لم تحقق الحركات الاحتجاجية في العراق منذ بدايات انطلاقها عام 2013 وحتى الان اغلب مطالبها، بل انها تبدأ بتوجه معين، وتنتهي بتوجه مختلف تماما، كما ان اغلب الحركات الاحتجاجية تحمل افقا ضيقا جدا، او افقا واسعا جدا بطريقة غير مفهومة، لا توجد حركة احتجاجية تخلو من...
لم تحقق الحركات الاحتجاجية في العراق منذ بدايات انطلاقها عام 2013 وحتى الان اغلب مطالبها، بل انها تبدأ بتوجه معين، وتنتهي بتوجه مختلف تماما، كما ان اغلب الحركات الاحتجاجية تحمل افقا ضيقا جدا، او افقا واسعا جدا بطريقة غير مفهومة، لا توجد حركة احتجاجية تخلو من فوضوية لا مبرر لوجودها رغم تأثيرها على سمعة الحركة ومن ثمة على نتائجها السياسية وتأثيرها على الاجتماعي.
احدى اهم الحركات الاحتجاجية حملت بعدا مناطقيا وطائفيا وكانت تلك في عام 2013، وما تلاها من مشكلات سياسية ما تزال شاخصة حتى الان، تلتها تظاهرات أخرى في بغداد، ثم استقرت على تظاهرات الكهرباء، وما لبثت ان عاد الجانب السياسي فيها بعد الشعارات التي رفعها رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، نادت التظاهرات تلك باقتلاع المنظومة السياسية بكاملها، لكنها في الوقت ذاته كانت تحمي جزءا مهما من المشاركين في العملية السياسية، فيما تهمل الجانب الاخر، أي ان حقيقتها تظاهرات ضد مجموعة من الأحزاب فقط التي كانت تمثل السلطة الحاكمة.
بعد الحركة الاحتجاجية التي انطلقت نهاية عام 2019 واستمرت حتى تشكيل الحكومة الجديدة ظن كثير من المواطنين انها ستكون مختلفة تماما عن سابقاتها، نظرا للتحشيد الكبير وطول المدة وابتعادها عن اللغة السياسية السابقة، هي جاءت بمصطلحات جديدة وأساليب جديدة في التظاهر، تمثلت التحشيد البشري الكبيرة ونصب الخيم في الساحات العامة وغلق الشوارع الرئيسية، وحرق الإطارات بشكل يومي دون خوف من السلطة، فضلا عن تعطيل الدوام الرسمي للجامعات والمدارس في المحافظات الجنوبية لمدة أربعة اشهر ما اجبر وزارتي التربية والتعليم على تعديل التقويم الدراسي.
الى اخر تظاهرة تجري الان خلال ازمة وباء كورونا، هل تستطيع التظاهرات العظيمة فعل الإصلاح او التغيير الشامل؟ هي غير قادرة لأنها تفتقد للقاعدة الرصينة للإصلاح او التغيير، هذه التظاهرات تحاول القفز على الواقع، تغض النظر عن طرف سياسي بحجة انه معنا بينما هو في قلب منظومة السلطة، كما تغض النظر عن طرف دولي اخر لأنه المنقذ بينما هو يجري الصفقات على حساب مصالح الشعب، فيما تترك أمورا كثيرة واجبة التنفيذ، ما جعلها تكون أسيرة معوقات ذاتية وأخرى خارجية تنقسم الى محلية اجنبية.
المعوقات الذاتية
من المثير ان يتفاخر المتظاهرون انهم لا يتبعون خطا سياسيا واضحا، بل يتبعون الوطن، هذا مجرد شعار ولا يمكنه تحقيق الأهداف الكبيرة بالإصلاح او التغيير، لان فكرة الوطن تحتاج الى ترسيخ هوية الوطن، وبحاجة الى نظام سياسي متكامل يحمي هذه الهوية من دستور وقوانين وممارسات سياسية واجتماعية، وبما اننا نفتقد للوطن بهذا المنظور وفق ما يقولون المحتجون، اذن نحن بحاجة الى رؤية متكاملة على شكل برنامج سياسي إصلاحي او تغييري لا يمكن الحياد عن خطوة واحدة من خطواته، وهذا ما تفتقده كل التظاهرات العراقية، وخاصة التظاهرات الأخيرة، فهي اما تظاهرات تمثل رد فعل على خطأ حكومي ما، او تمثل رد فعل على فعل احتجاجي اخر، حتى اننا بتنا امام تظاهرات هجومية وأخرى دفاعية.
لا تؤمن الحركات الاحتجاجية بالدستور الحالي ولا تملك برنامجا واضحا لتعديله او تبدليه، بل لا تملك وسيلة الضغط، فحتى وان امتلكت الرؤية فمن الصعب تطبيقها بدون وجود قوة سياسية تدافع عن هذه الرؤية، والحركات الاحتجاجية ترفض وجود تنظيم سياسي، وترفض وجود قيادة لها، هي حركات احتجاجية تطالب باقتلاع المنظومة الحزبية كاملة ولا تملك حزبا واحدا كبديل، وتطالب بقانون عادل للانتخاب وهي تفتقد لمشروع انتخابي سوى بعض الشخصيات من داخل المنظومة الحاكمة لكنها تجيد فن الرقص على مطالب المواطنين.
المعوقات الخارجية
ما نقصده بالطرف الخارجي، هو الأشخاص والكيانات التي تتدخل بالحركات الاحتجاجية من خارج حركة الاحتجاج نفسها، اذ تصطدم الحركات الاحتجاجية بجدار قوي من المنظومة السياسية الماكرة، تتماهى المنظومة مع التظاهرات مستفيدة من غياب الأفق الواسع للمشاركين بالتظاهرات نفسها، وغالبا ما يتم الاستفادة من طرف سياسي معارض لكنه يمارس كل أنواع الفعل السياسي الرسمي، يتحول هذا الطرف الى حامل للواء المطالب الشعبية، تطلق وسائل الاعلام رسائلها التي تدعو للالتفاف على هذا الطرف السياسي، وخلال أيام يستولي على قلوب المتظاهرين ومن ثم تأتي التنازلات واحدة تلو الأخرى، في مقابل فتح مطالب جديدة لا علاقة لها بالأولى، وما بين بعض المطالب واستحداث أخرى تنهار الحركة الاحتجاجية بشكل بطي ثم تتلاشى.
ولان القوى السياسية نفسها خاضعة لنظام التوازنات الإقليمية والدولية فقد تتماهى مع الاحتجاجات بحسب قربها او بعدها من الجهة الدولية المهيمنة، بنظام (ان كان معنا فهو الحق، وان كان ضدنا فهو مؤامرة خارجية) ويستحضرون لهذه المهمة الوثائق والمواقف لتشويه الحركة الاحتجاجية حد التكفير السياسي او لتعظيمها وتقديسها وجعلها غير قابلة للنقد.
وفي المرحلة الأخيرة يأتي القمع وهو أخطر معوقات تحقيق اهداف الحركات الاحتجاجية في العراق، فهناك فوبيا الاغتيالات ضد كل من يكتب او يحاول تنوير المجتمع بمساوئ المنظومة السياسية الحاكمة، او يحاول تعرية المصالح الإقليمية والدولية، وهذه الأخيرة تحديدا قد تعرض الشخص اما للاستبعاد عن الساحة الإعلامية او يتم اغتياله جسديا، ومن خلال الاغتيال بالاستبعاد او الاغتيال الجسدي تفقد الحركات الاحتجاجية عقلها الذي يحركها، تفقد صوابها فبدون المتنورين والمثقفين لا وجود للتنظيم والهدف الواضح.
وقد يتعرض المثقفين للقمع عبر التشهير بهم واتهامهم بالتماهي مع طرف سياسي محلي او خارجي على حساب اخر، والهدف من ذلك تشويه سمعتهم امام المحتجين وما يتبعه من فقدان شعبيتهم وخسارة الاحتجاجات ركنا مهما من اركان فعلها السياسي وتوجيهها نحو اهداف حقيقية وقابلة للتطبيق.
اضف تعليق