اذا كان التنوير وما بعد الحداثة كلاهما يكافحان لتحليل ما هو صحيح وما هو زائف، فهما يفشلان في التمييز الكافي بين الصحيح والخطأ. ما بعد الحداثة تعالج بشكل صحيح الدور الذي يلعبه المجتمع في صياغة افكار الناس وتصوراتهم عن العالم. بهذا المعنى، تكون افكار ما بعد الحداثة...
ماهو الصحيح وما هو الزائف؟ هذا السؤال الملتبس أربك الفكر الغربي منذ اليونان القديمة.
اثناء العصور الوسطى، بقيت المشتركات بين مختلف الدول ذات الانظمة الملكية تعتمد على العقيدة الجمعية لتلك الشعوب القائمة على الايمان بالله كخالق للكون وان الخلاص يكمن في الايمان به. ايمان الناس بأنهم على صواب وكل العقائد الاخرى على خطأ قاد الى اراقة المزيد من الدماء في مختلف الاصقاع وهو ما ادّى الى الشك في الأديان الرسمية.
الملكيات التي كانت هي الحاكمة في القرون الوسطى تحالفت مع الكنيسة الكاثوليكية التي منحت للملوك الحق الديني. مفكرون مثل جون لوك و مونتسكيو و روسو بدأوا بمسائلة الملكيات والأشكال السلطوية الاخرى واختاروا صياغة نظام جديد مبني على فكرة القانون الطبيعي والعقلانية والتقدم والعقل، وهو ما عُرف بالتنوير.
التنوير طبقا لكانط هو نهاية الطفولة وبداية بلوغ الانسانية، الأحلام والفنتازيا حلّت محلها المعرفة.
فلاسفة التنوير استبدلوا اله الانجيل المتجاوز للطبيعة بالقانون الطبيعي الذي اتخذ دور السبب الاول للكون. آدم سمث طبّق مبادئ التنوير على الاقتصاد، وجادل بان حرية التجارة تفيد كلا الطرفين المستورد والمصدّر. خطأ الحكومات يقود الى نتائج غير مقصودة والناس سوف يكونون افضل لو اتّبعوا مصلحتهم الذاتية الرشيدة.
تعاليم سمث ادّت الى تراكم الثروة وتقدّم علمي واصلاحات سياسية وصلت ذروتها في ما سمي بالحداثة. الانظمة الملكية سقطت لتحل محلها الديمقراطيات، التي رفعت اصوات العديد من الجماعات. غير ان العديد من تعاليم سمث اصبحت شاذة وقادت الى لامساواة اجتماعية حين حلّت الملكية الخاصة للنخب محل المالكين الاقطاعيين في القرون الوسطى.
كارل ماركس حاول ان يحل هذه المشكلة من بين مشاكل اخرى، بالابتعاد عن مبادئ التنوير بحثا عن افكار تقود الى ازالة اللامساواة التي أوجدتها تلك المبادئ. غير ان عدم القناعة بالتنوير تعمقت بعد الحربين العالميتين الاولى والثانية عندما ادّت المعجزة التكنلوجية التي أوجدها العلم الى ابادة الملايين.
السوسيولوجي Christian Smith، صاحب كتاب (moral Believing Animals) أطلق على مختلف الحركات في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بـ "التنوير" الذي سعى لوضع اساس ملزم للمعرفة خارج يقينيات الكنيسة. مفكرو التنوير بتمزيقهم حجاب الدين كانوا يتوقعون الوصول الى الحقيقة العالمية غير القابلة للتفنيد.
وبهذا، طبقا لسمث، هم فشلوا تماما. كامل المشروع التنويري كان معيبا وبشكل خطير: "كل هذه المحاولات في اكتشاف اساس عالمي للمعرفة قد فشلت وسوف تفشل بالضرورة". ويضيف سمث "ان معرفة التنوير (المعرفة التي لايعرفها الا الله) هي ذاتها حلم وفنتازيا".
طبقا لهذه الرؤية، نحن نتميز بالمحدوديات. يجب لكل واحد منا ان تكون له رؤيته الخاصة. لذلك فان كل المعرفة تكون مختصرة وجزئية وذات تقييم ذاتي ونسبي. هذا ينطبق على المعرفة بالسلوك الانساني من أخلاق وتاريخ وسايكولوجي وسوسيولوجي، وكذلك ينطبق ايضا على العلوم الصرفة.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بدأت الشكوك تتزايد بأفكار التنوير، الذي أضفى الصفة المطلقة على العقل والعلوم. هذا الفراغ قاد الى ما بعد الحداثة، وهي مجموعة من الافكار صُممت لنقد المعتقدات السائدة. مابعد الحداثويون يعلنون ان لا وجود للحقيقة الموضوعية، وان الحقيقة تتأسس فقط بواسطة المجتمع. جميع افكار الاخلاق هي انما يضعها الناس وليست واقعية. وبالانسجام مع المذهب المابعد حداثوي جاء الايمان بان مؤسسات مثل العلوم واللغة هي مؤسسات قمعية. الكلمات تؤسس المعنى من خلال السياق التاريخي والهيمنة الاجتماعية لثقافة معينة. فمثلا، الرقم 13 في الثقافة الغربية يشي بالسلبية، بينما في الصين، يشير الرقم 13 الى "لمعان مليء بالحياة"، وهكذا يبرز امامنا السؤال أين الصواب وأين الخطأ؟
اذا كان التنوير وما بعد الحداثة كلاهما يكافحان لتحليل ما هو صحيح وما هو زائف، فهما يفشلان في التمييز الكافي بين الصحيح والخطأ. ما بعد الحداثة تعالج بشكل صحيح الدور الذي يلعبه المجتمع في صياغة افكار الناس وتصوراتهم عن العالم. بهذا المعنى، تكون افكار ما بعد الحداثة صائبة في تحليل الحقيقة كتفسير فردي. الناس يرغبون كثيرا بقبول المعلومات التي تنسجم مع رؤاهم بدلا من قبول المعلومات التي تتحدى تلك الرؤى.
غير ان ما بعد الحداثة فقدت زخمها في افتراضاتها القائلة بعدم وجود حقيقة عالمية وراء منظورنا الفردي. صحيح ان تصوراتنا وتجاربنا تصوغ بالفعل رؤيتنا العامة، لكنها تتقاطع مع الموضوعية والحقيقة الكامنة وراء قدراتنا الادراكية.
فلسفة مابعد الحداثة تقول ان الليبراليين والمحافظين كلاهما على صواب طالما ان الحقيقة لديهم ترتكز على العقيدة السائدة بينهم. غير انهما كلاهما على خطأ لأنهما يصوغان استنتاجات مبنية على حقائق غير كاملة جاء بها كل جانب على حده. اذا كان كلا الجانبين صائبين وخاطئين، الا يثبت ذلك صحة رؤية المابعد حداثويون بان الحقيقة هي نتاج لتفسير الفرد؟ الجواب كلا. ارسطو حلّ هذه المشكلة الفلسفية في اليونان القديمة عندما اقترح بان الحقيقة والسلوك الاخلاقي يشغلان المسافة بين أقصى حدّين وهو ما أطلق عليه بـ "الوسط الذهبي". طالما كلا الجانبين يعرض الحقيقة والزيف في ضوء رفضهما لرؤية الجانب الاخر، عندئذ من المعقول ان الاتجاه الوسط هو الاتجاه الصحيح لأنه يصوغ حلا مرتكزا على معلومات كاملة.
للاجابة على اكبر سؤال للبشرية حول الحقيقة هو ان نجد الوسط بين التنوير وفلسفة ما بعد الحداثة. إختيار احدهما دون الآخر يعني النظر للعالم بمنظار ناقص وغير تام. علينا ان نكافح للوصول الى اتجاه معقول نحو التقدم الانساني بينما نعترف في نفس الوقت بميولنا الفردية ونعطي مكان لأولئك اصحاب العقائد المخالفة.
اضف تعليق