع لنظام القطبية الثنائية على كل بؤر التوتر التي كانت تستفيد بشكل أو بآخر من أجواء الحرب الباردة ووجود مظلتين دوليتين تعتبر وفق المقاييس الاستراتيجية دولا عظمى. ومن أهم البؤر التي تأثرت من انهيار هذا النظام وبروز الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى وحيدة في الساحة الدولية، بؤرة الشرق الأوسط والمشكلة العربية الإسرائيلية. إذ تلاحقت الأحداث والتطورات "على هذا الصعيد" بشكل سريع حتى وكأنها في سباق محموم مع الزمن إذ حاول الفكر الاستراتيجي الأمريكي من الاستفادة القصوى من الأجواء الدولية والإقليمية التي ترافقت مع انهيار المعسكر الشرقي وظهور ما يعرف برابطة الكومنولث للجمهوريات المستقلة والتي كانت جزءا من الاتحاد السوفييتي قبل زواله في نهاية عام 1991م.

وفي ذات العام بدأ التسويق الأمريكي لمشروع التسوية في منطقة الشرق الأوسط بين العرب وإسرائيل. فكان مؤتمر مدريد بداية مرحلة جديدة ما زالت انعكاساتها وتأثيراتها مستمرة على كل الأطراف الإقليمية والدولية المشاركة في عملية التسوية. وبدأ الواقع العربي والإسلامي يعيش تحولا جيوسياسي واستراتيجي خطير تمثل في القدرة الإسرائيلية على انتزاع اعتراف بعض الدول العربية والإسلامية لها من خلال التفاوض المباشر أو من خلال تداعيات المشروع الإقليمي "نظام الشرق الأوسط الجديد" الذي يعتبر قطار التسوية هو بوابته الأساسية والذي ستكون الدولة العبرية جزءا من مكوناته أن لم تكن الجزء الأساس والمهيمن.

وقد أثمر قطار التسوية اعتراف القيادة التاريخية للقضية الفلسطينية بالدولة العبرية كما وقع الأردن اتفاق سلام مع إسرائيل وكرت أثر ذلك سبحة الاتصالات المباشرة والعلنية مع المسئولين الإسرائيليين من قبل مسئولي العديد من الدول العربية والإسلامية وأصيب قانون المقاطعة ببعض التصدع وبالذات في درجته الثانية والثالثة. وبدأت الكثير من الدول العربية والإسلامية تعد ملفات التعاون القادم مع الصديق والحليف الجديد. تعددت الأطروحات والنظريات التي تحاول أن تنظم رؤية متكاملة لتحصين واقع الأمة أمام المتغيرات الإقليمية والدولية الجديدة وتشكل هذه الأطروحات الإجابة العربية التي تحول دون تحول "إسرائيل" إلى حاجة عربية. بمعنى أن تتحول إلى جزء طبيعي من هذه المنطقة وخريطتها السياسية والاستراتيجية..

وهذه الأطروحات هي كالتالي:

المصالحة بين الدولة والمجتمع:

باعتبار أن العالم العربي والإسلامي أمام استحقاقات وتحديات جديدة هو بحاجة إلى أن ينظم أوضاعه الداخلية لكي يتمكن من مجابهة التحديات بقدرة إضافية تؤهله من الاستجابة الحضارية لهذه التحديات. ولا شك أن وجود حالة من التناحر الداخلي وغياب أسس المصالحة بين الدولة والمجتمع يكلف الدولة الكثير ويجعل أداءها السياسي مرتبكا وغير قادرة على الاستفادة القصوى من إمكانات الجمهور في هذا السبيل.

وحتى لا تستفيد إسرائيل من التناقضات الداخلية في كل بلد عربي بحيث تندفع إلى تبني خيارات تزيد من أدوار التناقضات الداخلية مما يساعد إسرائيل على إنجاز تطلعاتها الإقليمية في السيطرة والهيمنة الشاملة. لكل هذه الأمور تتأكد مسألة المصالحة بين الدولة والمجتمع في الإطار العربي بحيث توفر الدولة لقوى المجتمع بعض مطالبها كما أن المجتمع بقواه المتعددة يقف وراء مشروعات الدولة ويسندها في سبيل مجابهة تحديات المرحلة بإمكانات إضافية وواقع سياسي جديد. والمصالحة بين الدولة والمجتمع تعني:

- احترام فاعليات المجتمع وقواه المدنية وتوفير السبل الكفيلة إلى مضاعفة جهودها وتوجهها إلى القضايا ذات الطابع النوعي والاستراتيجي.

- توفير الأسباب السياسية والثقافية والاقتصادية للانفراج الداخلي بحيث تنتهي الكثير من الاحتقانات الداخلية التي ترهق الدولة والمجتمع في آن واحد.

- توجيه الطاقات الوطنية إلى قضايا الأمة الجديدة واستحقاقاتها المصيرية وعدم صرف الطاقات الوطنية إلى أمور وقضايا هامشية وليست من صميم المصير الحالية.

- توفير أطر وأوعية جديدة لتعميق علاقة الدولة بالمجتمع والعكس بحيث تنتظم العلاقة في أطار تكاملي تزيل كل أسباب التوتر وسوء الفهم بين الطرفين. بحيث تبقى هيبة الدولة ووظائفها دون تواني المجتمع عن أداء دوره في خدمة وطنه ومجابهة تحدياته الجديدة. بهذه المفردات وغيرها تتحقق المصالحة الضرورية بين الدولة والمجتمع في الإطار العربي حتى يتسنى للعرب جميعا الظفر بالاستحقاقات الإقليمية الجديدة.

التنمية الاقتصادية:

لا شك أن التخلف الاقتصادي وضعف وتيرة التطور الاجتماعي يلقيان بظليهما الثقيل على كل مفردات الأداء السياسي والتفاوضي للدولة. كما أن الكثير من المشكلات الاجتماعية والسياسية هي وليدة الوضع الاقتصادي المهتريء حيث أن الفقر والجوع والبطالة كلها عوامل ومفردات تؤدي إلى الاضطرابات الاجتماعية مما يضعف الدولة ويجعلها عرضة للتأثيرات المختلفة. كما أن تخلف البنى والهياكل الإنتاجية في المجتمعات العربية، سيدفع ببعض الفئات إلى التعاون مع الإسرائيليين من موقع استهلاكي وسيجبر الدول العربية على قبول الشروط الإسرائيلية في تحديد ميادين الإنتاج في مرحلة ما بعد التسوية. لذلك فإن إطلاق مشروع التنمية الشاملة واستيعاب طاقات المجتمع المختلفة يعد مشروعا استراتيجيا يجعلنا بعيدين عن تأثيراته الخارجية السيئة.

وثمة عامل إضافي "خارجي" يؤكد أهمية مشروع التنمية الاقتصادية وهو أن العدو الإسرائيلي الذي نواجهه متقدم اقتصاديا، ويمتلك الكثير من عوامل التفوق الاقتصادي.

وتاريخيا كانت هناك علاقة وثيقة بين قدرة الدولة على ضمان وإشباع الحاجات الأساسية للمواطنين وتنظيم الإنتاج وبين دورها السياسي الخارجي الفعال بينما إذا ضعفت وتيرة التنمية الاقتصادية واهتزت قاعدة الإنتاج في المجتمع فإن الدور السياسي الخارجي يبقى ضعيفا وبعيدا عن مستوى التأثير الفعال.

والتنمية بوصفها عملية تغيير اجتماعي اقتصادي مستديم فإنها توفر الأرضية الاجتماعية الاقتصادية القادرة على صناعة دينامية اجتماعية متواصلة تزيد في تنمية القاعدة المادية الإنتاجية للمجتمع. وهذه العملية تنطوي على إشباع الحاجات الأساسية لأفراد المجتمع وقدرة الدولة في توفير متطلبات الدفاع عن كيانها وسيادتها واستقلالها ومواجهة مؤامرات الأعداء ومطامحهم التوسعية.

التحصين الثقافي:

إن العقل الاستراتيجي الإسرائيلي يدرك أن وجود الدولة العبرية في المنطقة لا يكون طبيعيا إلا إذا تم مسخ قيم الناس وثقافاتهم الأصيلة. لذلك فهم يبذلون الجهود الضخمة للضغط على الدول العربية لتصفية مناهجها التعليمية من القضايا والأمور التي تمس اليهود سواء قرآنيا أو تاريخيا..

لهذا فإن من المشروعات الاستراتيجية التي ينبغي أن تتكاتف الجهود والطاقات في سبيل بلورة آفاقه وتشييد أركانه هو العمل الثقافي الذي يتجه إلى تحصين الأمة من مخاطر التخريب الثقافي والمعرفي، وزيادة فعالية الثقافة ودورها في المجتمع.

وبالتالي فإن هذه المشروعات والظروف السياسية والاجتماعية التي نضعها تؤهل العالم العربي والإسلامي للوقوف بجدارة أمام التحديات الراهنة واستحقاقات الصراع مع العدو الصهيوني في هذه الحقبة. وهي التي تمنع تحول إسرائيل "أمنيا وسياسيا واقتصاديا" إلى حاجة عربية..

وما جرى في غزة من عدوان وحشي صهيوني على أهلنا العزل، وأهلك الحرث والنسل، ودمر البنية التحتية لكل القطاع. يحملنا مسؤولية دينية وأخلاقية وقومية وإنسانية لمواجهة مفاعيل هذا العدوان..

إذ إننا كعرب مطالبون للعمل عبر وسائل عديدة للأمور التالية:

1- تعزيز صمود أهلنا في غزة، والإسراع في مد يد العون والمساعدة لإعادة ما دمرته الآلة الحربية الإسرائيلية..

2- العمل على توفير المناخ السياسي المطلوب، لتحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية. لأن استمرار الانقسام الفلسطيني بين الضفة والقطاع، يضر بالقضية الفلسطينية، ويدخلها في نفق مظلم من الضعف والتشظي القاتل..

3- الانخراط في حركة دبلوماسية نشطة، لتقديم كل المجرمين الصهاينة المسئولين عن مذابح غزة إلى المحاكم الدولية. فما جرى انتهاك صريح لكل الأعراف والمواثيق الدولية. وعلينا أن نعمل من أجل فضح هذه الممارسات ومحاكمة المسئولين عنها.

4- المصالحات العربية – العربية، أضحت ضرورة قومية قصوى، بعد العدوان على غزة..

وخطاب خادم الحرمين الشريفين في الكويت، خلق الأرضية المناسبة للانطلاق في مشروع المصالحات العربية، الذي يخرج الجميع من أتون الخلافات والانقسامات التي تضر الجميع وتنفع أعداء الأمة.. فالعدوان الصهيوني على قطاع غزة، ينبغي أن يشكل نقطة تحول استراتيجي في المجال العربي، باتجاه المزيد من سد الثغرات وبناء العلاقات العربية – العربية على أسس جديدة، تضمن حقوق ومصالح الجميع، والرهان الدائم على القوة العربية التي تمنع انتهاك الحقوق، وتعيد الحق إلى أصحابه وتحول دون أن يتحول الكيان الصهيوني إلى لاعب أساسي في المجال العربي..

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق