q
المسألة ليس في قبول العولمة أو رفضها، وإنما فهمها وإدراك طبيعة حركتها وميكانيزمات فعلها على المستويات كافة. وذلك لأن العولمة ليست أيدلوجية أو منظومة فلسفية مغلقة، وإنما هي مرحلة تاريخية من التطور الاقتصادي والعلمي والتقني والشامل، أفضى إلى خيارات جديدة. وتقود هذه القافلة قوى سياسية...

منذ نهاية الثمانينيات، حيث إنطلقت التحولات العالمية الكبرى على المستويات كافة. وما رافق هذه التحولات والتطورات من تداعيات وآثار طالت مرافق الحياة كلها. منذ تلك اللحظة التاريخية بدأ الحديث في الأوساط السياسية والعلمية والاقتصادية والإستراتيجية عن مشروع العولمة والكوكبة، حيث التطورات العلمية والتقنية المتسارعة والمذهلة، التي ألغت الكثير من الحواجز بين بلدان العالم، وإنهارت نظريات ونظم سياسية، وصعود خيارات سياسية واقتصادية على المستوى الدولي، حتى زعم البعض بأن هذه اللحظة تشكل في آفاقها وتحولاتها بداية نهاية التاريخ. وهي الرؤية التي صاغها المفكر الأمريكي من أصل ياباني (فرانسيس فوكوياما) في كتابه الشهير (نهاية التاريخ).

ودخل العالم كله من جراء هذه التحولات المتلاحقة في حروب وصراعات أيدلوجية وسياسية واقتصادية وثقافية، ولا زالت الإنسانية كلها تعيش هذه اللحظة التاريخية. وإن مستقبل البشرية، سيتحدد من خلال النتائج النهائية لهذه الحروب والصراعات.

ولعلنا لا نعدو الصواب، حين القول أن هذه الحروب والصراعات بعناوينها المتعددة، ومستوياتها المتباينة، بالإمكان تكثيفها في الجدل المحموم والصراع المفتوح بين أمم العالم والقوى الدولية المتعددة حول العولمة وإنتاج نظام دولي جديد يستند على ثورات معرفية وتقنية وصناعية هائلة، وتحولات سياسية وثقافية واقتصادية عميقة، ويطمح إلى إرساء معالم جديدة للعلاقات الدولية لا تبتعد في خياراتها وأسسها على نظام الهيمنة والسيطرة القديم.

فهم العولمة:

وعلى كل حال المسألة ليس في قبول العولمة أو رفضها، وإنما فهمها وإدراك طبيعة حركتها وميكانيزمات فعلها على المستويات كافة. وذلك لأن العولمة ليست أيدلوجية أو منظومة فلسفية مغلقة، وإنما هي مرحلة تاريخية من التطور الاقتصادي والعلمي والتقني والشامل، أفضى إلى خيارات جديدة. وتقود هذه القافلة قوى سياسية واقتصادية لها أجندتها وتطلعاتها وأهدافها الحضارية والسياسية والاقتصادية. ويبدو ان الكثير من النقد اللاذع للعولمة، لا يوجه لها باعتبار ها مرحلة تاريخية من التطور الشامل، وإنما يوجه إلى القوى الرئيسية التي تدير مؤسسات العولمة، وتوظف إمكاناتها لمصالحها السياسية والاقتصادية الضيقة وذات الطابع الإستغلالي والهيمني.

فالجدل يحتدم، حينما تتشابك خيوط العولمة مع خيوط الأمركة. وكلما تباعدت الخيوط، وتكونت المسافة الفاصلة بين العولمة والأمركة، خف الجدل، وتوارى الخوف، وأضمحلت الهواجس. ولعل سر الأزمة والخوف من العولمة في المجالات السياسية والثقافية المغايرة للمركزية الغربية، نابع من أن الولايات المتحدة الأمريكية، هي الحاضن الأكبر على مختلف المستويات لهذه الظاهرة الكونية الجديدة التي تسمى العولمة. فـ"الصلة عضوية بين العولمة والأمبريالية وهي صلة تقوم على علاقتين: علاقة امتداد واستمرار، وعلاقة قطيعة وانفصال. وجه الاستمرارية في العلاقة ثابت من خلال رسوخ ظاهرتين في نشاط النظام الرأسمالي ـ في صيغتيه الأمبريالية والعولمية ـ هما: الاحتكار والمنزع التوسعي المستمر. والعولمة في هذا ترث جدتها الأمبريالية فتذهب بالاحتكار إلى أعلى الحدود الممكنة، إن على صعيد منظومة الدول السبع الكبار، التي تحتكر أكثر من ثلاثة أرباع الثروة العالمية، أو على صعيد منظومة الشركات الكونية الكبرى فوق القومية التي تتحكم اليوم في نسيج الانتاج والتبادل، مثلما تذهب بالتوسع إلى حدّ أعجاز أي سوق في العالم عن حفظ الحد الأدنى الرمزي من سيادتها ".

العولمة وبناء القوة الذاتية:

لذلك فإن فهم تجليات العولمة ومؤسساتها الرئيسة ومشروعاتها الاستراتيجية وطرق الوصول إليها أو تنفيذها. كل هذا هو بحاجة إلى أن نعيد ترتيب أوضاعنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وذلك لأن حجم التأثير مرهون إلى حد كبير في طبيعة القوة المتوفرة في مجالنا العربي والإسلامي. و"لا يمكننا اعتبار العولمة أيدلوجيا معينة أو مذهبا سياسيا أو معتقدا فكريا، فهي ظاهرة تاريخية كبرى لها أنماط متعددة الوجوه، ومناهج متنوعة الحقول، ومخاطر لا متناهية الحصول ليس لإعادة إنتاج نظام الهيمنة القديم، بل لإنتاج نظام مهيمن جديد واسع في متغيراته القيمية على امتداد القرن المقبل. وعليه، لا بد من التنبيه هنا إلى أن من يعالجها عليه أن يلغي ـ ولو قليلا ـ أفكاره التي تربى عليها".

ولا ريب أن العولمة تطلق جملة من التحديات والمخاوف، ولكننا لا يمكن مواجهة هذه التحديات والمخاوف بالصراخ والعويل، وإنما ببناء قوتنا الذاتية، وإصلاح أوضاعنا، والانعتاق من المعضلات الكبرى على الصعيدين السياسي والمجتمعي التي تعيق انطلاقتنا، وتزيد من ضعفنا، وتحولنا إلى كائن لا حول له ولا قوة. كما أن العولمة توفر جملة من الفرص والآفاق، لا يمكن تحقيقها إلا إذا امتلكنا أسباب القوة، وتجاوزنا مشاكلنا المعيقة، وتحررنا من كل رواسب التخلف والانحطاط.

وهكذا نستطيع القول: أن المطلوب هو بناء قوتنا على الصعد كافة، وتجاوز كل المشكلات التي تحول دون نهضتنا.

هذا هو خيارنا للإستفادة من فرص العولمة وآفاقها، ومجابهة تحدياتها ومخاوفها.

فالمطلوب ليس إتخاذ موقف من العولمة، وإنما بناء رؤية، تؤهلنا للإنطلاق في مشروع بناء الذات، وتحرير واقعنا من معيقاته الذاتية، ووقف الانهيارات السياسية والاقتصادية أمام تطورات العالم.

العرب في عصر المعلومات:

ولا شك أن القاسم المشترك بين المجتمعات المتقدمة، هو قدرة هذه المجتمعات على توفير الشروط الذاتية والاجتماعية لاستيعاب تطورات العصر وحركة التقدم الإنساني. فدائما نجد أن المجتمع المتقدم يملك القدرة النفسية والعلمية لهضم الجديد والتطورات التي تحدث، وهذه العملية هي التي نطلق عليها جملة الشروط الذاتية والاجتماعية لاستيعاب حركة التقدم الإنساني، فهي قدرة إنسانية فذة، تسعى إلى مواكبة الجديد العلمي، وهضم واستيعاب تقنياته وأسراره.

فالمهمة الأساسية الملقاة على عاتقنا كعرب ومسلمين في عصر المعلومات، هو أن نوفر الشروط الذاتية والاجتماعية لاستيعاب متطلبات هذا العصر، بكل ما تعني كلمة الاستيعاب من معنى.

وتوفير الشروط الذاتية والاجتماعية، ليس محصورا في جانب طبيعة العلاقة التي ينبغي أن تكون مع عصر المعلومات، بل تتعدى ذلك وتشمل جميع المجالات والآفاق، بحيث أن الضغوطات الخارجية والتحديات الداخلية، لا تحوّل المجتمع إلى جثة هامدة راكدة، لا تستطيع عمل أي شيء أمام ضغوطات الخارج أو تحديات الداخل، وتعتبرها وكأنها القدر الذي لا مفر منه. بل تتعامل مع الضغوطات والتحديات وفق المنظور الحضاري والذي يحاول أن يمنع عمل وتأثير تلك الضغوطات الخارجية، ويسعى نحو تحويل مسار تلك التحديات وجعلها عتبات يرتقي بها المجتمع سلم التطور والمجد.

فالشروط الذاتية والاجتماعية من قبيل القدرة على التكيّف والاستيعاب العلمي والصلابة النفسية، هي التي لا تجعل المجتمع ينهزم أمام مشاكله، ويرضخ لتحدياته بل تغرس في نفوس أبناء المجتمع العزة بالذات، والإيمان المطلق بقدراتها وتجعلهم يتحملون شظف العيش وضنك الحياة، من أجل تجاوز تلك المشاكل والتحديات.

فالمجتمع الألماني خرج من الحرب العالمية الثانية، منهك القوى، مشتت الأوصال، محطم الاقتصاد، ومدمر البنى التحتية، إلا أنه لم يستسلم أمام هذا الواقع الصعب، وإنما بدأ رويدا رويدا، يبني ذاتـه، ويعيد قواه، واستخدم في سبيل ذلك كل الإمكانات المتاحة له.

بينما المجتمعات التي لا تمتلك السرعة والإمكانية الكافية لتوفير الشروط الذاتية والاجتماعية لاستيعاب التطورات والتحولات في مختلف الاتجاهات، تصاب بالأفول والضعف والاضمحلال أمام التحولات والتحديات المختلفة.

وما نقصده بالشروط الذاتية والاجتماعية، التي تؤهل المجتمعات لاستيعاب تطورات العصر وتحولاته هي:

القوة النفسية والإرادة الفاعلة:

إذ أن المجتمعات المهزومة نفسيا، لا تستطيع توظيف إمكاناتها وقدراتها في مشروع التطوير لأن النفسية المهزومة لا تعكس إلا إرادة خائرة لا تستطيع القيام بأي عمل.

لهذا فإن من الشروط المهمة التي ينبغي توافرها لاستيعاب عصر المعلومات بمتطلباته وآفاقه هو توفر القوة النفسية والصلابة المعنوية التي تبث إرادة فاعلة، وعزيمة راسخة، وتصميما فولاذيا، على تطوير الواقع واستيعاب تحولاته، ومقاومة العوامل المضادة التي تحول دون التقدم والتطور.

واستطرادا نقول: أن الخطر الحقيقي الذي يواجه الشعوب والأمم، ليس في الهزيمة المادية الخارجية، بل في الهزيمة النفسية، التي تسقط كل خطوط القدرة الداخلية، وتمنع وجود الإمكانية الطبيعية لإدارة الذات فضلا عن تطورها وتذليل العقبات التي تمنع ذلك.

الدينامية الذاتية:

بمعنى أن حركة المجتمع تجاه التقدم والتطور، حركة ذاتية لا تنتظر المحفزات من الخارج، بل هي مجتمعات مولدة للإصلاح والتطوير وصانعة له.

وأن الحركة الذاتية، هي التي تفتح أبوابا جديدة لرؤية المستقبل وبلورة آفاقه. فإن الإمكانات والقدرات التي يتضمنها أي مجتمع لا يمكن توظيفها في عملية التقدم وحسن استخدامها في مشروع التطور، إذا لم تكن هناك حركة ذاتية في المجتمع يتحرك بحوافزها، ويسعى نحو الاستفادة القصوى من كل الإمكانات المتوفرة في الإنسان والطبيعة.

التعاطي الإيجابي مع التحولات:

وهو ابتداءً قدرة نفسية، تتجسد في إرادة وتصميم وتخطيط، يتجه إلى تحقيق الانسجام المطلوب بين الواقع والمثال.. وهذه صفة حضارية، إذ يتمكن صاحبها من تجاوز عثرات الطريق وسيئات الواقع، ويستطيع من خلالها أن يستوعب التحولات والتطورات. فالولايات المتحدة الأمريكية، واجهت الكثير من الأزمات والمشاكل المستعصية القادرة على إيقاف الزحف الحضاري، أو تغيير قمته من أمريكا إلى دولة أخرى، لكن قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على التعاطي الإيجابي مع هذه التحولات والأزمات، والاستفادة الدائمة من عناصر القوة الجديدة، وإدخالها في الدورة الحضارية الأمريكية، هو الذي أبقى الولايات المتحدة زعيمة العالم وقطب الرحى في مسيرة الحضارة الحديثة.

وأن أفول هذه القدرة هو بداية النهاية لأية حضارة، حيث أن الحضارات الإنسانية التي سادت ثم بادت تكشف لنا أن العنصر الأساسي الذي أنهى تلك الحضارات وجعلها تعيش القهقري، هو عدم أو ضعف قدرتها على التكيف مع التطورات والتحديات الجديدة، ولا فرق في ذلك سواء كانت تلك التطورات والتحديات والتحولات طبيعية أو إنسانية.

لأن القدرة على التحكم بالطبيعة كمقوم أساسي من مقومات النهوض والحضارة لا تتأتى بدون قدرة الإنسان على التكيّف مع متطلبات الطبيعة، وتوفر أسباب الاستفادة منها، وهكذا فيما يرتبط بمنجزات الإنسان الحديثة.

وبالتالي فــإن التعاطي الإيجابي مع التحولات يعني، النفـاذ إلى القوانين التي تتحكم بسيرورات تطور المجتمعات الإنسانية تمهيدا للـوصول إلى مـعرفة الواقع الاجتماعي، وسياقه التاريخي، وإمكانات الفعل والتطور الذي يزخر بها وجوده.

من هنا فإننا في هذا العصر الزاخر بالمعلومات وتقنياته المتعددة، لا يمكننا أن نختار هل ندخل هذا العصر أم نغلق واقعنا منه، وإنما من الأهمية توفير كل الشروط الضرورية لاستيعاب تطورات هذا العصر وتقنياته حتى يتسنى لنا المشاركة الطبيعية في عصر لا محل فيه إلا إلى المجتمعات الحية، الزاخرة بالكفاءات والطاقات الخلاقة.

اضف تعليق