نطرح العراق نموذجا لهذه الدولة التي تم اختيارها لتطبيقات اختبار دولة ما بعد الحداثة، والشعار الذي رفعته قوى ما بعد الحداثة وهي سياسية دولية واقليمية وحتى محلية بأن العراق دولة مكونات وليس دولة مواطنين، هكذا تنتفي الجذور في دولة العراق لتكون دولة الجذمور، دولة السطح...
لم تكن السلطة في نظر ميشيل فوكو لتستقر في مركز أحادي، انها منتشرة على شبكة من العلاقات وهي نتاج الصراعات الدائرة على امتداد هذه الشبكة، هي نقاط في شبكة وليست نقاطا على خط مستقيم تديره الدولة فحسب، بل أن السلطة في الدولة هي نتاج هذه المجموعة من مراكز السلطة المشتتة والمنتشرة على مدى غير محدد وهي بمثابة الروافد المتعددة التي تغذي نهر السلطة في الدولة، وهي تتوزع بشكل مسبق ومؤثر على السلطة في الدولة.
والسلطة في توزيعها اللامتعين حصرا تعمل فيما بينها بأداة الشد والجذب وبذلك تحفظ التوازن في الحياة السياسية والاجتماعية في الدولة والمجتمعات، انها شبيهة بعوامل الشد والجذب التي تحكم مسارات الكواكب في الفضاء.
هذه السلطة التي ينظر لها فوكو تقارب عملية الفوضى المنظمة التي نشاهدها في الكون، انها الفوضى المنتظمة بقانون محاذ لها أو مترابط بها وتعتمد الفوضى المنظمة مبدأ التعددية وعدم المركزية، فالكون لا مركز أحادي له.
وهذه الفوضى المنظمة تشبه الى حد كبير الجذمور لدى جيل دولوز الذي لا مركز له بل مراكز تشغل كل نقطة فيه ولذلك فهو لا جذر له مثل النباتات التي ينتمي اليها هذا الجذمور، انه شبكة من العلاقات والفعاليات المتعددة التوجهات فهي بكل اتجاه تسير، وهكذا السلطة التي شغلت فوكو كثيرا بكل اتجاه تسير لكنها تدعم بعضها البعض لأنها اذا تفقد الدعم المتبادل أو تحاول الانفراد بالسلطة فهي لا تؤمن مستقبلها وتكون على حافة الهاوية، ولعل مصير الأنظمة الدكتاتورية يكشف فعلا عن مثل هذا المصير.
وهذا التعدد في مراكز السلطة والجذب المتبادل بينها هو ما تسعى اليه دولة ما بعد الحداثة التي تأثرت مطلقا بمبادئ التعددية وغياب السلطة المركزية، بل هي أحيانا نتاج الفوضى الخلاقة التي بثتها قوى سياسية كبرى تصنف من جانبنا بأنها ما بعد حداثوية اعتمادا على مبدأ الفوضى الخلاقة، وهي تعبير جاد عن الفوضى المنظمة التي تقارب سلطويات فوكو وتجد لها موقعا أساسيا في الجذمور لدى دولوز وهي تقابل المركزية الحداثوية تقابلا مضادا ومعاكسا، وتلك الدولة المابعد حداثوية تكون منشغلة بشكل بنيوي بالسلطة وموضوعها هو توزيع السلطة بين أفراد أو مكونات مجتمعات هذه الدولة.
ولأهمية ومركزية توزيع السلطة على الشبكة الاجتماعية والسياسية في الخرائط الفكرية لما بعد الحداثة وانهمام الجرموذ بتوزيع مراكز القوى على كل أوساطه، نجد دولوز هنا لا يؤمن بالمركز بل يكرس كل عقيدته بأوساط هذا الجذمور الذي من الممكن أن تنبثق منه السلطة والوجود الخاص بكل تفرع من هذا الجذمور، ان خصوصيته كفرع تمنحه شرعية السلطة.
وهكذا دولة ما بعد الحداثة تكون مكونات مجتمعها تفرعات اجتماعية وسياسية لها ممارسة السلطة التي تنبثق متلازمة مع وجودها الخاص بها دفعا ومنعا للهيمنة والقمع الذي تمارسه قوى المركز في دولة الحداثة مع التأكيد على إلغاء فكرة الهوية، لأن ما بعد الحداثة تقوم على إلغاء الهوية لأنها فعل متكون من الماضي وصناعة التاريخ الماضي لها، بينما تتجه ما بعد الحداثة الى المستقبل دائما بالتزامها مبدأ الصيرورة دائما، أما الحداثة فإنها تنطلق من الحاضر بقوة وهو سبب نجاحاتها التاريخية ولذلك كانت ترفع شعارات التطور والتقدم والسعادة انطلاقا من الفعل البشري في الحاضر الذي يكفل لها صناعة المستقبل، اما ما بعد الحداثة فإنها تنطلق من مبدأ الصيرورة أو الفعل الذي تصنعه إرادة الحياة.
هكذا تترك دولة ما بعد الحداثة خاضعة الى إرادة القوى المهيمنة على إرادة الحياة، هذه القوى المتعددة الداخلية والخارجية سواء منها الاقليمية أو الدولية ولن تكون فاعلة هذه الدولة بفعل أفرادها أو مواطنيها.
وهنا نطرح العراق نموذجا لهذه الدولة التي تم اختيارها لتطبيقات اختبار دولة ما بعد الحداثة، والشعار الذي رفعته قوى ما بعد الحداثة وهي سياسية دولية واقليمية وحتى محلية بأن العراق دولة مكونات وليس دولة مواطنين، هكذا تنتفي الجذور في دولة العراق لتكون دولة الجذمور، دولة السطح دون العمق، دولة تتشابك فيها علاقات المكونات السياسية والاقتصادية لتنمو شبكة من العلاقات على السطح السياسي والاقتصادي دون الجذر الاجتماعي الذي أرادت دولة الحداثة نقله من الولاءات الدينية والعشائرية والهويات الفرعية الى الدولة والى الهوية الوطنية الجامعة، لكنها كبت وانحرفت مسارات الأنظمة الدكتاتورية فيها فأسقطت دولة الحداثة لتحل بديلا اضطراريا عنها دولة ما بعد الحداثة في العراق بلا اختيار حر أو تخطيط ناشئ من الداخل أو تطور تاريخي ناتج عن تراكمات تاريخية تطورية بل نشأ عن إرادة خارجية دولية أو إقليمية، ناشيء عن إرادة تحريفية/تطورية للتاريخ طرحتها قوى ما بعد الحداثة وهذه المرة قوى فكرية.
وكانت صيغتها الأولى معرفية وثقافية لتنتقل الى الخارطة السياسية والاجتماعية في المجتمع البشري الذي يعيش في العصر الشجري استنباطا عن دولوز أو عصر الحداثة، فهذا العصر يشبهه دولوز بعالم الاشجار التي تنمو استنادا الى الجذور، استنادا الى الماضي الذي يبيح القمع والهيمنة لأنه ماضي الهويات وفق دولوز الذي يدعو الى اجتثاث عالم الاشجار هذا من حياتنا واستبداله بعالم الجذمور، والجذمور هو صنف من النباتات لا ينتمي الى عالم الاشجار بل الى عالمه الخاص حيث تمتد قوائمه وفروعه على الأرض مباشرة بلا جذور، وهنا يقول دولوز في ضرورته في حياتنا "لقد سئمنا من الاشجار وعلينا أن لا نثق بها ولا في الجذور والجذيرات لأننا عانينا كثيرا، ومعلوم ان كل الثقافة الحديثة تتأسس انطلاقا منها... ان الجذمور الذي ينشا بين الحشائش والأشجار هو القادر أن يهز دعائم الشجرة الحديثة للعلم الغربي الذي نشأت فيه المبادئ السياسية والقانونية للدولة الحديثة مما يتيح لهذه الدولة ان تهتز وفق اطروحات ما بعد الحداثة.
وتعكس إرادة دولوز وغيره من فلاسفة ما بعد الحداثة في تغيير عالم الاشجار أو عالم الحداثة اصرارا مسبقا ومتعمدا في إحراز هذا التغيير والعمل بإرادة أحيانا تكون خارجة على المنطق الداخلي في التطور من أجل تحقيق التغيير في تاريخ الحداثة باتجاه ما بعد الحداثة عن طريق التدخل الفكري البشري الحاد، وهو ما جعل من استنساخ هذه الارادة في سلطة المعرفة في مجال السياسة والحرب أمرا ممكنا في إحداث التغيير السياسي بل والهوياتي في العراق، وهو ما صنعه المجتمع الدولي الذي يقف على أعتاب ما بعد الحداثة والمختزل بإرادة الولايات المتحدة الأميركية في إحداث هذا التغيير في العراق في 9/4/2033م.
وهو أي عالم الاشجار المزمع تغييره ما بعد حداثويا في انطباقه على الدولة الحداثية أكثر وضوحا مما يبرر اسقاط هذه الدولة لأنها تلك الهيأة الاجتماعية والسياسية التي تستند الى الماضي أولا والتي يشكل جذرها الأول، والى الهوية الواحدة التي تعبر عنها بالهوية الوطنية التي تشكل جذره الثاني، وهذه الهوية الواحدة هي أكبر سخط تراه ما بعد الحداثة في المجتمع البشري أو في دولة الحداثة في قبالة المبدأ الأساس لها وهو التعددية الشبيهة بتعدد فروع الجذمور.
والتعددية فيما بعد الحداثة إذ تستحضر مقاومة القمع والهيمنة فإنها تستحضر عدائها المركزي للسلطة المركزية إيمانا منها وتوظيفا لفكرة فوكو بانتشار نقاط السلطة في الشبكة الاجتماعية، وتعدد المراكز التي ينبثق منها الفعل في شبكة الجذمور بناءا على دولوز.
ومن هنا ينشأ التوتر بين ما بعد الحداثة والدولة المركزية في العراق، ومصدر التوتر ومركزه هو السلطة التي تحكم مجتمعا متعدد الاديان والمذاهب والقوميات والاثنيات، ومن هنا كان الحذر من عودة الدكتاتورية ومن ضرورة توزيع السلطة وليس توزيع السلطات التي تنص عليها أعراف ودساتير الدولة الحديثة، فتوزيع السلطات هي عملية قانونية ودستورية في دولة الحداثة بينما توزيع السلطة في دولة العراق هي عملية سياسية أكثر مما هي قانونية وهي تبيح تجاوز القانون من اجل تحقيق هذا التوزيع الذي يمكن توصيفه بالمتوازي–مثل رئيس الجمهورية كردي، رئيس مجلس النواب سني، رئيس مجلس الوزراء شيعي-ولا يمكن توصيفه بالعادل لأنه لا يستند الى قيم قانونية أو معايير عادلة بالمفهوم العام للعدل السياسي والقانوني، ولكن لأن الجذر معفى أو مبتور في دولة ما بعد الحداثة فهي دولة جديدة كل الجدة في التاريخ البشري، وكذلك فإنها لا تؤمن بالمعايير السابقة لأنها معايير تنتمي الى الماضي ولا تستند الى قيم القانون لأن القانون يتحرك في الأساس والجذور وبناء على السابقة القانونية مما يدعها تصطدم بمبادئ ما بعد الحداثة لأنها الصيغة القانونية بالنتيجة هي من صيغ الماضي وقمعه وهيمنته لاسيما أن القمع والهيمنة ذي صلة وثيقة بالقوانين.
توزيع السلطة هذه انتقل من المستويات السياسية العليا الى نقاط أو مراكز في المجتمع بما يشبه الجذمور في توزيعه او بالأحرى تشتته مما يؤدي بالنتيجة الى تشتت السلطة والفوضى الناجمة عنها في المجتمع واعاقتها حركة وتنظيمات الدولة، ونتيجة تضخمها أو تورمها باعتبارها حالة مرضية سياسية ومجتمعية انتجت ما يعرف بالدولة العميقة التي هي عبارة عن دويلات مستقرة في قاع المجتمع العراقي وفي مؤسساته ودوائره كافة.
ورغم ان ما بعد الحداثة جاءت تطورا تراكميا عن الحداثة في الغرب الا أنها في دولة العراق جاءت تطورا اضطراريا ناجما عن ارادة التغيير التي انتهجتها ما بعد الحداثة وطبقتها القوى السياسية الكبرى في العالم لا سيما في مقترحات الفدرالية التي قوضت سلطة المركز، وفي مقترحات التعددية التي عمليا قوضت الهوية الوطنية العراقية الجامعة، ولا يعني هذا رفض الفدرالية أو التعددية فهما اطاران صالحان لدولة العراق مع فرضية بناء هوية وطنية جامعة أكثر تطورا وحداثة في عصر ما بعد الحداثة ولكن ما قمنا به هو محاولة في تطبيقات فوكو ودولوز في موضوع السلطة في العراق.
اضف تعليق