على العقلاء من كل الاتجاهات والمكونات العمل على تعزيز روح المواطنة وبناء الدولة المدنية بعيدا على تهديدات السلاح والجماعات المسلحة، فضلا عن إيقاف استخدام القانون من اجل تحقيق اهداف ضيقة لا خدم السلم المجتمعي، فالشعور بالغبن والاستهداف يزيد من الشرخ في مجتمع لم يندمج بعد...
يقول الساسة الشيعة ان الحكومة الحالية والمنظومة السياسية المسيطرة تحارب سكان الجنوب، وتستهدفهم دون غيرهم، اذ ان كل التحركات السياسية لا ستهدف غيرهم، سواء تعلق الامر بالقيادة العليا والرموز التي تنحدر من مناطق الجنوب العراقي الشيعي، او حتى المواطنين انفسهم، فلا فرق لدى القوى السياسية والاستهداف محدد للشيعة من اجل اضعافهم كجزء من خطة كبرى لاضعاف النفوذ الإيراني الذي يتمركز في الجنوب.
تبدو الحجج التي يستحضرها الساسة الشيعية واقعية، فالتغيير السياسي لا يستهدف الا المناصب الخاصة بالشيعة، اذ ان التظاهرات الشعبية التي رفعت شعار اقتلاع المنظومة السياسية كاملة لم تستطع سوى تبديل رئيس الوزراء الشيعي، بينما بقي منصب مجلس النواب ورئاسة الجمهورية على حالهما، ولسان حال السياسي الشيعي يقول، انهم يستهدفوننا وكاننا نحن الفاسدون فقط، بينما المسؤول السني والكردي قد تربى في المدارس الملائكية، وربما يكون هذا الكلام فيه مبالغة، لكن ما يجري من احاديث لدى الشيعة ينطوي على جانب كبير من هذا الحديث.
يقول السياسي الشيعي وجمهوره ان الحكومة ارادت انهاء ملف الازدواج في الرواتب فذهبت مباشرة الى فئة بعينها دون ان تطبق القانون على جميع انحاء العراق، بل انها خالفت حتى الدستور في إصدارها قرارات تخالف قوانين حالية، فازمة رواتب رفحاء يعتقد المستفيدين منها انها استهداف للشيعة، لماذا؟ لان عددا كبيرا جدا من الكرد والسنة والأجهزة القمعية يتقاضون رواتب مزدوجة دون ان تمسهم الحكومة باي شيء، وتغاضت وسائل الاعلام الحزبية عن تناول هذه القضية، وهذا مبرر منطقي أيضا.
الحكومة الجديدة تشكلت بخرق دستوري واضح، بعد انقضاء المدة الدستورية لتشكيل الحكومة التي سبقتها ثم انقضاء مدة ثناية وعدم وجود كتلة برلمانية اكبر ترشح رئيس الوزراء، وهذا كله مقبول لان رئيس الوزراء الجديد يتوافق مع السياسة الأميركية، كما مُنِعَ وزراء تكنوقراط في الحكومة السابقة من بينهم وزير الصحة الذي نجح في حربه ضد فيروس كورونا، بينما اعيد انتخاب وزير المالية المتهم بافراغ خزينة الدولة وعدم قدرته على إدارة الملف المالي ليتسنم منصب وزير الخارجية، يتساءل السياسي الشيعي لماذا، فيجيب على نفسه لان ذلك استهداف للساسة الشيعية كجزء من الحرب على النفوذ الإيراني في جنوب العراق.
هل فعلا هناك استهداف للشيعة؟
لا يمكن الإجابة على هذا السؤال دون معرفة طبيعة التوازنات السياسية في العراق، ففي هذا البلد تبنى السياسة على منطق الأقوى هو من يحصل على أكثر المكاسب، وعلى حساب القانون وكل شيء اخر، المهم انه يستطيع فعل ما يحلو له بغض النظر عما يتعرض له الاخرون، فالشيعة هم اكثر مكون سياسي يمتلك جماعات مسلحة، وقد يقول قائل ان الكرد لديهم جيش خاص بهم دون ان يذكره احد، وهذا هو احد نقاط الخلاف.
لكن في السنوات السابقة استطاع الشيعة تقريب الجمهورية الإسلامية في ايران بشكل غير محدود وهو ما اثار حفيظة المكونات العراقية الأخرى، التي عملت بدورها على محاربة الوجود الإيراني وكل حلفاء ايران، وينظر اليوم الى اغلب الأحزاب الشيعية على انها جزء لا يتجزأ من النفوذ الإيراني، ومحاربة هذه الأحزاب بمثابة حرب فعلية على ايران ووجودها غير المرغوب فيه من قبل بعض المكونات وبدعم أميركي صريح.
وما يؤخذ على طريقة الدخول الإيراني للعراق ومن قبله الأميركي وحاليا الحرب الجديدة ضد ايران وحلفائها لا يصب اطلاقا في المصلحة العراقية، فان يستثني صانع القرار فئات معينة من صرامته، او يشدد قبضه ضد أخرى هذا خطأ فداح، ولا يمكنه بناء دولة مستقرة، فقد يستطيع قمع جهة معينة او استبعادها سياسيا، لكن من الصعب جدا تحقيق الاستقرار لان هذا العنصر مبني على تعزيز نظام العدالة والتعامل مع جميع الفئات الاجتماعية وفق القانون بغض النظر عن توجهاتها السياسية او المذهبية، اما بالنسبة للحرب على النفوذ الإيراني فلا يمكن ان تكون من خلال تطويع القانون العراقي لهذه الحرب، وهذه السياسة غير البناءة ستعيد انتاج الطائفية بثوب جديد، وهو ما يعني إعادة انتشار القوى الإقليمية واصطفافها، واستخدام الورقة الطائفية من قبل القوى السياسية التي خسرت جزءا كبيرا من نفوذها، فهل هذا ما نأمله؟ ام اننا نبحث عن اقتلاع جذور الطائفية المغذية للفساد والمحاصصة والمهددة للسلم المجتمعي.
على العقلاء من كل الاتجاهات والمكونات العمل على تعزيز روح المواطنة وبناء الدولة المدنية بعيدا على تهديدات السلاح والجماعات المسلحة، فضلا عن إيقاف استخدام القانون من اجل تحقيق اهداف ضيقة لا خدم السلم المجتمعي، فالشعور بالغبن والاستهداف يزيد من الشرخ في مجتمع لم يندمج بعد، وجراح الحروب ما تزال تنزف.
اضف تعليق