q
الشدة والغلظة لا تفضيان إلى وحدة وطنية حقيقية، لأنهما يعملان على إلغاء كل الخصوصيات التي تساهم في إثراء مفهوم الوحدة. كما أن الإنحباس الضيق والقشري في الخصوصيات السوسيولوجية، يؤدي إلى التحاجز، ويمنع تطوير حالات العيش الواحد. والثقافة لا تنمو وتتطور إلا في إطار احترام كل...

من الطبيعي القول، أن الشدة والغلظة لا تفضيان إلى وحدة وطنية حقيقية، لأنهما يعملان على إلغاء كل الخصوصيات التي تساهم في إثراء مفهوم الوحدة. كما أن الإنحباس الضيق والقشري في الخصوصيات السوسيولوجية، يؤدي إلى التحاجز، ويمنع تطوير حالات العيش الواحد.

والثقافة لا تنمو وتتطور إلا في إطار احترام كل الخصوصيات والتنوعات، هذا الاحترام المستند إلى إطار قانوني وإنساني، يقوي من خيار الوحدة على قاعدة التنوع. فالخصوصيات تتحرك في فضاء الوحدة، كما أن الوحدة لا معنى لها على الصعيد الإنساني والواقعي إلا بفسح المجال لكل الخصوصيات، لكي تعبر عن ذاتها اجتماعيا وثقافيا وسياسيا.

فلكي تزدهر ثقافة شعب ما ( كما يعبر إليوت ) ينبغي ألا يكون شديد الاتحاد ولا شديد الانقسام. ففرط الوحدة قد يكون ناشئا عن التحلل وقد يؤدي إلى الاستبداد أيضا. وكلا الطرفين يعوق اطراد النمو في الثقافة.

الثقافة وخصوصيات المجتمع:

فالثقافة الوطنية ليس إنتاج خصوصية دون أخرى، وإنما هي نتاج الحراك والتفاعل بين الخصوصيات المتوفرة في الفضاء الوطني كلها. فمن خلال تنمية الجوامع والمشتركات، وتفاعل الخصوصيات مع بعضها، والتواصل بين مختلف الفعاليات الثقافية والأدبية والإبداعية، تتشكل مقولة الثقافة الوطنية. فهي نتاج المجتمع بكل خصوصياته وتنوعاته المعرفية والتاريخية.

فتغييب الخصوصيات لا يثري الثقافة، بل يجدبها، ويخرجها من دائرة الفعل التاريخي في الواقع المجتمعي. وإمعان السياسي في إبراز خصوصية واحدة، أو العمل على تذويب وصهر الخصوصيات الصغرى في خصوصية كبرى بوسائل قسرية، لا يؤدي إلا إلى المزيد من التشظي الاجتماعي والثقافي.." فالإفراط في عزل الثقافة عن معناها الخلاق، وبالتالي عن كيفيتها في إنتاج المجتمع الذي نعيش فيه، إنما يؤدي إلى خلق ثقافة مركزية منغلقة تتصور الوجود الاجتماعي من خلال تصورها، وتوجه الخطاب الثقافي ( بمعنى الشامل في الحياة ) من خلال ما تنتجه النخبة المركزية من أفكار تتصل بكيفية إنتاجها للمجتمع.

ويورث هذا السياق السوسيولوجي للثقافة المركزية سلسلة طويلة من الإشكاليات يوازي حجمها حجم التنوع في المجتمع ( ديمغرافيا وثقافيا )، وتكون ـ عادة انعكاسا لمجتمع تسوده علاقات متنوعة ومتغيرة مع الثقافة المركزية ( السلطة ) تتوزع بين التحالف، والولاء والانقسام والاختلاف والتمرد والعزلة. إلى آخر هذه السلسلة الطويلة من المواقف التي تنتج ثقافات موازية ومتصارعة أحيانا. ولعلنا نلاحظ الآن أن حجم إشكاليات الثقافة في دول الخليج يتفاوت فيها بمقدار ما ترثه من التنوع الثقافي ".

فالهوية الثقافية لمجتمعنا ووطننا، تتشكل من مجموع التشكيلات الاجتماعية المتعددة في منابتها وميراثها الديني وتحولاتها الثقافية، وإن أي تنكر لواحد من هذه المصادر، يفضي إلى انقسامات مجتمعة عميقة. وإن استخدام القوة والغلبة والقسر في عملية التنكر والتغيب، لا تزيد الأمور إلا تفتتا وانقساما وتشظيا.

فالتعصب الأعمى لبعض الخصوصيات والعمل على إلغاء وقهر الخصوصيات والتنوعات الاجتماعية الأخرى، يؤسس لمشروع حروب اجتماعية مفتوحة، تهدد بمتوالياتها النفسية والعملية أسس الاستقرار وعوامل الوحدة في الإطار الوطني والاجتماعي.

وذلك لأن عقلية التعصب والإلغاء، تمنع من تبلور خيار الشراكة والمشاركة لكل التنوعات في بناء الوطن وتطوير المجتمع على مختلف المستويات.

من هنا تجد أن مختلف الصيغ والطروحات التي تتداول في الساحة، لإنجاز الاستقرار وحماية الوحدة الوطنية، تصاب بالتكلس والخمول ولا ترقى إلى ممارسة دور حقيقي في الإطار المرسوم لها، وذلك بفعل أن هذه الصيغ تستند إلى خيار استبعاد العديد من مكونات التأثير والقوة من القيام بدورها في هذا السياق. فالتجانس الثقافي في الإطار الوطني، لا يأتي بالقسر وقانون الغلبة والتغيب، وإنما هو وليد حياة ثقافية واجتماعية مفتوحة على كل الاجتماعات والقراءات والآراء، وتدخل عبر أطر ومنابر وطنية في عملية حوار وجدل ثقافي لتنمية الجوامع وضبط الاختلافات والتمايزات وصياغة مشروع ثقافي وطني على قاعدة التنوع في إطار الوحدة.

التعددية الثقافية والاستقرار:

وإن التعدد الثقافي بحاجة إلى نمط من الإدارة ينطوي على قيم الحوار والاحترام والتسامح، حتى يتسنى له المساهمة الجادة في إثراء مفهوم الثقافة الوطنية. فالثقافات الهامشية لا تموت حينما يستخدم تجاهها القسر والقهر والإلغاء، وإنما تتمرس وتتمكن من استيعاب كل مفاعيل الإلغاء والقهر. بينما إعطاؤها الحرية والسماح القانوني والإعلامي للتعبير عن ذاتها، يساهم في امتصاص العناصر الإيجابية ويحول دون تأثير الواقع المجتمعي بعناصرها السلبية. فمبدأ المشاركة في بناء وتسيير الوطن، هو القادر على اجتراح وقائع وحقائق تزيد من فرص الاستقرار السياسي والاجتماعي، ويحمي الوحدة الوطنية من كل المخاطر والتحديات. ولا شك أن "هناك منفعة، مصلحة يقتنصها الجميع في سياق النظر إلى الثقافة بوصفها شراكة في الإنتاج واعترافا عقلانيا شاملا بالتنوع. سنجدها تتجسد بصورة أساسية في توفر إمكانيات أوسع وأعمق في الاستثمار الثقافي، إن سباقا حقيقيا نحو الموضوعية يتحقق من جراء استثمار التنوع. بل إن النزوع الذاتي حينئذ يتمثل بوصفه تروعا إلى الموضوعية والعلموية، ومن شأن ذلك أن يعيد ترتيب الأشياء والأولويات في ضوء استراتيجية الفعل لا رد الفعل، وفوق أرضية مهيأة لامتلاك أدوات المعرفة وإنتاجها أيضا".

الانفتاح الثقافي أولا:

والانفتاح الحقيقي على قوى المجتمع ومكوناته المتعددة، لا يبدأ من الاقتصاد والسوق، وإنما من الثقافة. لما تشكله هذه المقولة من تعبير عميق عن مكنونات الإنسان ونسيجه الاجتماعي وعلائقه الإنسانية. فالانفتاح الاقتصادي ليس بديلا عن الانفتاح الثقافي. ونستطيع القول في هذا الإطار: أن أفق الانفتاح الحقيقي يتشكل ويتبلور من الثقافة وأنظمتها الاجتماعية.

لذلك فإن الانفتاح الثقافي الحقيقي، هو بوابة الانفتاح في مختلف المجالات والمستويات. وإذا كانت الرقابة معرقلة لحركة الاقتصاد والتجارة، فإن الرقابة في الحقل الثقافي مميتة للثقافة، ومعيقة للإبداع، وكابحة للتطور والتقدم. فكما أن التشريع الديمقراطي للحركة الاقتصادية يزيد من فرص الاستثمارات والإنتاج، كذلك فإن إرساء دعائم قانون وطني يعطي الحرية للمثقف وأطره القائمة والمرتقبة، سيساهم في تطوير الحركة الثقافية، وسيدخلها في مرحلة جديدة من العطاء والإبداع المتميز في كل الحقول.

ولعلنا لسنا بحاجة إلى إثبات، أن فسح المجال للثقافة والمثقفين من القيام بدورهم ووظائفهم العامة، لا يضر بمفهوم الأمن الوطني، بل هو رافد من روافد تعميق خيار الأمن والاستقرار في الوطن والمجتمع.

والحوار الثقافي والتواصل الفكري بين مختلف المكونات والتعبيرات، لا يهدد الاستقرار الاجتماعي، وإنما يثريه ويزيده صلابة وتماسكا.

وإن الاشتغال الثقافي والسياسي على إلغاء التنوعات الاجتماعية ومنعها من التعبير عن ذاتها ثقافيا وإعلاميا وسياسيا، لا يصنع نسيجا اجتماعيا متماسكا، وإنما هذا الاشتغال يزيد من تمسك هذه التنوعات بخصوصياتها، وتبحث عن سبل أخرى للتعبير عن ذاتها ثقافيا وسياسيا.

وجماع القول في هذا الإطار: إننا بحاجة إلى رؤية سياسية واجتماعية جديدة في التعامل مع التنوعات والتعدديات (التقليدية والحديثة) المتوفرة في مجتمعنا ووطننا. وهذه الرؤية قوامها أن هذه الحقائق لا يمكن نفيها وإقصاءها من الواقع المجتمعي، وإنما نحن بحاجة إلى التعامل معها على قاعدة الاحترام وفسح المجال القانوني لها للتعبير عن ذاتها، وذلك لإثراء مفهوم الوحدة الوطنية، وتمتين جبهتنا الداخلية في وقت نحن أحوج ما نكون إلى التراص والائتلاف وتجاوز الثغرات الداخلية للبناء الوطني.

التنوع والقانون:

فالبناء القانوني السليم، وسيادة القانون، وتوسيع حق المشاركة في الشؤون العامة كلها عوامل تساهم في توطيد أسباب الوحدة الوطنية، وتعمق من خيار البناء والعمران، ولا يمكن الحصول على الاستقرار والتقدم الثقافي والاجتماعي من خارج حركة المجتمع. بخصوصياته وتنوعاته. لذلك فإن الإنصات إلى حقيقة التنوع والتعدد في المجتمع، هو البداية الحقيقية والخطوة الأولى في مشروع الاستقرار وبناء الوحدة الوطنية على قاعدة صلبة وذات عمق تاريخي. فالتنوع والتعدد في المجتمع ليس انقساما وتشرذما، وإنما هو حقيقة تاريخية ومجتمعية ينبغي أن ننطلق منها في عملية التوحيد والائتلاف، وتشريع قوانين وطنية جريئة، تحمي التعدد، وتتعامل معه باعتباره جزء من قوة الوطن ومنعته.

فالوحدة الوطنية هي محصلة كل الجهود والمبادرات التي تطلقها جميع التنوعات والتعدديات في إطار ترسيخ خيار العيش المشترك(الواحد) والوحدة الداخلية للمجتمع.

الوحدة وحق الاختلاف:

فالوحدة الحقيقية ليست ضد حق الاختلاف واحترام المغايرة، كما أن حق الاختلاف لا يعني التشريع للفوضى والانقسام والتشرذم. فالتنوع المحاط الحرية والتسامح، هو الذي يصنع الوحدة، وهو الذي يضبط الاختلاف لكي لا يتحول إلى تفتت وتشظي، وهو الذي يجعل احترام المغايرين وسيلة الاستيعاب والتفاعل.

فقد مضت أزمنة التوحيد القسري وإلغاء الخصوصيات، وذلك لأن هذه التجارب البشرية لم تزد الواقع الإنساني إلا تشتتا وانقساما وحروبا. وأي فئة أو مجموعة بشرية تتطلع إلى السيادة والغلبة على قاعدة نفي التنوعات ومحاربة مظاهر التسامح والاختلاف فإن مآلها السقوط والفشل، وذلك لأن جميع القوى الإنسانية أدركت أن القهر لا يلغي حقها في التعبير عن ذاتها، وأن الاستبداد ليس سبيلا إلى التمكن والاستقرار، بل على العكس من ذلك حيث أنه هو الذي يساهم بمتواليات الاجتماعية في تكثيف لحظات الإحساس والشعور بالذات وخصوصياتها المتعددة. فنحن مع "احترام الاختلاف بوصفه سبيلا للاتفاق، والاعتراف بالتباين بوصفه دليلا على العافية، وتأكيد أنه ما من أمل في سلام البشرية ما ظلت حضارة من الحضارات أو ثقافة من الثقافات أو أمة من الأمم تمارس قهرا سياسيا أو فكريا أو أخلاقيا على غيرها من الحضارات أو الثقافات أو الأمم بدعوى أن الطبيعة والتاريخ ميزاها على غيرها بما لا يمتلكه سواها، فمستقبل البشرية مرهون بالاحترام المتبادل، والتخلي عن رواسب التمييز العرقي أو التعصب المذهبي، والتسليم الذي لا رجعة فيه بأن إنكار الخصائص الثقافية أو الحضارية لشعب من الشعوب، إنما هو نفي لكرامة هذا الشعب وكرامة الإنسانية جمعاء".

ولكن السؤال هو: كيف نتيح لحالة التنوع أن تقودنا إلى التعايش والوحدة وليس إلى الانقسام والحروب. ولا ريب أن الإجابة على هذا السؤال المركزي، يعد من القضايا الأساسية التي تساهم في خلق رؤية جديدة لواقع التعدد والتنوع في واقعنا ومجتمعنا. وأن صون الحقوق الثقافية والسياسية للتنوعات هو السبيل الذي يوصلنا إلى أن تكون حالة التنوع طريقا للتعايش والوحدة بدل أن تكون سببا للانقسام والحروب. وما نود أن نبلوره في هذه الدراسة، هو الحقوق الثقافية للتنوعات والتعدديات المتوفرة في فضائنا الاجتماعي. فما هي حقوق التنوعات الثقافية.

الحرية الثقافية:

وذلك عبر السماح لكل التنوعات الاجتماعية من توفير مصادرها الدينية والفكرية، حتى يتسنى لكل الأجيال من التواصل المباشر والحر مع هذه المصادر.

وهذا من الحقوق الثقافية الأصلية والرئيسة لكل التنوعات الاجتماعية، بصرف النظر عن أحكام القيمة تجاه هذه المصادر. وإن كل أشكال محاربة وإقصاء هذا الحق الطبيعي، يعد وفق المقاييس الإنسانية والحضارية، تجاوزا نوعيا وخطيرا على قيم التعددية والتسامح وحرية العقيدة والرأي والتعبير.

لهذا فإننا نرى أن التنوعات الاجتماعية، بحاجة إلى إ طار قانوني في إطار وحدة الوطن والمجتمع، حتى يتسنى لها من خلال هذا الإطار ممارسة شعائرها والتعبير عن ذاتها الثقافية، وتتواصل بحرية مع مصادر وأمهات كتبها الدينية والتاريخية والعقدية.

وإن منع هذه التنوعات من التواصل الحر مع مصادرها العقدية والثقافية، تحت دعاوى الحفاظ على الوحدة والوئام الاجتماعي، لا يؤدي إلى إرساء دعائم الاستقرار الثقافي والاجتماعي، بل العكس من ذلك تماما. إذ أن هذا المنع، يزيد من الاحتقانات، ويوفر فرصا عديدة لتجاوز القانون والدخول في مواجهات تهدد حالة الاستقرار والوحدة الوطنية.

فالحرية الثقافية بكل مفرداتها وآفاقها، حق طبيعي لكل التنوعات، وعلى مؤسسة الدولة أن تصيغ وتبلور قانونا يكفل هذا الحق لكل التنوعات والتعبيرات الثقافية والاجتماعية المتوفرة في المجتمع.

اضف تعليق