انقضت أكثر من 12 عاما منذ بدء الاحتلال الأمريكي/البريطاني للعراق والتدمير لاحقا لمؤسسات الدولة، على نحو مرسوم كجزء من سياسة المحافظين الجدد الذين خططوا لإخضاع العراق بالكامل لنفوذ الولايات المتحدة وتحويله إلى مستعمرة مع السيطرة المباشرة على ثرواتنا من النفط والغاز، وبالتالي تحويل العراق إلى "نموذج للشرق الأوسط الجديد". وكانت الخطة ترمي لجعل إسرائيل محور مركزي في المنطقة، وتقسيم العراق إلى ثلاث مناطق/دول تقوم على الانقسامات الطائفية والعرقية دول كردية وشيعية وسنية، فالمخطط الأمريكي/البريطاني في احتلاله للعراق كان جزء من مخطط لـ"بلقنة" (تقسيم) الشرق الأوسط والذي بدء بتقسيم العراق إلى ثلاثة دويلات.
الكونغرس الأمريكي ناقش مشروع القانون تمهيدا للتصويت عليه باعتبار المكون السني والأكراد بلدين مستقلين لتسليحهما بدون العودة للحكومة في بغداد، يبدو الأمر في حاجة إلى مراجعة، إذ إن التطورات الجارية على ارض العراق تكشف عن أبعاد أخرى للخطة الأمريكية من احتلال العراق أو عن ترتيب مختلف للأولويات في الخطة الأمريكية، كانت واضحة لدى المخططين الأمريكان منذ البداية ولم تكن واضحة لدى الكثيرين من المتابعين بنفس القدر، بل هي لم تكن واضحة بجلاء لدى الذين امسكوا ببعض جوانب هذه الخطة بشكل صحيح على الأقل في إطار ترتيب للأولويات لدى الاحتلال، ويبدو كذلك أن ثمة ضرورة للعودة للنظر في قضية "ما يتسرب إعلاميا" و"للحروب الإعلامية" التي جرت، باعتبارها جانبا أساسيا في الإخفاء والتمويه على جوانب رئيسية في هذه الخطة – مثلها مثل الاستراتيجيات العسكرية التي تعتمد الإخفاء والتمويه خلال العمليات العسكرية- حتى لو عن طريق إشعال وتوجيه الانتقاد للخطة الأمريكية من خلال التسريبات الإعلامية لحرف الأنظار في الاتجاه الذي "يغطى" على الأهداف المراد إخفاؤها، إذ إن معظم ما جرى من تسريبات في الصحف الأمريكية سواء حول الممارسات الأمريكية في العراق أو التصويت في الكونغرس حول تسليح السنة والأكراد، وحتى حول جوانب من هذه الأهداف ومع اعتبار جوانب أخرى –هي أصيلة في الخطة الأمريكية الأساسية وهي تقسيم العراق.
إن التقسيم في حالته الجنينية كان هو الأمر الأبرز منذ نهاية العدوان العسكري الأول على العراق في عام ١٩٩١، إذ ما أن انتهت العمليات العسكرية حتى بدأت عمليات الحظر الجوي على جنوب وشمال العراق، وهو ما مثل بداية التأسيس لمشروع التقسيم، ووفقا لتوافق أمريكي بريطاني، والسماح بنشاط صهيو- أمريكي بريطاني في شمال العراق في المناطق الكردية، جاء الحظر الجوي ليوفر ملاذا آمنا لمن هم يعملون على تقسيم العراق وليحمى نشاطهم التخريبي من قوة الدولة المركزية العراقية.
كل القضايا التي أثيرت في الإعلام الأمريكي كأهداف لغزو العراق عام 2003، وهى على سبيل الحصر، تخليص العراق من أسلحة دمار شامل وبناء الديمقراطية، لم يكن كلاها إلا خدعة، كما عرف أن إثارة تلك القضايا لم يكن في واقع الحال إلا لإخفاء الأهداف الجوهرية، التي كانت هي الاستيلاء على البترول العراقي وإخراج الجيش العراقي من المواجهة مع الكيان الصهيوني، لكن قضية تقسيم العراق لم يكن ينظر إليها باعتبارها احد أهداف الغزو والاحتلال، كما ظهرت اليوم بجلاء، وأنها كانت ضمن أولويات أهداف الاحتلال باعتبارها خطوة أولية في مخطط إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط الجديد، وكشرط لازم لتحقيق جميع الأهداف الأخرى،
كما إن الإجراءات والقرارات التي اتخذتها الإدارة الأمريكية لاحتلال العراق من حل أجهزة الدولة العراقية من جيش وامن ووزارات، لم تكن "أخطاء" من الذين أصدروها –كما صورها الإعلام الأمريكي بإلحاح –كما لم تكن فقط نتيجة "نصائح" متأخرة من الطرف الصهيوني كما قيل، بل هي كانت في صلب تحقيق الأهداف من العدوان العسكري على العراق.
إن القرارات التي اتخذها الحاكم الأمريكي للعراق بعد احتلال بغداد (بول بريمر)، بحل الجيش والشرطة العراقيين، فيما اعتبر انه إطلاق شرارة البدء بتنفيذ التقسيم دون مواجهة من قوة عراقية تحافظ على وحدة الدولة إذ القرار أنهى كل ملامح الدولة المركزية العسكرية والأمنية أو حتى الإعلامية، كما أوقف عملية السيطرة على حدود العراق التي ظلت مفتوحة دون وجود لحراس لفترة طويلة، كان مقصودا منها السماح للقوى والأطراف الانفصالية والمتمردة استعادة كل قدراتها العسكرية التي جرى بناؤها في المحيط أو في إيران تحديدا لتعزيز قدراتها على الانفصال والتقسيم، ومن بعد سار بريمر على هذا الخط في تعزيز عمليات الانقسام والتقسيم في داخل البنية السياسية، حين جرى تشكيل النظام السياسي تحت الاحتلال وفق نظام التقسيم الطائفي والعرقي " مجلس الحكم" وهو ما تواصل من بعد إلى أن جرى إقرار ما يسمى بقانون الفيدرالية في الحكم، التي هي التتويج الرسمي للتقسيم، والذي جرى في خط موازى له عمليات تهجير للسكان الشيعة من المناطق السنية والعرب من المناطق الكردية تحت ضغط المذابح والفتن الداخلية التي تجرى على أساس عرقي ومذهبي لإعادة توزيع السكان جغرافيا داخل جسد الجغرافيا العراقية، ليصبح التقسيم فعليا وفاعلا، إي إننا ومنذ بداية العدوان ونحن نشاهد الأمور تجرى قصدا ووفق خطة مبرمجة للوصل إلى تقسيم العراق حيث جرى إضعاف ثم تفكيك كل الأشكال التي تحقق وجود الدولة ومركزيتها وسيطرتها كما جرى تفتيت لحمة التواصل بين أطياف الشعب العراقي من جهة، مع تفعيل وإسناد عمليات التفتيت والتقسيم وجعلها إلية تستنسخ نفسها باستمرار حتى تحقيق الهدف. وذلك كله جرى تحت غطاء رسمي أمريكي برفض التقسيم "للتغطية والتعمية على ما يجرى " ولعدم حدوث رد فعل وطني عام إذا جرى الأمر واضحا من قبل قوات الاحتلال.
غير إن المعارضة من قبل غالبية الشعب العراقي إلى الاحتلال الأمريكي/البريطاني المباشر، سواء من خلال النضال السلمي المدني أو الكفاح المسلح الذي لعب الدور الحاسم، أجبر الولايات المتحدة على تغيير إستراتيجيتها، والانتقال إلى إيجاد نظام بديل، وشملت الخطة الجديدة على عودة أعداد كبيرة من المسؤولين في نظام البعث السابق، وخاصة داخل أجهزة الاستخبارات، والأمن والجيش، وانتهت مع انسحاب قوات الاحتلال بحلول نهاية، وفي الوقت نفسه عملوا على الإبقاء على كل من النفوذ السياسي والاقتصادي من خلال تنمية الاقتصاد "الريعي" المرتبط بتصدير الغاز والنفط الخام ومنع أي محاولات لبناء أي صناعات وطنية، وتعتمد على بناء دولة اتحادية ضعيفة المركز يديرها الأفراد الفاسدين المرتبطين بالولايات المتحدة وبريطانيا وحتى الاستخبارات الإسرائيلية، وتشجيع الأحزاب السياسية للعمل على السير بسياسات تسعى إلى التقسيم الطائفي والعرقي للدولة العراقية.
إن الهجوم الذي بدأ في 10 يونيو 2014 من قبل داعش، والبعثيين، وبمساعدة ودعم كامل من السعوديين، والأتراك، ودعم غير رسمي من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، هو عنصر من عناصر المشروع الأمريكي "للفوضى البناءة"، التي صممها الغرب، ويشكل جزءا من المشروع الإسرائيلي الأمريكي لتدمير "منطقة الهلال الخصيب" ككل، والتي بدأ منذ أكثر من ثلاث سنوات في سوريا، ومع ذلك، فإن تعثر المشروع في سوريا وعدم نجاحه أجبر الولايات المتحدة على التحول إلى العراق
أما بالنسبة للداخل العراقي، نرى إن بداية محاولة الانفصال، هو قيام البني الفوقية والمتمثلة بالأحزاب والكتل السياسية، بدور فاعل في هذا الاتجاه، وان تأخر هذه البنى في طرح موضوع التقسيم لان القاعدة الشعبية لم تكن مهيأ ولن تقبل بعد 2003، لمشروع تقسيم العراق، لذلك عملت الأحزاب والكتل السياسية، وتحديدا السنية والكردية على إثارة المشاكل النعرات الطائفية، كذلك قيام المنطقة الشمالية الغربية بإيواء عناصر القاعدة في العراق، والتي قامت بأعمال تفجير وقتل على الهوية، وتهجير العوائل، مما ولد رد فعل ضدها من قبل بعض المجموعات الشيعية والتي دافعت عن نفسها، مما جعل الإعلام العربي والمحلي الداعم لمشروع التقسيم يكيل الاتهامات بان هناك اضطهاد للسنة في العراق، هذا مما ولد شعورا لدى المواطن في المناطق الغربية بان حقوقه منتهكة وعليه الدفاع عنها، ومن هنا بدا مشروعهم التآمري ينفذ على مراحل إلى إن وصل إلى مرحلة تطابق وجهات النظر بين القاعدة والقمة في اتجاه التقسيم، وهو ما تعزز بدخول داعش لمناطقهم، وارتكابها أبشع الجرائم ضد العراقيين، حتى ضد أبناء السنة الرافضين للتقسيم.
وكانت الأجزاء الرئيسية في مشروع "بايدن" لتقسيم العراق على أسس طائفية، تضم كل من الحزبين الكرديين الرئيسين - الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود بارزاني والاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال طالباني، إذ نلاحظ دعوات مسعود بارزاني، من خلال تقسيم العراق إلى ثلاث ولايات وتشكيل "دولة كردستان" تحت قيادته القبلية، فمع بداية هجوم داعش سيطرة قوات البيشمركة بالقوة على جميع مناطق النفط والغاز الغنية في شمال العراق، بما في ذلك محافظة كركوك وأجزاء واسعة من محافظات نينوى وديالى وصلاح الدين، وعلاوة على ذلك، فقد أعلن البرزاني أن المادة 140 من الدستور لم تعد موجودة، وأن المناطق التي تسيطر عليها قوات البيشمركة الآن هي جزء من المنطقة الكردية (حكومة إقليم كردستان)، وقد حول الحزبين العراق عمليا من "دولة اتحادية فدرالية" إلى "اتحاد الدول الكونفدرالي"، في حين قد ذهب مسعود بارزاني ابعد من خلال الدعوة لإقامة دولة كردية مستقلة بشكل كامل، كذلك بدا الموقف الأمريكي الداعم للتقسيم واضحا من خلال دعم الاكراد في تصديهم لداعش في بداية احتلال الموصل والى الان، ولم تقدم أي دعم كافي للحكومة العراقية رغم وجود اتفاقية الإطار الإستراتيجية معها، والتي من بنودها مساعدة العراق لصد أي عدوان خارجي أو داخلي يهدد امن وسيادة العراق، وهذا موقف واضح من واشنطن، ودورها في دعم المجموعات المسلحة في العراق من خلال إنزال المساعدات لها من الجو وفي أكثر من مكان، وقرار الكونجرس الأمريكي الأخير الداعي إلى تسليح السنة والأكراد وبشكل مباشر دون الرجوع إلى بغداد ورصد مبلغ 750 مليون دولار لهذا الغرض.
كذلك تسابق حمى الدعوة إلى إقامة الأقاليم، فقبل استيلاء داعش على الموصل وأجزاء من صلاح الدين والانبار وكركوك، أعلنت صلاح الدين مطالبتها بتشكيل إقليم خاص بها، واتخذ قراراً بأغلبية ساحقة لإعلان المحافظة إقليماً مستقلاً إدارياً واقتصادياً. المبررات المباشرة التي سيقت استندت إلى اعتقال الضباط وأعضاء من حزب البعث المنحل، ونقلهم إلى بغداد، وهو ما كان يستحيل حدوثه في تصورهم لو كانت صلاح الدين إقليماً، إلا أن بعض القانونيين رأوا أن ليس من حق المجلس المحلي لأي محافظة اتخاذ قرار كهذا، لأن الإجراء المطلوب لهذا الأمر محصور بحق ثلث أعضاء المجلس أو عشر الناخبين للدعوة إلى إقامة الإقليم وإجراء استفتاء عليه، وأن محافظ نينوى، ومركزها الموصل، شعر بالغيرة من صلاح الدين، فهدد بأن المحافظة ستعلن نفسها إقليماً أيضاً، وهو ما سبق أن أعلنه الشيح أحمد أبو ريشة زعيم حركة الصحوة السابق، وأعضاء من مجلس محافظة الأنبار، عندما لوحوا بأن محافظة الأنبار تدرس حالياً هذه الإمكانية، وبقيت المطالبة بإقليم للسنة على الرغم من رفض الحكومة العراقية الأمر واعتبرته قائم على خلفيات طائفية، ولحماية المطلوبين للقضاء البعثيين الهاربين، ومبررات أخرى وهي محقة في الكثير منها.
كذلك لاننسى دور ساحات الاعتصام في الأنبار والموصل والحويجة، في تأزم الأجواء الطائفية في العراق، من خلال التلويح بمطالب من الصعب بل من المستحيل تحقيقها، لان بعضها يتناقض مع الدستور الذي أُقر ووافق عليه الجميع، كما إن تحقيق الحكومة لبعض المطالب، نرى بعد أيام ظهور مطالب جديدة ومستمرة، وذلك من اجل الوصول إلى غاياتهم وأهدافهم، من خلال إظهار الحكومة بأنها لا تحقق مطالب السنة في العراق، ومن ثم التعاون مع المجموعات المسلحة ومع أمريكا لتحقيق أهدافهم، وزيارة وفد الأنبار إلى أمريكا خلال الأزمة، والذي كان المعلن منه هو الطلب من الإدارة الأمريكية تسليح العشائر السنية ضد داعش، بعد ادعائهم رفض الحكومة الاتحادية تسليح العشائر، الا إن الهدف منه هو التباحث حول الخطوات التالية لغرض تكوين إقليم مستقل للسنة، وهذا ما أعلنه احمد أبو ريشة انه خلال زيارتهم إلى واشنطن ابلغهم نائب الرئيس الأمريكي " جو بايدن" بان تقسيم العراق قائم ويجب على كل الاطراف الأخذ به، وهو ضمن مشروع تقسيم الشرق الأوسط إلى دويلات طائفية متناحرة.
كذلك إن هناك إطراف إقليمية تدفع باتجاه التقسيم، خاصة بعد دخول داعش للعراق وسيطرته على أجزاء منه، وتدخل إيران إلى جانب الحكومة العراقية في التصدي له، مما جعل بعض الدول الإقليمية ومنها تركيا والسعودية وغيرها تدفع باتجاه إثارة المشاكل بين الاطراف العراقية في محاولة لإبعاد إيران عن الساحة العراقية، وان ضعف هذه الدول من الوقوف مباشرة بوجه إيران ومنعها، لجأت إلى دعم العرب السنة من اجل إقامة الإقليم السني المستقل، خاصة وان هذه الدول تدخلت بشكل مباشر في الأزمة السورية المستمرة منذ أربعة سنوات إلى جانب المعارضة المسلحة لإسقاط النظام السوري، لهذا تسعى من خلال فصل المنطقة الغربية من العراق وضمها إلى المنطقة الشرقية السورية لإقامة دولة سنية، ومنع أي امدادات من إيران إلى سوريا عبر العراق مستقبلا.
رغم إن الدستور العراقي كفل حق الأقاليم، والفيدرالية قائمة، بالإضافة إلى سعي الحكومة لتسليم الصلاحيات إلى الحكومات المحلية، وان توزيع الصلاحيات أمر مطلوب، لكن يجب إن يتم كل هذا تحت سماء وطن كامل متكامل اسمه العراق، الا إن توقيت الدعوة الأمريكية يأتي لضرب الكثير من المصالح والانجازات التي حققها العراقيين، ومنها تحرير بعض المناطق من داعش في صلاح الدين وديالى، وبدء خطة تحرير الأنبار، كذلك جاءت الدعوة لتعطيل الكثير من المشاريع التي من شأنها أن تنهض بالواقع العراقي.
أخيرا، إن الخاسر الأكبر من هجوم 10 حزيران، وقرار الكونغرس الأمريكي بتقسيم العراق هم العراقيين عامة، والسنة العرب خاصة، حيث تمكنت قوات البشمركة الكردية من السيطرة على جميع حقول النفط والغاز التي تقع في المناطق السنية، وأيضا، قيام داعش بارتكاب مجازر ضد الاقليات والطوائف والأحزاب والحركات السياسية العراقية، بما في ذلك النقشبندية وتنظيمات سنية مثل جماعة الإخوان المسلمين، أنصار النجيفي وعشائر الأنبار، بعد أن اكملوا عمليات التخلص من كل المسيحيين والشيعة واليزيديين وغيرهم، وذلك باستخدام نفس الأساليب التي استخدموها في سوريا مع حلفائهم السابقين في "الجيش السوري الحر"، وحركة " النصرة" و"الإخوان المسلمين" في سورية.
اضف تعليق