على القوى السياسية جميعا الانتباه إلى ظاهرة استخدام الجماهير المؤدلجة والموجهة مسبقاً لتحقيق أهدافها الضيقة، فقد تفلت هذه الجماهير وتعم الفوضى وينهار الوضع الأمني الهش وتعود الحرب من جديد لكن على شكل حرب أهلية طاحنة، ولم يتبقى من ملاح الحرب تلك سوى خطأ صغير هنا وخطأ صغير...
لم يعد الرأي العام يغرد خارج سرب القرارات الحكومية، بل يمثل اليوم قوة فاعلة وفي بعض الأحيان من أكبر الفاعلين في المشهد السياسي العراقي، فقد أجبرت الجماهير الغاضبة رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي على الاستقالة من منصبه قبل عدة أشهر وهو حدث جديد كلياً لم يكن ليحدث منذ فترة الحكم الملكي وحتى الآن، فقد فشلت أكبر انتفاضة سيطرت على تسع محافظات عراقية في إجبار القيادة العليا في السلطة في التنحي والاستقالة وتلك هي انتفاضة عام 1991.
وفي الديمقراطية المستوردة الناشئة لم ينتخب أي رئيس للوزراء على ضوء أصواته الانتخابية إنما وفق توافقات دولية وتقسيمات طائفية وقومية ولا علاقة للجمهور إلا في الشكليات، فازت القائمة العراقية التي يتزعمها اياد علاوي في انتخابات 2010 بغالبية الأصوات لكن القوى السياسية الأخرى انقلبت عليها بقرار قضائي رسخ فكرة سيطرة الكتل السياسية على القرار الشعبي، فلم تعد الكتلة الأكبر التي ينتخبها الشعب مباشرة هي القادرة على تشكيل الحكومة، إنما الكتل التي تتحالف بعد الانتخابات ما جعل بعض السياسيين يتسنم منصب رئيس الوزراء أول منصب تنفيذي في البلد من دون أن يشارك في الانتخابات، وحدث هذا للسيد مصطفى الكاظمي وقبله السيد عادل عبد المهدي.
وعلى مستوى الأصوات الانتخابية فلم تكن لها أصلاً حتى بانتخابات عام 2014، إذ فاز رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي بأغلبية الأصوات بما يزيد عن 750 الف صوت وهي النسبة الأعلى في العراق منذ الغزو الأميركي وحتى الآن، لكنه لم يستطع نيل رئاسة الوزراء لأسباب تتعلق بالتوافقات السياسية المحلية والدولية، أي أن رأي الجماهير لم يكن هو المعيار في التعاطي مع الاستحقاقات السياسية، بل التوافقات التي تجري في الاجتماعات المغلقة هي التي تحدد الملامح العامة للبلد، وأسست هذه الظاهرة لبروز رؤساء الوزراء من خارج المنظومة الحاكمة أو ممن يعيشون في الظل لما يحققه ذلك من توافق للأطراف المتصارعة على السلطة حتى جاء السيد عبد المهدي كأكبر تجلي لهذه الظاهرة وبعده السيد الكاظمي رئيس الوزراء الحالي.
لعبة الصناعة الجماهيرية
لكن هذه اللعبة باتت غير مرغوبة لدى بعض الأطراف التي وجدت فيها مغامرة كبيرة، فبدأ بصناعة قواعد جديدة للعبة قائمة على استخدام الجماهير كوسيلة للضغط على الخصوم، فبينما كان الجمهور مغيباً كلياً عن القرار السياسي، بات هذا القرار لا يُتّخَذُ إلا بما يراه الجمهور، وعن أي جمهور نتحدث؟
إنه الجمهور الذي يُلَقّنُ الدروس السياسية تلقيناً، جمهور لا يفهم من اللعبة السياسية إلا ما يُحَدد له سلفاً، فهو يحتفل بسياسي باعتباره المنقذ ليس لأنه المنقذ فعلاً بل لأن وسائل الإعلام والبروباغندا الإلكترونية سوقت لذلك، وهو يريد تطبيق القانون الفلاني لأن وسائل الاعلام والبروباغندا الإلكترونية قالت ذلك، ونحن إذ نتحدث بهذه اللغة ليس من باب الكلام الإنشائي، بل من الرصد والتحليل للتحركات السياسي للجماهير، فلا توجد بوصلة خاصة لها ولا يوجد موقف ثابت لها، ولا توجد أي استراتيجية واضحة المعالم، ويتضح ذلك جلياً عبر رصد الشعارات والمطالبات التي ترفعها وبين ما ترفعه وسائل الاعلام ووسائل البروبغندا الالكترونية سلفاً، أي قبل ان تفكر الجماهير، بمعنى ان الفعل الجماهيري هو فعل تابع لبعض الجهات السياسية اكثر من كونه القرار الذي دفع القوى تلك للتسويق لهذا النوع من القرارات، وما يؤكد ما ذهبنا اليه، نجد أن الجماهير تتمسك بشكل متشدد بوجهة نظر معينة، لكنها قد تنقلب بالاتجاه المعاكس لوجهة النظر هذه بعد أسبوع واحد، يحدث هذا عندما تتغير اجندة الأحزاب المحركة ووسائل الدعاية، حتى ان بعض الحركات تبدأ بمطالب معينة وتنتهي بمطالب معاكسة تماماً وهو ما يتماشى طبعاً مع الخط الذي رسمته الجهة المحركة.
ظاهرة مكشوفة
ولم تكن هذه الظاهرة جديدة، لكنها كانت محصورة في تيار سياسي واحد، كان يستطيع تحريك الجماهير بالطريقة التي يريد، ويستخدم جماهيره في مجال الفعل السياسي، فحينما تضيق عليه الأمور يقوم بإنزال جماهيره للشارع من أجل إجبار القوى السياسية المختلفة معه على التراجع عن بعض القرارات أو اتخاذ قرارات تتناسب مع رغباته، وتحولت أنشطته إلى تظاهرات واعتصامات وغيرها من وسائل استخدام الجماهير كوسيلة للضغط.
فهمت بعض القوى السياسية فعالية هذه الطريقة بعد تعرض العملية السياسية لانسداد في أغلب مفاصلها وعرفت أنها أما تتعرض للانهيار أو تستخدم الورقة الأخطر، وهي ورقة الجماهير، ولا أتحدث هنا عن جماهير لها مطالب محددة، بل جماهير تنفذ ما تريده جهات سياسية معينة لا يهمها سوى تحقيق مصالح حزبية ضيقة حتى وإن أدى ذلك إلى تدمير لما تبقى لدينا من بنية تحتية متهالكة، أو منظومة قانونية واجتماعية غير مستقرة.
استخدمت الجماهير للاعتداء على البعثات الدبلوماسية الإيرانية والبحرينية والأميركية، ما شوه بشكل كبير من صورة العراق كبلد غير قادر على حماية البعثات الدبلوماسية للدول الأخرى بمختلف توجهاتها ومختلف مجالات صراعها في العراق، فعندما نتحدث عن اعتداء على البعثة الدبلوماسية الإيرانية فهذا يعني أن هناك جهات سياسية معادية لإيران تستخدم هذا الفعل ولا يهمها مصلحة العراق بقدر ما يهمها تحقيق مصالحها في الصراع الدولي حتى وإن أدى ذلك إلى زعزعة الثقة الدولية بالعراق، وفي الاتجاه الآخر فإن الاعتداء على البعثة الدبلوماسية البحرينية كما حدث قبل عامين والاعتداء على البعثة الدبلوماسية الأميركية كما حدث خلال ذروة الصراع الإيراني الأميركي على العراق، فإن هذا الاعتداء واضح ومعلن إنه يأتي لرد الاعتبار لصالح الجمهورية الإسلامية الإيرانية ضد الولايات المتحدة الأميركية حتى وإن أدى ذلك الى زعزعة الثقة الدولية بالعراق.
كما استخدمت الجماهير للاعتداء على مقرات الأحزاب السياسية بمختلف توجهاتها، واعتداءات على مقرات وسائل الاعلام (كما حدث مؤخراً ضد قناة دجلة الفضائية وقبلها تهديم مقرات الأحزاب بالجرافات)، بحجة أن تلك المؤسسات الحزبية والإعلامية تساهم بشكل أو بآخر بعمليات الفساد وتدمير العراق، لكن الواقع أن محاولة تصحيح أخطاء تلك الأحزاب ومؤسساتها الإعلامية تمت بطريقة خاطئة أيضا، أي أن الخطأ تمت معالجته بخطأ آخر، وعنوان هذه الدوامة هي الاعتداء على القانون وتجاوز حدود هيبة الدولة، فالمرجعية الأساسية للاحتكام والتخاصم هي أما القضاء وأما المؤسسات الحكومية وكلاهما لا علاقة لها بما يجري الان، فقد تم خلط الأوراق وبدل استخدام الجماهير لحقها في التعبير عن الرأي تستخدم الجماهير لفرض القرارات السياسية لصالح حزب سياسي خارج قواعد القانون والعدالة.
حرية نشر الفوضى
الحكومة والأحزاب الأخرى التي تترنح من الفشل وتقف على حافة الهاوية تستجيب لجميع المطالبات حتى وإن كانت خاطئة وتتجاوز بشكل فاحش على القانون وعلى مستقبل الأجيال الحالية والقادمة، على سبيل المثال استجابت الحكومة الى مسألة اغلاق المدارس والجامعات والعديد من المؤسسات الحكومية المهمة، رغم أن ذلك لا يعد من حرية التعبير بل يمثل انتهاكا صارخاً للقواعد المؤسساتية، وتدمير للحدود بين التعبير عن الرأي بحرية وبين حرية نشر الفوضى في الدولة العراقية.
الخطير في مسألة استخدام الجماهير لتحقيق غايات سياسية ضيقة هو تحول الفعل الجماهيري المؤدلج والمُتَحَكَم به من قوى خارجية (نقصد الأحزاب والدول) ولتحقيق مصالح تتعارض مع مصالح الشعب، يتحول هذا الفعل الجماهيري المؤدلج إلى قاعدة للعمل السياسي، وهو المحرك للفعل السياسي وحينما تصدر القرارات تصدر على إنها انعكاس للفعل الشعبي، بينما الواقع أن الأحزاب والدول ووسائل إعلامها هي التي حركت مجموعة مؤدلجة من الجماهير ليبدو الأمر وكأنه مطلب جماهيري ثم تفرض قرارها على القوى السياسية الأخرى بغض النظر عن تعارضه أو توافقه مع المصلحة الوطنية العراقية.
على القوى السياسية جميعا الانتباه إلى ظاهرة استخدام الجماهير المؤدلجة والموجهة مسبقاً لتحقيق أهدافها الضيقة، فقد تفلت هذه الجماهير وتعم الفوضى وينهار الوضع الأمني الهش وتعود الحرب من جديد لكن على شكل حرب أهلية طاحنة، ولم يتبقى من ملاح الحرب تلك سوى خطأ صغير هنا وخطأ صغير هناك لتبدأ حرب الحرق والحرق والمضاد لمقرات هذا الحزب أو ذاك وهذه المؤسسة الإعلامية او تلك، وحينما نصل إلى تلك المرحلة فلا يمكن بعدها السيطرة على الجماهير لأن الوقت سيكون قد فات كثيراً.
اضف تعليق