الخطاب الإعلامي إذا لم يكن موحدا ومتقنا فإنه قد يؤدي إلى تفكك وضعف الانتماء الوطني بكل أبعاده حتى في حالة وجود تمازج بين المكان والقيم والثقافة، كذلك يؤثر الخطاب الإعلامي في اللغة التي ترتبط بها الثقافة الوطنية والتي تشكل هوية أبناء البلد، إذ أن ثقافة...
لم يعد الإعلام أداة لنقل المعلومة إلى المتلقي فقط، بل أصبح وسيلة لبناء الثقافات والحفاظ على هويتها، وترسيخ وتعزيز القيم والمبادئ، فقد سعت الحكومات والدول إلى تأسيس خطاب إعلامي يهدف إلى تحقيق مهمتين أساسيتين، الأولى: مواجهة المدّ الإعلامي الخارجي الذي يمتلك أدوات تأثير عالية يسعى من خلالها للنفوذ في المنظومة الثقافية للدول غير المتجانسة مع المنظومة الثقافية العالمية، أما الثانية: فهي صياغة فلسفة إعلامية متوازنة قادرة على استيعاب المتغيرات الجديدة ودرء أخطارها المتوقعة على الهوية الثقافية لشعوب معينة.
إن الخطاب الإعلامي هو صناعة ثقافية تتعاضد على تأسيسها وسائل متعددة يظهر ذلك في طبيعة الرسائل التي تتدفق عبر هذا الخطاب وسرعتها وطرائق توزيعها وكيفية تلقيها، الأمر الذي جعل من الإعلام محورا أساسيا في منظومة المجتمع، والخطاب الإعلامي يجمع في ثناياه بين اللغة والمعلومة ومضمونها الثقافي والوسائط التقنية لإرسالها عبر الزمان والمكان، وبهذا فإن الخطاب الإعلامي هو (مجموعة الأنشطة الإعلامية التواصلية الجماهيرية المتمثلة بالتقارير الإخبارية والمقالات الصحفية والبرامج الإذاعية والتلفزيونية وكل نتاج إعلامي تبثه وسائل الإعلام المختلفة).
يجب التسليم بأن الخطاب الإعلامي ممارسة اجتماعية متغيّرة، ويتعرض دائماً للتغيّر والتطور، لكن الأمر الأكثر أهمية هو أن نفهم أن الخطاب الإعلامي ليس شيئاً واحداً بل هناك عدد من الخطابات الإعلامية المتصارعة أو المتعاونة، كما أن هناك تداخلاً أو تعايشًا بين أكثر من خطاب، وتعكس هذه الخطابات المتداخلة حقائق اجتماعية متباينة ومصالح متعارضة، ومع ذلك فقد تحدث استعارات في المفاهيم والاطروحات في إطار محاولة كل خطاب أن يواكب الواقع ويحظى بقدر أكبر من التأثير الاجتماعي.
وشهد الخطاب الإعلامي تحولات عديدة، فمع بدايات نشوء الصحافة فعليا في عام 1609م، تطورت الرسالة إلى خطاب ينطلق من سياسة محدّدة وفكر محدّد يصدّران رسائل محدّدة للتأثير في القرّاء، حتى أصبح الخطاب الإعلامي جزءا لا يتجزأ من المنظور الثقافي للإنسانية. ومما لا شك فيه أن معظم الخطاب الإعلامي له غاياته سواءً كانت معلنة أو غير معلنة، لذلك فمن الأفضل تحليل عمليات الاتصال والإعلام من حيث التكوين، والملكية، ونظم العمل، وطبيعة الجمهور، والنظام السياسي، وللخطاب الإعلامي عناصر عدة منها:
• الأهمية: وهي تناول القضايا التي تهم الجماهير، وتمس احتياجاتهم.
• المعلومات الجديدة: من الضروري أن يضع المتحدث في اعتباره بأن الجمهور يتوقع منه معلومات جديدة، أو تصحيح لمعلومات قديمة لديه، ويجب أن تكون مبنية على الأدلة والبراهين لإقناع الجمهور بها.
• تناول القضايا المثارة والساخنة في الساحة: يكون الخطاب الإعلامي أكثر جاذبية وقبولاً إذا ركز على القضايا الساخنة في المجتمع، والمثارة في الساحة بكل شفافية ووضوح.
• تناول الموضوعات التي تحتاج إلى تفسير وشرح: هناك العديد من الموضوعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تحتاج إلى شرح وتفسير المحتوى والمضمون من ورائها، لتسهيل عملية فهمها، وذلك لتكوين آراء ووجهات نظر بشأنها.
أما الثقافة في عمقها وجوهرها فهي هوية قائمة بالذات، وقد تتعدد الثقافات في الهوية الواحدة، كما أنه قد تتنوع الهويات في الثقافة الواحدة، وذلك ما يعبر عنه بالتنوع في إطار الوحدة، فقد تنتمي هوية شعب من الشعوب إلى ثقافات متعددة تمتزج عناصرها وتتلاقح مكوناتها فتتبلور في هوية واحدة.
ويمكن تعريف الهوية الثقافية بأنها (النواة الحيّة للشخصية الفردية والجماعية، والعامل الذي يحدد السلوك ونوع القرارات، والعنصر المحرك الذي يسمح للأمة بمتابعة التطور والإبداع مع الاحتفاظ بمكوناتها الثقافية الخاصة).
أما الثقافة الوطنية فتمّ تعريفها بأنها (محصلة لمجموعة من الروافد والتعبيرات المتضافرة والمتفاعلة والتي تؤدي في النتيجة إلى خلق ملامح وأشكال هي وحدها التي تعبر عن هموم وطموحات شعب معين في مرحلة تاريخية معينة، وهي وحدها التي تعكس المزاج النفسي والاتجاهات الحقيقية)، ويرتبط مفهوم الثقافة بالحضارةِ الإنسانية ارتباطاً وثيقاً يظهر في العديد من جوانب الحياة، وساهمت الثقافة في التأثير على الفكر السياسي والديني العام في الدول والذي انعكس أثره لاحقا على الحضارات الإنسانية بتعدد ثقافاتها وأفكارها في العديدِ من المجالات الفكرية كما حافظت الثقافة على كافة أجزاء المجتمع بسماته الحضارية والتاريخية والدينية والسياسية والاجتماعية من خلال المحافظة على الموروثات الاجتماعية والروابط الأسرية والإنسانية والعقائدية والوطنية.
ومن الخصائص الرئيسية للثقافة أنها من اكتشاف الإنسان كونها مكتسبة وليست موروثة، كما أنها تنتقل من جيل إلى آخر من خلال العادات والتقاليد، فضلا عن كون الثقافة قابلة للتعديل عبر الأجيال حسب الظروف الخاصة بكل مرحلة، وهناك علاقة وثيقة بين الهوية والثقافة بحيث يتعذر الفصل بينهما، والعلاقة بينهما تعني علاقة الذات بالإنتاج الثقافي، ومن المعروف أن أي إنتاج ثقافي لا يتم في غياب ذات مفكرة.
وصلنا الآن إلى محاولة الإجابة عن سؤالنا الرئيسي وهو: كيف يؤثر الخطاب الإعلامي على الهوية الثقافية الوطنية؟
لا شك أن هناك الكثير من القضايا المرتبطة بالهوية الثقافية الوطنية والتي تتأثر بالخطاب الإعلامي سلبا وإيجابا منها: الانتماء الوطني وهو أكثر مسألة مرتبطة بالثقافة الوطنية، إذ أن الخطاب الإعلامي إذا لم يكن موحدا ومتقنا فإنه قد يؤدي إلى تفكك وضعف الانتماء الوطني بكل أبعاده حتى في حالة وجود تمازج بين المكان والقيم والثقافة، كذلك يؤثر الخطاب الإعلامي في اللغة التي ترتبط بها الثقافة الوطنية والتي تشكل هوية أبناء البلد، إذ أن ثقافة كل بلد تكمن في لغتها، فاستخدام الخطاب الإعلامي لمفاهيم ومصطلحات ومناهج بعيدة عن لغة البلد من الممكن أن يؤدي كمحصلة إلى فرض طريقة مختلفة في التفكير والسلوك عن تلك التي تتسم بها الثقافة الوطنية.
بالإضافة إلى ما سبق فإن للخطاب الإعلامي أثره الواضح على منظومة القيم والأخلاق والعقائد، فهذه المنظومة تتأثر بما يؤسس له الخطاب الإعلامي ويسعى لنشره وإشاعته في الوسط الاجتماعي والشعبي من قيم وأخلاقيات وعقائد سواء كانت صالحة ونافعة أم فاسدة وضارة، وفي هذا الصدد رأينا كيف تغيّرت الكثير من القيم والسلوكيات والمتبنيات الفكرية لدى الشعوب بعد الثورة الرقمية والتي وظفها الإعلام لتحقيق أهداف وغايات منها نبيلة وأخرى ساعية لتفكيك المجتمعات وإضعافها.
اضف تعليق