هناك شيء ما يحفز البحث الابستيمولوجي على مر الأزمان والثقافات، شيء يقود رغباتنا عالميا لإمتلاك المعرفة. نعم، كل الناس يرغبون بالمعرفة، يتبع ذلك ان من واجبنا الاساسي هو ان ننمو في المعرفة ومن ثم نتعلم الحقيقة. نحن مسؤولون عن تربية ذكائنا العقلي الذي يميزنا عن البهائم...
من المألوف ان نجد في المراحل الاولى من التعليم، يبدأ الأطفال عادة استجواب آبائهم وذويهم الكبار بالسؤال "لماذا؟"، وعادة يكون مثيرا للقلق لو ان الطفل لا يبدي نوعا من الفضول في حياته المبكرة. هذا الفضول الطبيعي او البحث عن المعرفة ينبثق اساسا من الطبيعة العقلانية للانسان –كبرياء وفرح الانسانية– اللذان يميزانه عن الحيوانات.
عبارة ارسطو "كل الناس يرغبون بالمعرفة" (ارسطو، الميتافيزيقا 1.980a) اصبحت حجر الزاوية في توضيح الطبيعة الانسانية. الايبستيمولوجي يركز على جوهر هذه الرغبة من خلال اهتمامه بطبيعة ونطاق المعرفة. ان البحث الايبستيمولوجي بدأ منذ بداية الزمن من خلال الثقافة. وهو نفس السؤال الذي يثيره الأطفال: لماذا؟ لماذا نأخذ البحث الابستيمولوجي بهذه الدرجة من الاهتمام؟
هناك شيء ما يحفز البحث الابستيمولوجي على مر الأزمان والثقافات، شيء يقود رغباتنا عالميا لإمتلاك المعرفة. نعم، كل الناس يرغبون بالمعرفة، يتبع ذلك ان من واجبنا الاساسي هو ان ننمو في المعرفة ومن ثم نتعلم الحقيقة. نحن مسؤولون عن تربية ذكائنا العقلي الذي يميزنا عن البهائم. هذا المبدأ الاساسي لمسؤوليتنا الفكرية هو الذي يحفز البحث الابستيمولوجي ويوحّده على مر التاريخ.
المسؤولية الفكرية هذه تغيرت عبر مختلف الازمان والثقافات. بالنسبة للعديد من الفلاسفة القدماء مثل افلاطون، ترتبط هذه المسؤولية بحياة ارضية جيدة وكذلك تعني حياة جيدة لما بعد الموت. بالنسبة للعديد من الفلاسفة المسيحيين في القرون الوسطى وعصر النهضة، مثل توما الاكويني والقس اورلينوس اوغستين وغيرهم، اُعتبرت المعرفة –وبطرق مختلفة– هي الوسيلة الى الله. اثناء عصر التنوير كان للتعليم والفلسفة أهمية سياسية معينة.
وفي العصور الحديثة، قامت غالبية دول العالم الأول بتأسيس نظام تعليم ابتدائي إلزامي لكي تخلق مجتمعا جيدا. مرة اخرى، في مختلف الأديان اُعتبرت المعرفة شيئا ثمينا جدا، في المسيحية، كان التوازن بين الايمان والعقل هاما جدا، وفي الاسلام، تؤثر كمية ونوع المعرفة المتحصلة في هذه الحياة على مكان المرء في الحياة الاخرى. وبصرف النظر عن الحافز المعين لهذه المسؤولية، فان الحافز الدائم وراء البحث الابستيمولوجي هو المسؤولية عن شيء ما كأن يكون أمل او إيمان او سعادة او تحسين الجماعة وغيرها. هذه الورقة تستكشف الدوافع وراء ابستيمولوجيا كل من افلاطون واوغستين.
المسؤولية في ابستيمولوجيا افلاطون
ان البحث الابستيمولوجي للمعرفة والحقيقة له أهمية كبيرة في حوارات افلاطون، حيث يخصص وقتا طويلا في نقاش طبيعة ونطاق المعرفة. (مينو) هو حوار اساسي لفهم الرؤية الابستيمولوجية لإفلاطون حول طبيعة المعرفة بينما اساطيره ومقارناته يمكن استخدامها لفهم أفضل لرؤيته حول شكل ونطاق المعرفة. في (مينو)، يقول سقراط ان من الضروري للناس على الأقل الايمان انهم يستطيعون معرفة الحقيقة لكي يعيشوا حياة جيدة: "انا سوف اكافح مهما كلف الثمن بالقول والفعل بمقدار ما استطيع واننا سنكون افضل الناس واكثر شجاعة واقل كسلا، لو اعتقدنا انه يجب على المرء البحث عن الاشياء التي لا يعرفها"(86b-c).
في حوار (مينو)، بينما سقراط ومينو يناقشان طبيعة المعرفة، يقوم مينو دون قصد بمناقشة ما يسميه سقراط "حجة المناظر" debater’s argument، (80e)(1) وهي، مفارقة تستجوب الكيفية التي نصل بها لمعرفة الاشياء. الحجة تضع العارف في مأزق لا يستطيع الخروج منه: "هو لا يستطيع البحث عما يعرف – طالما هو يعرفه، لا حاجة هناك للبحث ولا يستطيع البحث عما لايعرف، لأنه لايعرف ما يبحث عنه"(80e). هذا الجدال يبدو يدفع البحث الابستيمولوجي نحو الشك والذي هو امر خطير لو اعتقدنا بضرورة البحث الابستيمولوجي.
سقراط مع ذلك يقول ان "حجة المناظر" ليست سليمة (81a). حلّه للمأزق هو في اقتراح نظرية التذكر recollection theory. هذه النظرية ترى انه خلال عملية التناسخ، تكون لدى ارواحنا سلفا معرفة من حياتنا الماضية التي "نسيناها" عندما تكررت ولادتنا في أجسام جديدة. التذكر هو ببساطة تذكّر الحقائق المعروفة سلفا والتي لا تتميز مباشرة. المسؤولية الابستيمولوجية لإفلاطون لها هدف في حياة ارضية مثمرة ولكن بالنهاية ستصبح منقادة بالأمل في حياة اخروية جيدة او الأمل بمكافأة أبدية في حياة اخرى.
اسطورة افلاطون في (Er) تلقي الضوء على نظرية سقراط في التذكر والتناسخ وتأثيرها على البحث الابستيمولوجي. في الاسطورة ينتقل الجندي (Er) الى ما بعد الحياة بعد موته في احد المعارك لكنه عاد الى حياته الحالية مرة اخرى كجندي. هو يقص لرفاقه انه بعد موته في المعركة، استيقظ ليجد نفسه في وادي عظيم مملوء بالأرواح القادمة اما من الجنة او من النار. هذه الارواح أمضت آلاف السنين اما في مكافأة او في عقوبة على حياتها الماضية. الارواح القادمة من الجنة تتدفق من فجوة عملاقة في السماء وهي تأخذ طريقها بهدوء نحو الوادي. في مدخل الجحيم (فجوة عظيمة في الارض) هناك حرّاس. الارواح القادمة من الجحيم كانت اكثر قلقا وعادة لا يسمح الحراس لأرواح معينة للدخول. هذه الارواح كانت من أسوأ الانواع في حياتها الماضية: مجرمون، طغاة، سراق وما شابه. كل الارواح التي سُمح لها بالدخول تلتقي هناك، تتحدث مع بعضها، يتبادلون تجاربهم في الحياة بعد الموت.
وبعد عدة ايام، كان على الأرواح ان تسافر بعيدا جدا حتى تصل الى مغزل الربة ضرورة spindle of necessity (2) حيث تجلس السيدة ضرورة وبناتها الثلاث. كل الارواح ما عدى روح (اير)، الذي عليه ان يستمر في حياته السابقة، مُنحوا حظا من قبل الضرورة، بموجبه تتقدم كل روح الى الامام وتختار حياتها القادمة. يحكي (Er) ان اول ما تختاره الروح جعلها تعيش حياتها السابقة بفضيلة "بالإعتياد وبدون فلسفة".(619d). هذه الروح تختار دون عناية، تختار حياة الطاغية السلطوية دون اعتبار للمصير المفزع الذي سيكون فيه في تلك الحياة. الارواح تأتي وتذهب، البعض يتأملون قراراتهم أكثر من الآخرين. الروح الاخيرة في عمل القرار كانت اوديسوس Odysseus. يقول (Er) ان اوديسوس تجول باحثا عن حياة خاصة جدا: حياة "فرد خاص انجز عمله الخاص"(10.620). حالما اختارت جميع الارواح حياتها، فان مصيرها تقرر من قبل الضرورة. الارواح جاءت الى مكان قاحل وجاف وحار سمي وادي النسيان، ثم تابعت مسيرها الى نهر اللامبالاة، حيث كل روح – عدى Er- شربت من النهر، فنسيت كل شيء وذهبت للنوم.
في منتصف الليل نُقلت الأرواح النائمة بعيدا "كشهب النجوم"(10.621b) لمولد حياتها الجديدة. عندما استيقظ Er، وجد نفسه على الرصيف بتذكّر كامل لكل شيء رآه. ان اسطورة Er جرى تفسيرها بطرق عديدة جدا لكي يمكن الحصول على رؤية عن مختلف مظاهر الفلسفة الافلاطونية ولكي تعمل كمثال فعال لأهمية المعرفة. وبقدر ما يتعلق الامر بالمسؤولية الابستمية، فان أهمية هذه الاسطورة تكمن ضمن الخيارات التي قامت بها الارواح التي ستتقمص من جديد. وعلى الرغم من ان كل روح تختار حياتها القادمة، لكنها اُعطيت نصيبا معينا تتحدد به قراراتها. اول ما تختاره الروح يتضمن مختلف الاشياء التي يمكن الاختيار منها، لكنها مع ذلك هي تختار بلا مبالاة. يقول Er ان هذا الانسان كان في السابق يعيش حياة عادلة بدون فلسفة، لأجلها كوفئ الف سنة.
الخيار الطائش للانسان العادل بالاعتياد يجسد اهمية المعرفة بدلا من مجرد العمل. لو امتلك الانسان في حياته السابقة فلسفة وعرف العدالة الحقيقية، عندئذ لكان اعترف بان حياة الطاغية لم تكن عادلة، ولما اختارها. وربما فكّر بعناية بنتائج عيش حياة دكتاتورية وادرك مصيره المفزع. (مارينا ماكوي) تزعم انه "رغم ان هذا الانسان كان في الجنة وشهد المكافئات المخصصة للانسان العادل، هو لايزال يفتقر للإعداد الكافي للفهم، اي انه غير قادر على "النظر في ما حوله" وادراك الحياة الكلية للطاغية، في خسارتها بالاضافة لإغراءاتها الظاهرة. هو لا يعرف كيف يرى(136)". وبينما كانت روح الانسان العادل بالعادة جرى مكافئتها لكونها عاشت حياة جيدة، لكنه يفتقر للمعرفة الضرورية ليختار حياة قادمة جيدة.
ومن جهة اخرى، اوديسوس هو آخر روح تختار ومع ذلك هو يختار بعناية شديدة حتى من بين خياراته المحدودة. اوديسوس كان في العديد من المغامرات الكبرى في حياته الماضية وتعلّم عدة اشياء، ويمكن اعتبار خياره ذروة الاسطورة. لكي يفهم اهمية الحياة هو يبدو يبحث بعناية شديدة عن حياة الانسان الخاص التي يستطيع بها متابعة الفلسفة. اوديسوس مستعملا عبارة (ميكوي)، يعرف كيف يرى، هو يفهم اننا مسؤولين عن متابعة المعرفة لكي نكافأ ابديا. ذلك يعني ان، اوديسوس يختار حياة الفيلسوف بأمل ان يكون قادرا على ان يبقى مكافأ ابديا في ما بعد الحياة طالما هو يتابع المعرفة بأتم ما يمكن في حياته التجسيدية القادمة. عندما تأتي الارواح الى نهر النسيان، يوضح Er ان الارواح"عليها ان تشرب مقدارا معينا من الماء، لكن اولئك الذين لم ينقذهم العقل شربوا اكثر من ذلك، وعندما شرب كل واحد منهم، نسوا كل شيء وذهبوا للنوم"(10.621). ان الارواح التي لم ينقذها العقل في حياتها الماضية شربت اكثر مما يُفترض، وبالنتيجة سوف لن تمتلك الكثير لتتذكره في حياتها القادمة. ان اسطورة Er تجسد كيف ان المعرفة في ابستميلوجيا افلاطون هي ضرورية لننجح ونزدهر في دورة الحياة.
ابستيمولوجيا اوغستين
تطغى ابستيمولوجيا اوغستين على معظم أعماله. انها واسعة وتتغير بشكل كبير في اطار تحوّله الى المسيحية ولذلك فهي تتغير تبعاً لزمن تطوره النظري الذي كتب به كل أعماله. بدأ اوغستين عمله كأفلاطوني راسخ ولكن عند تحوّله الى المسيحية تغيرت ابستيمولوجيته بعيدا عن الوثنية. وبصرف النظر عن المدى الذي وضع فيه اوغستين نظرياته بعيدا عن نظريات افلاطون، بقي معه نفس المأزق في مفارقة مينو. في الكتاب الاول من اعترافاته، يثير اوغستين مفارقة مشابهة لمفارقة مينو: في الصلاة، يسأل اوغستين كيف يبحث المرء عن الله بدون معرفة سابقة به، ولماذا يحتاج المرء للبحث عنه اذا كان المرء عرفه سلفا(الاعترافات1.1). اوغستين مبعدا نفسه عن افلاطون، يجد بالنهاية جوابه كشيء مشابه للتذكّر لدى افلاطون، مع ذلك لايزال يختلف كثيرا: الذاكرة الالهية. اوغستين يعترف بان الله عارف بكل شيء ويؤكد اننا نستطيع الحصول على المعرفة والحقيقة من خلاله الذي هو الحقيقة.
في الكتاب (X) من اعترافاته يعلن اوغستين بوضوح ان كل الناس يرغبون بالسعادة: "انها شيء معروف للجميع، وهل يمكن سؤالهم بصوت واحد ما اذا كانوا رغبوا ليكونوا سعداء، بدون شك هم سيجيبون انهم سيرغبون ذلك"(10.29). ولكن طالما ان الذاكرة تحتفظ بكل شيء فيجب ان يكون هناك شيء ما في الذاكرة بواسطته نعرف ماهي الحياة السعيدة. في الكتاب (X) يصنف اوغستين مختلف اجزاء الذاكرة وفق مختلف وظائفها: الاحتفاظ بصور الاشياء الفيزيقية، وتصوّر الاشياء غير الفيزيقية مثل الارقام والاشياء المجردة التي نمتلكها مثل البلاغة او الفطنة، والعواطف التي نستطيع تذكرها بدون الشعور بها مثل المرح والحزن والغضب. السؤال اذاً يصبح، في أي جزء من ذاكرتنا تقيم الحياة السعيدة؟ هو يستنتج انها يجب ان تكون من نفس الجزء من الذاكرة الذي نحتفظ به بالمرح: لأن الحياة السعيدة ليست مادية، ولا هي تشبه الارقام طالما اننا عندما نعرفها لانزال نشتاق لها، ولا هي تشبه البلاغة لأننا نستطيع معرفتها بدون حيازتها. مع ذلك نحن نستطيع معرفة المرح بينما لانزال نشتاق له وبدون حيازته حاليا، والذي هو نفس الطريقة التي يتم بها تذكّر الحياة السعيدة(10.30). المرح والحياة السعيدة مرتبطان بالضرورة. يقول اوغستين، ان المرح الحقيقي هو في معرفة الحقيقة التي هي الله ذاته. لذلك، فان الله هو الهدف الابستيمولوجي لاوغستين. من خلال الله نحن نكون قادرين على معرفته ومعرفة انفسنا التي صُنعت في صورته. وفق هذا المنظور، لكي نمتلك السعادة هي ان نعرف، وطالما كل الناس يرغبون بالسعادة، فهم يرغبون بالمعرفة. المسؤولية الابستيمولوجية لاوغستين تكمن ضمن اكتساب الحياة السعيدة، الحياة التي تمتلك معرفة الحقيقة التي هي الله.
كل من البحث الافلاطوني والاوغستيني منقادان للواجب. هما يختلفان كثيرا نتيجة لثقافتهما وزمانهما لكن حافز المسؤولية يبقى ثابتا. كلا الرجلين يعتبران البحث الابستيمولوجي مفيدا للحياة الارضية بمقدار ما يزرع السعادة والشجاعة والانتاجية. المعرفة لأجل هذه الحياة مفيدة وهي ضرورية للحياة القادمة. اسطورة افلاطون في (Er) تبيّن انه بدون العقل والمعرفة، ستلتصق الارواح في حلقة مفرغة من اختيار الحيوات السيئة وسوف لن تبقى ابدا في الجزاء الأبدي. ابستيمولوجيا اوغستين تشير للمعرفة كونها هدية تيليلوجية من الله تأتي من خلال ذاكرتنا الالهية، الهدف من حياتنا هو لكي نعرف الحب ونخدم الله وان مكافأتنا ستأتي.
هذان فقط مثالان عن الكيفية التي يمكن ان يتحفز بها البحث الابستيمولوجي من خلال المسؤولية. وكما ذكرنا أعلاه، العديد من الفلاسفة الآخرين لهم افكارهم الخاصة حول هدف وحافز البحث الابستيمولوجي، وقد تجسد ذلك خلال الثقافة الحديثة والأديان المنظمة حول العالم ايضا. المسؤولية الابستمية هي عامل رئيسي لبقاء البحث الابستيمولوجي سواء اُعترف بها بوضوح ام لم يُعترف. وبفضل المسؤولية الابستمية استمر البحث عن الحقيقة من العصور القديمة واصبح للرغبة بالمعرفة هدفا.
اضف تعليق