لا تنشدُ التربيةُ والتعليمُ في الاستبدادِ تعليمَ التفكير، وترسيخَ مبادئ الحقِّ في الاختلاف، والحقِّ في الخطأ، والحقِّ في الاعتذار عن الخطأ، بل تنشدُ تكريسَ الطاعةِ العمياءِ والإذعانِ والرضوخِ والعبوديةِ الطوعية، عبر تنميطِ شخصية التلميذ، وإنتاجِ نسخٍ بشرية متماثلة، تفتقد ملامحَها الشخصية وبصمتَها الخاصة، فيتوالد الاستبدادُ...
بقلم: عبد الجبار الرفاعي
في التربيةِ يكون الكائنُ البشري فاعلًا، في الترويضِ يكون الكائنُ البشري منفعلًا. التربيةُ تبتني على مسلّمةٍ ترى كلَّ إنسانٍ نسخةً ذاتَ تميّزٍ وفرادة، تمتلكُ طاقةً جوانيةً ينبغي أن تنبعث، كي تتشكّلَ شخصيتُه المستقلة. الترويضُ يبتني على مسلّمةٍ ترى الناسَ أشياءَ تأخذ شكلَ القالبِ الذي تنسكب فيه، لذلك ينبغي أن يصير الكلُّ نسخةً واحدةً، متماثلةً ملامحُها، متشابهةً مواصفاتُها، محاكيةً خصائصُها لغيرها.
الترويضُ عمليةُ تدجين تنقضُ فلسفةَ التربية وأهدافَها في بناءِ الإنسان وتأمينِ سلامته النفسية، وتكريسِ سكينته الروحية، وإحياءِ ضميره الأخلاقي، وتحطيمِ أغلال عقله وفك قيود تفكيره. تنشد التربيةُ إيقاظَ الطاقة الكامنة في روح وقلب وعقل هذا الكائن، فيما ينشد الترويضُ تنميطَ شخصيته وسكبَها على شكلِ قالبٍ متحجّر لا يتبدل.
تعمل السلطةُ في الاستبدادِ على أن تعتمد التربيةُ في العائلة والمدرسة والمجتمع التلقينَ. يشلّ التلقينُ العقلَ ويعطِّلُ التفكيرَ، ويطفئ الروحَ ويميتُ الإيمانَ الحرّ. بالتلقينِ والتكرار تظهر الأوهامُ والخرافات والأكاذيب كأنها حقائق. الحقيقةُ هي ما يظهره التكرارُ على أنه حقيقية، وما يحسبه الذهنُ حقيقية، وإن لم تكن كذلك في الواقع. معظمُ الصراعات والحروب والمجازر البشرية سبّبتها أوهامٌ وأكاذيب وسيناريوهات ومعتقدات افتعلتها أذهانٌ محترفة.
لا تنشدُ التربيةُ والتعليمُ في الاستبدادِ تعليمَ التفكير، وترسيخَ مبادئ الحقِّ في الاختلاف، والحقِّ في الخطأ، والحقِّ في الاعتذار عن الخطأ، بل تنشدُ تكريسَ الطاعةِ العمياءِ والإذعانِ والرضوخِ والعبوديةِ الطوعية، عبر تنميطِ شخصية التلميذ، وإنتاجِ نسخٍ بشرية متماثلة، تفتقد ملامحَها الشخصية وبصمتَها الخاصة، فيتوالد الاستبدادُ بوصفه نتيجةً طبيعيةً لكلِّ ذلك.
تشدّد كلُّ برامج وتعليمات وقرارات المستبدّ على ترويضِ الكائن البشري وتدجينِه على التكيّفِ الاجتماعي بالإكراه، ويعتمد في ذلك أداتين: التلقينَ الرتيب المتشابه المُمِل حدّ القرف، والتخويفَ والعقاب الأليم والبطش على أية مخالفة مهما كانت صغيرة، وأحيانًا يتمادى المستبدّ في ذلك فيحاسب حتى على النوايا المضمرة.
تُهدَر في الاستبداد الكرامةُ، وبإهدارها تموت المسؤوليةُ وتختفي، ويتحول الكائنُ البشري إلى مسخ. يشدّد المستبدّ على طمس ِكلِّ أنواع الاختلاف، وإنتاجِ نسخٍ متشابهة لكلِّ البشر، وكأن كلَّ الناس في ظاهرهم نسخةً واحدة تكرّر نفسَها. العمل على تعطيل الاختلاف ينتج تعطيلَ الإبداع الخلّاق والابتكار والتطور.
في المجتمعات التي يتوطن فيها الاستبدادُ طويلاً يتلاشى تقديرُ الكثير من الناس للذات، ويختفى معنى الفرد. المستبدّ يتعامل مع الكلِّ وكأنهم نسخةٌ واحدة، من دون اهتمامٍ بمكانتهم العلمية والأخلاقية والروحية. يعجز الشخصُ المهدور الكرامة عن تقدير قيمة الكرامة، ويتعامل مع الغير من دون أن يهتمّ باحترام كرامتهم ومقامهم، إلا عندما يشعر بالخوف.
الأنظمةُ الشمولية المستبدّة يقلقها استقلالُ الكائن البشري وفرديتُه، لأن استقلالَه وفرديتَه هو الطريق الوحيد لتقويض هذه الأنظمة. تخيف الأنظمةَ الشمولية حريةُ الكائن البشري في التفكير والتعبير واتخاذ المواقف المستقلة "بالاعتماد على فهمه خاصة"، كما هو شعارُ التنوير عند كانط.
المجتمعُ في الاستبدادِ استبداديٌ، الثقافةُ في الاستبدادِ استبداديةٌ، الاقتصادُ في الاستبدادِ استبداديٌ، الأخلاقُ في الاستبدادِ استبداديةٌ، السياسةُ في الاستبدادِ استبداديةٌ، الحزبُ في الاستبدادِ استبداديٌ، الجماعةُ في الاستبدادِ استبداديةٌ، العائلةُ في الاستبدادِ استبداديةٌ. ويشدد مونتسكيو على أن: "الدينَ في الاستبدادية هو بحد ذاته استبداديٌ، إنه خوفٌ مضافٌ إلى الخوف". وهكذا يكون التديّنُ في الاستبدادِ استبداديٌ، إذ ترتسم صورةُ الله لدى الناسِ بصورةٍ تشتقّها المخيلةُ من صورةِ المستبدّ، فترسمها بألوانٍ مخيفة تثير الاكتئابَ وتهدّد بالأهوال، تحاكي تجّبرَّ المستبدّ وطغيانَه في الأرض.
تشيعُ في فضاءِ الاستبدادِ حياةٌ دينيةٌ مسجونةٌ بمعتقداتٍ ومفاهيمَ مغلقة، تتغلغل في الوعي واللاوعي الفردي والجمعي، وثقافةٌ دينيةٌ لا تعرف معانيَ الحرياتِ والحقوق. الإنسانُ الذي يعيش في نظامٍ مستبدّ يعيش قلِقًا خائفًا مذعورًا، وبدلًا من أن يكونَ الدينُ في حياته مُلهِمًا لطمأنينة القلب وسكينة الروح، ومصدرًا لإيقاظِ الضميِر الأخلاقي، يتحول الدينُ إلى مصدرٍ للتخويف والاكتئاب والقهر والإذعان والتركيع.
الأخلاقُ في الاستبدادِ استبداديةٌ، إنها أخلاقٌ يتوارى فيها الضميرُ الأخلاقي، بعد أن يخضعَ سلوكُ الإنسان لإكراهٍ يفرض عليه مواقفَ وسلوكًا مضادّا يحجب ما يخفيه من قناعات. يشيع في الاستبدادِ النفاقُ السلوكي، الظاهرُ في شخصية الإنسان يُكذِّب الباطن، والباطنُ في الشخصية يُكذِّب الظاهر. الاستبدادُ من أخبث خطايا السلطة، لأنه يفسد كلَّ شيء يستحوذ عليه، وهو بطبيعته لا يبقي شيئًا في حياة الفرد والمجتمع من دون أن يستحوذَ عليه.
السياسةُ في الاستبدادِ إلغاءٌ للسياسة. السياسةُ فعلٌ مجتمعي، والاستبدادُ يختزل المجتمعَ كلَّه بفردٍ واحد، يحتكرُ كلَّ شيء بيده. يحوكُ المستبدّ نسيجًا متشابكًا متشعّبًا وعرًا مركبًا معقدًا للسلطة، يبدأ فيها كلُّ شيء منه وينتهي كلُّ شيء فيه، بل يختزل المستبدّ المجتمعَ كلَّه بشخصه، بنحوٍ يفضي فيه نحرُ المستبدّ إلى نحرِ المجتمع.
المستبدّ يحتكر الفضاء العام، يحتكر كل شيء في شخصه، يختصر الدين والثقافة والقيم والسياسة وكل شيء فيه. الاستبداد حكم الفرد، يختصر هذا الفرد كل شيء في حياة الناس بتفكيره ومعتقداته ورؤيته للعالَم وثقافته وقراراته، لا تفكير خارج تفكيره، لا معتقد خارج معتقداته، لا رؤية خارج رؤيته للعالَم، لا ثقافة خارج ثقافته، لا قرار خارج قراراته. للسلطة المستبدّة بنية هرمية خاصة، تنتج نمطَ علاقات تسلطية في العائلة والقبيلة والحزب والجماعة والمؤسسة مثلما تنتجه هي أيضًا.
يتحول الماضي في الاستبداد إلى ماضي المستبدّ، الحاضرُ حاضرُ المستبدّ، المستقبُل مستقبلُ المستبدّ، الأيامُ أيامُ المستبدّ، الفرحُ فرحُ المستبدّ، الحزنُ حزنُ المستبدّ، الثقافةُ ثقافةُ المستبدّ، الآدابُ آدابُ المستبدّ، الفنونُ فنونُ المستبدّ. في الاستبداد تسودُ الرتابةُ والتشابهُ، يغدو الزمنُ تكراريًا، الحاضرُ فيه يستأنفُ أسوأَ ما في الماضي، المستقبلُ فيه يستأنفُ أسوأَ ما في الحاضر.
يبدأ كلُّ شيء من حيث انتهى، ينتهي كلُّ شيء من حيث بدأ، البداياتُ تكرّر النهاياتِ، النهاياتُ تكرّر البداياتِ. في الاستبدادِ كلُّ شيء يتكرّر، وتتوقف حركةُ التطور، لأن قوانينَ التطور ينفيها الزمنُ التكراري. التكرارُ يبدّد الشغفَ في الحياة، وتندثر معه قدرةُ الكائن البشري على الخلق والإبداع. في الاستبدادِ يكون كلُّ شيء كفيلم يكرّر نفسَه آلافَ المرات، يتوقف الزمنُ الشخصي، ويمسي الإنسانُ كائنًا محنطًا.
يتكلم المستبدّ كثيرًا بالسياسة والدولة والقانون والوطنية، ويشغل الناسَ بالشعارات الصاخبة، لكنه عمليًا يعبثُ بالحياة السياسية فيهشّمها، ويبدّد مورادَ الوطن بحروبٍ عبثية، ويفكّك الأسسَ المركزية للدولة.
السياسيةُ في الاستبداد مهنةُ من لا مهنةَ له. أما العلماءُ والخبراءُ المختصون في الدولةِ، والنظم السياسية، والإدارة، والاقتصاد، والنظام المالي، ومختلفِ العلوم والمعارف الحديثة، فلا حضورَ لهم في بناءِ الدولة وإدارتها، وإن حضروا لا يمتلكون سلطةَ اتخاذِ قرار، ويظلّ دورُهم هامشيًا يضعهم المستبدّ حيثما يشاء في ما يشبه الديكور لسلطته.
المستبدّ يستثمرُ التراثَ والهوياتِ العرقية والمعتقداتِ الدينية وكلَّ ما يرسّخ تسلَّطه بدهاء، فيثير فزعَ الطوائف ويستعدي بعضَها ضدَّ البعض في الوطن الواحد، بإذكاءِ الضغائن والأحقادِ الراقدةِ في الذاكرة العتيقة، وتفجيرِها بصخبٍ دعائي يثير غرائزَ الثأر والانتقام، ويزجّ الطوائفَ والإثنياتِ في نزاعاتٍ لا تنتهي، يجيّش فيها الكلَّ في مواجهة الكلِّ.
قوةُ الدولة في عالَم اليوم تعكسها قدرتُها على: تحييد الأعداء، واكتساب الأصدقاء، واستيعابِ المتخصصين في مختلف العلوم والمعارف الحديثة واستثمارِ خبراتهم في التنمية الشاملة. كما تعكسها قدرتُها على: تدبيرِ الاختلاف، وإدارةِ التعدّد، وحمايةِ التنوع، وحسمِ النزاعات المحلية والاقليمية بشكلٍ سلمي.
سرُّ التخلف في بلداننا يكمن في تواصل الاستبداد وتمويهه في التعبير عن نفسه بأنماط وأقنعة ودرجات مختلفة، الاستبداد يضرب كلَّ مفاصل الحياة ويحدث شللًا في كلِّ المؤسسات العامة، ويحدث اختلالاتٍ في حياة الفرد والعائلة، تتسبّب في خلق شخصية مأزومة. الاستبداد يتغلغل في النفس البشرية ويلبث مترسبًا في أعماقها، ويتغلغل في مختلف مرافق المجتمع، ويعيد إنتاجَ العلاقات وكلَّ شيء على وفق ما يرمي إليه، بنحوٍ يجعل الناسَ مستعدين للاستعباد، ويذعنون للاستبداد بشكلٍ طوعي بعد موت المستبدّ.
لو هلك المستبدّ تظل البنية الكامنة للاستبداد راسخة، نرى آثارها في كل ما حولنا. أمطار النار التي تحرق البلاد في حياة المستبدّ لن تختفي بعد هلاكه، ما دامت غيومها يوقدها مخزون التعصبات والكراهيات والأحقاد التي تدجّنَ الجمهور عليها وتطبّعَ سنين طويلة.
إعادةُ تأهيل الإنسانِ هي أعظمُ وأعقدُ التحدياتِ التي تواجه النظامَ الجديدَ الذي يحكمُ المجتمعَ بعد هلاكِ المستبدّ، لأن المستبدّ يمارسُ تهديمًا متواصلًا لمنظوماتِ القيمِ الأخلاقية والروحية والجمالية بكلِّ تجلياتها، ويعبثُ بكلِّ نظمِ التربيةِ والتعليم والادارة والمال والاقتصاد والاعلام، ويفسد مفاهيمَ الثقافة والآداب والفنون.
لا يمكن أن يتغير المجتمع ويتطور مالم يتم تفكيك البنى العميقة الكامنة للاستبداد، وفضح ما يتركه من عناصر مميتة في حياة الفرد والمجتمع. لا يزول الاستبدادُ بزوال المستبدّ، بل بتجفيف منابعه في التربية والتعليم، ونمط التدين، والثقافة والفنون والآداب والاعلام، والعمل على تفكيك كل ما ينتج الاستبداد من بنى عمودية ورأسية راسخة في المجتمع، واعادة انتاجها في سياق أفقي.
إن تقويض البنية التي يتركها المستبدّ في كل مرافق حياة المجتمع والدولة يتطلب سنوات طويلة، مهما كان نمط استبداده. يظل المجتمع ينوء بعبء ترسبات الاستبداد، يترك المستبدُّ المجتمعَ منهكًا ينزف، يلبث المجتمعُ منقسما على نفسه. حتى لو ذهب المستبدُّ يمكن أن تكون صورة النظام ديمقراطية، إلا أن مضمون هذا النظام يمكث استبداديًا بأقنعة بديلة.
من خطايا الاستبداد أن أكثرَ من زعيم في معارضة المستبدّ يصاب بأكثر عاهاته، المستبدُّ هو النموذجُ الذي يتمثل الزعيمُ المعارضُ شخصيتَه، ويعتنقُ معتقداتِه ويحاكي سلوكه من حيث لا يشعر، فلو ظفر المعارضُ بالسلطة لاحقًا يظهر الاستبداد على سلوكه ومواقفه في صورة "استبداد مقنّع". في الاستبداد المقنّع يعيد الزعيمُ البديل تأهيلَ رجال محترفين كان يستخدمهم المستبدّ في مهمات قذرة، ليقترف هؤلاء مختلف الخطايا بغية ترسيخ سلطة هذا الزعيم. النموذجُ المستبدّ يلبث غاطسًا في لا وعي الزعيم المعارض حتى اليوم الأخير من حياته، على الرغم من أن المستبدّ كان الضد لمثال النظام والسلطة الذي كان يبشّر المعارضُ الشعبَ به. المستبدُّ سلوكه مكشوف لا يتخفى بمواقفه، الزعيم الجديد لعوب مراوغ، يضع الديمقراطية لافتة من ورائه، لكنه يسلك سلوك المستبدّ.
بعد انهيار نظام المستبدّ تتميز مفاهيم ومواقف وأحلام الجيل الجديد ببصمتها الوطنية، الوطنية هي أيديولوجيا هذا الجيل. إنه جيلٌ حرٌ شجاع، لم يعاصر المستبدّ، ولم يعش أيامه الكئيبة، ولم تتسرب إليه أمراضُه السياسيةُ الخبيثةُ.
ومن خطايا الاستبداد تجفيف منابع إلهام الانتماء للأرض، وتقويض الهوية المشتركة الجامعة لكلِّ مكونات المجتمع الإثنية والدينية والطائفية، وتبديد ذاكرة الوطن العريقة، واسكات النداء الذي يعزف لحن الأرض ويتحدث لغتها الحضارية. مما يضطر الناس للاحتماء بهوياتهم الإثنية والدينية والطائفية، ومغادرة ذاكرتهم وهويتهم الوطنية المشتركة، ولا يمكن العودة للهوية والذاكرة وانبعاثهما مجددًا إلا بوضع استراتيجية علمية ذكية تتضمن برامج ثقافية وفنية واعلامية واجتماعية.
بعد هلاك المستبدّ نحتاج إلى إعادة بناء مقررات التربية والتعليم في ضوء فلسفة تبتني على الحقوق والحريات، وبناء وعي علمي بتاريخنا يفضح التواطؤ مع المظالم الشنيعة في ممارسات الخلفاء والسلاطين وانتهاكاتهم الكرامة البشرية بمختلف أشكالها، والكشف عن الاضطهاد والتنكيل والعذاب الذي كان يعيشه الرقيق، والسلوك المتوحش في أسواق النخاسة وبيع البشر والمتاجرة بهم كسلع يجري عرضها في الأسواق كما تعرض الأشياء والسلع المادية، وفضح مظالم الحكام المستبدين واستعبادهم للناس.
لا نرث الاستبدادَ في جيناتنا، الاستبدادُ ليس قدرًا حتميًا لمجتمعاتنا، وليس سجنًا أبديًا لشعوبنا، كما يشاع في بلادنا، ويعمل على تغذيته بقناعة أو بلا قناعة بعضُ الكتّاب والأدباء. الإنسانُ في مجتمعاتنا كاملُ الإنسانية، لا يحتاج كالسفيه إلى من يتولى تدبيرَ شؤونه، هو إنسانٌ تامُّ الأهلية ليس محجورًا عليه، ليس ربعَ إنسان أو نصفَ إنسان أو شبهَ إنسان. تكرارُ هذا القول محاولةٌ واعية أو غيرُ واعية لاستمرار الاستبداد وشرعنته. تجذّرُ الاستبدادِ يعودُ إلى مكوثه الطويل المرير، الذي أنتجَ شللَ العقلِ، وانحطاطَ الوعي، وفشلَ الدولةِ.
كلُّ مواطن يبحث عن نظامٍ يكفل له كرامتَه ويستردّ حريتَه. الإنسانُ يرفض بطبيعته الاستبداد، لأن جوهرَ إنساينة الإنسان كرامتُه، وجوهرُ الكرامة الحرية، وجوهرُ الحرية المسؤولية. الاستبداد يهدر الكرامةَ وكلَّ أشكال الحرية، إهدارُ الكرامة والحرية نفيٌ لمسؤولية الإنسان حتى عن نفسه. ليس هناك إنسانٌ يقبل بسلب كرامته وحريته، الإنسان المدجّن على العبودية يرتضي التنازلَ عن حريته، الإنسان وفقا لطبيعته البشرية تواقٌ للكرامة، تواقٌ للحرية، تواقٌ للمسؤولية.
لا يمكن بناءُ الدولة الحديثة في بلادنا من دون إعادةِ بناءٍ لمعنى السلطة والحكومة والدولة والوطن، وإعادةِ بناء معنى الفرد والمواطن والإنسان، في ضوءِ مكاسب الفكر السياسي والحقوقي الحديث، وفي سياقٍ يحرّرهما من رواسب ذاكرة الراعي والرعية، بوصفهما مرآةً لتقاليدِ القطيع، المؤسّسةِ على مفاهيم وقيم مشتقّة من الرعية في دولة الخلافة.
اضف تعليق