رغم تبجح الإدارات الأميركية بالحرية والدفاع عن حقوق الإنسان فإن المجتمع الأمريكي لا يزال يعاني حتى اليوم من مظاهر متخلفة ومشاكل عديدة على رأسها العنصرية، وعلى الرغم من أنّ الدستور الأميركي يمنع التفرقة بين الناس على أساس اللون أو الجنس أو الدين أو غير ذلك إلا أنّ العنصرية مغروسة في قلب بعض الأميركيين، وأن الأحداث دائماً تثبت بذور العنصرية وأنها ما زالت كامنة في النفوس، وأن جذورها أعمق من أن تنتزع رغم كل قوانين المساواة والحرية واحترام حقوق الإنسان. فيمكن للعنصرية أن تحرك هذه الكوامن لتصبح ربيعاً أمريكيا، فبرزت آراء المفكرين في هذا الصدد متنبأ بشرارة الربيع.
لقد تشكلت الولايات المتحدة الأمريكية في بدايتها من عناصر أوربية كان الغالب عليها هو العرق الأبيض، شنت هذه العناصر حملة إبادة شاملة ضد سكان القارة الأصليين من الهنود الحمر، وفي الوقت الذي كان فيه المقاتلون الأنجلوساكسون يتنافسون على من يقتل أكثر من الهنود الحمر، كان أقرانهم من التجار والبحارة يجوبون شواطئ أفريقيا لاختطاف اكبر عدد من الرجال السود الأشداء، وهكذا فإن الولايات المتحدة قامت أساساً على إبادة السكان الأصليين لإفساح المجال أمام المستوطنين الجدد من ناحية، وجلب أكبر عدد من الأفارقة وتحويلهم إلى عبيد لتعمير القارة الجديدة من ناحية أخرى، أي إن الإمبراطورية الأمريكية ارتوت من منبعين دماء الهنود الحمر وعرق الأفارقة. فالطريقة التي شُحن فيها الأفارقة كالحيوانات في السفن، والتي كانت تتسبب في وفيات تزيد عن ٥٠% ترمى جثثهم في المحيط ثم بيع من بقي حيا منهم، واستعباد أطفالهم وقتل كبار السن الذين صاروا عديمي الفائدة، واستخدام فتياتهم للمتعة، كلها نماذج من العنصرية المتجذرة في الشخصية الأوربية. يعتقد البعض أن العنصرية انتهت مع تحرير العبيد أيام أبراهام لنكولن، لكن الحقيقة أن العنصرية لم تنته رسميا وقانونيا إلا بعد حملة الحريات المدنية بقيادة مارتن لوثر كنج في الستينيات الميلادية، حيث بقي الأسود يعامل كمواطن أقل درجة بعد تحريره من العبودية إلى أن ألغيت بالكامل قبل ٥٠ سنة تقريبا.
أن الحوادث التي تأخذ مجراها في الشارع الأمريكي تروي ظاهرة واضحة حول العنصرية التي مازالت تمارس ضد السود من جهاز الشرطة أو الأجهزة الحكومية الأخرى، ولم تكن حوادث من أمثال (رادني كينغ) التي حدثت في مطلع التسعينات في لوس أنجلس والتي سببت مظاهرات في أكثر من 28 مدينة أمريكية عكست في مجملها الصورة التي تعاني منها الأقليات في الولايات المتحدة. إضافة إلى حوادث عنف مشابه حدثت في ميامي عام 1980 وسببت دمار اقتصادي هائل وحوادث 1967 في ولاية نيويورك، وأحداث فيغرسون 2014، وأخرها أحداث بالتيمور 2015.
إذ يعتقد كثيرون من الأمريكيين السود أن الحقوق المدنية التي نالوا عليها في أواخر الستينات، لم تغير من وضعهم بشكل جذري وربما أن المستفيد الوحيد لذلك هم السود من الطبقة المتوسطة، لكن الباقي ظلوا يعانون من العنصرية والفقر والبطالة والأمراض الاجتماعية، وبمجرد النظر إلى الإحصائيات، نرى أن السود مازالوا يعانون من نفس المشاكل التي عانى منها أجدادهم. فرغم أن 40% من مجموع الشرطة هم من السود منذ عام 1970، إلا أن الوضع لم يتغير بالنسبة للعلاقة بين السود بشكل عام وجهاز الشرطة، ومن ناحية الوظائف، فنسبة بطالة السود تقدر بثلاث أضعاف البيض، مما يسوقنا إلى أن الشركات الأمريكية مازالت تحدد تعييناتها باللون والعرق، وبالنظر إلى المدن الكبيرة نرى أن الفقر المدقع يتلبس السود أكثر من غيرهم، فثلث السود في الولايات المتحدة يعيشون تحت خط الفقر الذي سنته الحكومة، وأما من ناحية الأجور فالسود يتقاضون أجرا أقل من البيض بمعدل 58%، هذا يعني إذا حصل الأبيض على 100 دولار فالأسود يحصل على 42 دولار فقط، ونتيجة لهذه الصعوبات الاجتماعية والاقتصادية نرى أن الكثير من السود يعيش في الشارع مما يؤدي به الأمر إلى السقوط في الجرائم والسجن، فرغم أن السود يمثلون 15% فقط من عدد السكان، لكن في السجون يمثلون النصف أو أكثر، وبالإضافة إلى كل ذلك فإن السود تكثر فيهم الأمراض بمقدار ثلاثة أضعاف البيض، ومن المستغرب بعض مناطق السود في الولايات المتحدة - وهي الدولة العظمى- ما تزال أتعس وأفقر من أي دولة في العالم الثالث.
يعود تاريخ نضال السود من اجل حقوقهم إلى مارتن لوثر كينغ الذي كان يخدم الكنيسة المعمدانية في أمريكا، ورغم إن الأوضاع المزرية للسود، الا إن مارتن لوثر كينج اختار للمقاومة طريقا آخر غير الدم، فنادى بمقاومة تعتمد على مبدأ "اللاعنف" أو "المقاومة السلمية" على طريقة المناضل الهندي مهاتما غاندي، وكان يستشهد دائماً بقول السيد المسيح : "أحب أعداءك واطلب الرحمة لمن يلعنونك، وادع الله لأولئك الذين يسيئون معاملتك". وكانت حملته إيذاناً ببدء حقبة جديدة في حياة الأمريكان ذو الأصول الأفريقية، فكانت أولى مقاومته النداء بمقاطعة شركة الحافلات امتدت عاما كاملاً أثر كثيراً على إيراداتها، حيث كان الأفارقة يمثلون النسبة الأكبر من ركاب خطوطها، ومن ثم من دخلها السنوي، وذلك بسبب التفرقة بين السود والبيض، بعد ذلك أصدرت المحكمة حكمها التاريخي الذي ينص على عدم قانونية هذه التفرقة العنصرية، وساعتها فقط طلب كينج من أتباعه أن ينهوا المقاطعة ويعودوا إلى استخدام الحافلات " بتواضع ودون خيلاء، لقد نجح كينج في خلق الأزمة التي كان يسعى إليها، ثم أعلن أن الضغط لن يخف، مضيفاً : "إننا على استعداد للتفاوض، ولكنه سيكون تفاوض الأقوياء فلم يسع البيض من سكان المدينة إلا أن يخولوا على الفور لجنة بالتفاوض مع زعماء الأفارقة، وبعد مفاوضات طويلة شاقة تمت الموافقة على برنامج ينفذ على مراحل بهدف إلغاء التفرقة وإقامة نظام عادل وكذلك الإفراج عن المتظاهرين.
ورغم اغتياله في عام 1968 الا إن أثاره لازالت باقية، وقد كانت حافزا للسود للمطالبة بحقوقهم، كذلك لم تنتهي مأساة السود، أن مظاهر التفرقة العنصرية مازالت موجودة حتى الآن في الولايات المتحدة الأمريكية، إذ توجد حتى اليوم أحياء في كبريات المدن الأمريكية يتكدس فيها السود بلا مرافق أو خدمات، كما أن معظم المشردين بلا مأوى هم من السود والملونين، وعددهم بالملايين، وفى أمريكا أكثر المساجين هم من السود، ومازلنا نتذكر أحداث لوس أنجلس عام 1992، والتي قمعت بقوة، من قبل الحرس الوطني الأمريكي، بعد حالة من الغضب ضد السياسات العنصرية التي تمارسها الشرطة الأمريكية ضد السود، حيث تم الاعتداء وبشكل غير أنساني على المواطن الأسود "رودني كينج"، وبعد أن سرب شريط مصور يظهر حجم الاهانة التي تعرض لها رودني، فثار السود احتجاجًا على الممارسات البوليسية الإجرامية، وسحل مواطن أسود بواسطة رجال الشرطة البيض حتى الموت، ما جعله مفجر أحداث لوس أنجلس الشهيرة والتي عرت الصورة الأمريكية، دولة الديمقراطية وحقوق الإنسان، واندلعت مظاهرات صاخبة في أكتوبر 2007 م احتجاجا على اعتقال 6 تلاميذ سود وتلفيق تهمة لهم هي الشروع في قتل تلميذ ابيض، لأنه علق أحبالا ومشانق بالمدرسة، إشارة إلى ما كان يحدث من إعدام للعبيد السود بلا محاكمات، وأكدت منظمة حماية الملونين إن السود هم الفئة الأكثر تعرضا للسجن وتلفيق الاتهامات والتعذيب في السجون الأمريكية.
وفي آب عام 2014، حدثت اضطرابات مدينة فيرغسون، إذ قتل مايكل براون وهو مواطن اسود على يد الشرطي الأبيض بسبب علبة سجائر قيمتها 49 دولارًا كان ثمنها ستَّ رصاصات في جسد الشاب الذي لم يتمّ عشرين عامًا، وفي اليوم التالي كانت فيرغسون بولاية ميزوري تضجّ بالاحتجاجات الشعبية المنددة بمقتل براون، الفتى الصغير الذي أشعل مظاهرات ضجَّت لها في 170 مدينة أمريكية، خصوصًا أنَّ الشرطة واجهت المظاهرات بعنفٍ مفرط في بلد الحريات الأول في العالم، استمرت المظاهرات لأسابيع، وانتشرت في شوارع فيرغسون، قوات الأمن مدعومة بوحدات من الحرس الوطني، وهى قوات ذات طابع عسكري، تتبع الجيش الأمريكي، يمكن لحكام الولايات طلب المساعدة منها خلال حالات الطوارئ والكوارث الكبرى، وقامت القوى الأمنية باعتقال العشرات، كما استخدمت الغاز المسيل للدموع لتفريق المتظاهرين. واشتعلت الشوارع الأمريكية بالاحتجاجات في عدد من المدن كبرى، سواء في وسط عواصم عدد من الولايات، أو في الأحياء ذات الغالبية السوداء، خاصة في مدن نيويورك، وشيكاغو، والعاصمة واشنطن، التي شهدت تواجدا أمنيا كثيفا، أمام المحال التجارية الكبرى، وفى محيط مقار الحكومة الفيدرالية، خاصة أمام البيت الأبيض، الذي احتشد أمامه عشرات المتظاهرين في ساعة متأخرة، ورددوا هتافات مناهضة للشرطة، وللعنصرية، مطالبين الرئيس باراك أوباما بـ"العدالة، إن إنزال قوات الحرس الوطني لقمع المتظاهرين، ومطالبة المتظاهرين بالعدالة يعتبره البعض دليل على زيف الديمقراطية الأمريكية، وإنها لا تشمل الكل بل هناك تفرقة واضحة بين السود والبيض.
تجددت الاضطرابات مرةً أخرى بعدما نال الضابط القاتل براءته لعدم كفاية الأدلة، ولأنَّ شهادة الشهود كانت متناقضة ـحسب المحكمةـ، ضجت المظاهرات مرةً أخرى أواخر تشرين الأول 2014، لقد وضعت قضية مايكل براون قضية السود في أمريكا على المحك، فحوادث مقتل السود في أمريكا متكررة بكثرة ما يرجع للذهن انتفاضاتهم المتعددة للحصول على حريتهم في بلد يدعي انه بلد الحريات الأول في العالم.
ورغم مطالبة الرئيس باراك أوباما في كلمته الجميع بالتزام الهدوء، وعدم اللجوء إلى العنف، داعيا المتظاهرين إلى التعبير عن رأيهم بشكل سلمى، ومشددا على ضرورة التزام الشرطة بضبط النفس في تعاملها مع الاحتجاجات، وان الولايات المتحدة بلد قائم على احترام القانون، الا انه أشار أيضا إلى أن بلاده مازالت تعانى من التبعات السيئة لإرث التمييز العنصري ضد السود، وان ما حدث ليس مشكلة لمدينة فيرغسون ولكن مشكلة لأمريكا كلها، معتبرا أن المشكلة الأكبر هي عدم الثقة بين الشرطة وأصحاب البشرة الملونة، مؤكدا أن الحل لن يكون برمي الزجاجات وتحطيم السيارات.
كذلك اندلاع الاحتجاجات في مدينة بالتيمور في ولاية ميرلاند الأمريكية بسبب مقتل المراهق الأسود فريدي جراي الذي اعتقل في 12 نيسان 2015، وتوفي بعد أسبوع بسبب إصابة في عموده الفقري، وأدت الاحتجاجات إلى جرح واعتقال المئات من المتظاهرين والى إصابة 15 عنصرا من الشرطة، وقد سمتها الشرطة إعمال الشغب ذات الطابع العنصري، ولم تسميها ثورة السود السلمية أو حتى احتجاجات شعبية وذلك كما فعلت في دول الربيع العربي، فرض حالة الطوارئ ومنع التجول وإنزال خمسة ألاف من الجيش الأمريكي إلى الشارع وتوعده وتهديده إن الشرطة سوف تعتقل كل من يشارك في إعمال الشغب وسوف تطلق النار كل من يحاول الاعتداء عليها، إن الأحداث في مدينة بالتيمور جاءت كدليل على عمق وأبعاد للتمييز العنصري في الولايات المتحدة، وهذا ما قد يؤدي إلى ثورة سوداء في أمريكا، لا تستطيع إنهائها، وتفتح الباب إما الانتقاد الدولي للولايات المتحدة وانتهاكها لحقوق الإنسان، خاصة وإنها دائما تدعوا إلى الالتزام بحقوق الإنسان في الوقت الذي تنتهكه.
لقد كان صادما التقرير الصادر عن الأمم المتحدة عام 2012 والذي وضع تراتبا للدول العشر الأعلى عنصرية في العالم لتأتي الولايات المتحدة في رأس القائمة، فالتاريخ السياسي للولايات المتحدة الأمريكية ومنذ الاستقلال كان بمثابة عنصرية وعبودية وإبادة جماعية للسكان الأصليين من الهنود الحمر، والفصل العنصري المنهجي والمؤسساتي، والعنصرية الأمريكية واضحة المعالم في جميع مجالات الحياة، الهجمات على السود واللاتينيين والصينيين واليابانيين والمسلمين واليهود، جماعات التفوق الأبيض مثل النازيين الجدد و(كلوكس كلان) تستمر وتنمو في الولايات المتحدة، كما الإرهابيين المحليين الذين يريدون حربا عرقية.
في الواقع، أن الحكومة الأمريكية لا تبحث عن حل مشاكل الأقليات من حيث معاناتهم الاقتصادية والاجتماعية التي يرزحون تحتها، بل تحاول أن تشتري الوقت وتمتص النقمة بطريقة حذقه، فمثلا الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريغان قد عطل الكثير من البرامج التي من الممكن أن تساهم في تخفيف حدة الحياة على السود والأقليات الأخرى، ومن الواضح أن المجتمع الأمريكي قد رضي بشكل ضمني بالعنصرية ضد السود، حيث يظهر ذلك في الأفلام والقصص بشكل غير مباشر. وقد عرفت الحكومة الأمريكية أن تلعب الأوراق الرابحة من حيث الشكل، فهي تنصب بعض السياسيين السود الذين يخدمونها ويتعاملون معها، والأخبار قد لا تسر بالنسبة للسود كوضع اقتصادي ولا حتى وضع الأقليات الأخرى.
ومن الثابت اليوم أنّ من سوء حظ أميركا أن خططها أصبحت مكشوفة ونواياها مفضوحة سواء من قبل شعبها أو من قبل الشعوب الأخرى، والايجابي هنا ـ رغم قسوة الممارسات الأميركية ضد المواطنين السود ـ هو أنها وقعت في نفس الأفخاخ التي نصبتها للدول الأخرى لشرعنة تدخلاتها العسكرية العدوانية، فما كانت تنادي به من شعارات زائفة تحت عنوان "الربيع العربي" كان الأولى بها أن تتلقفه وتسعى لتلبيته في مجتمعها الثائر على التفرقة العرقية والتمييز العنصري، فكل المؤشرات والمعطيات تدل على أن السود في المجتمع الأميركي قد اختاروا توقيتهم المناسب لصنع ربيعهم بعيداً عن التضليل والادعاء، وإذا كانت عدوى "الربيع" ممكنة في منطقتنا وفي دولنا حسب ما تراه وتدعيه واشنطن فما المانع من انتقال هذه العدوى إلى الولايات المتحدة، فهل تكتفي أميركا بنصب تمثال للحرية على أراضيها كي تتمكن من سلب الشعوب حريتها… الواضح أن السود قد بدئوا المطالبة بحقوقهم فكيف ستتصرف أميركا…؟!
اضف تعليق