المفاجأة غير المتوقعة في ظهور فيروس كورونا جعل العالم كله يعيد ترتيب أوراقه على عدة مستويات منها مستوى فهم الوجود لهذا العالم الذي كانت حدوده تقف عند الأرض، فأصبح متروكا في أمره الى السماء وفق مقولة الرئيس الايطالي الذي استشعر عمق الأزمة وجوديا بتأثير وقوعه...
انشغلت الدول الكبرى في ذروة احساسها بالقوة لا سيما الولايات المتحدة الأميركية بإعادة ترتيب العالم بعد انفراد هذه الدول بالقوة والثروة، وكانت الدول الثمانية الأغنى في العالم ودول العشرين التي تهيمن على اقتصاد العالم تسعى الى ترتيب العالم وتحديدا خارطته الاقتصادية بما يستجيب الى مطالبها وأهدافها الاستراتيجية، وكانت في ذروة المواجهة بينها قد ركبت حالة من الغرور الذي تولد عن امكاناتها التقنية والتكنولوجية والمالية، فالمال اصبح حادا في دورة انتاجه أو دورة اعادة انتاجه من خلال التقنية والتكنولوجيا التي باتت خاضعة الى هذه العملية من الانتاج المتبادل بينها وبين المال.
لكن المفاجأة غير المتوقعة في ظهور فيروس كورونا جعل العالم كله يعيد ترتيب أوراقه على عدة مستويات منها مستوى فهم الوجود لهذا العالم الذي كانت حدوده تقف عند الأرض، فأصبح متروكا في أمره الى السماء وفق مقولة الرئيس الايطالي الذي استشعر عمق الأزمة وجوديا بتأثير وقوعه وبلده تحت ضغط هائل بإزاء أزمة كورونا التي تعني الخط الفاصل بين الحياة والموت، وكان قبله الرئيس ترامب يدعو الى اداء الصلاة في يوم الأحد المسيحي من أجل انقاذ أميركا التي هي الدولة الأكثر تفريطا بظاهرة الغرور، وأما المستوى الآخر فإنه يرتبط بالمبدأ الأساس في ثيمة الحياة المعاصرة وهو الاقتصاد ونفوذ المال في هذه الحياة التي احتكر المال فيها مركزية التوجيه والتأسيس للمعاني المعاصرة في الحياة، والتي تقوم على مبدأ اللذة واستغلال كل فسحة من العمر لغرض تحقيقها.
فالعمر وفق هذه المقولة لمرة واحدة وتجيء عبارة عيش اللحظة التي روجتها وسائل الاعلام الحديثة تعبيرا عن هذا المغزى في فهم الحياة الذي روجت له ضمنيا الاستراتيجيات الاقتصادية الكبرى في الدول الغنية، لكن عجز الدول الغنية في مواجهة كورونا أو كما جاء العنوان في الفاينشال تايمز "الدول الغنية لا يمكنها الفوز على كورونا بمفردها" جعل من مركزية المال أو قوته أمرا لا يمكن المراهنة عليه، لاسيما وأن هذه الدول الكبرى قد استشعرت عجزها الكبير في الموازنة والمصاعب المالية التي تواجهها بعد الأزمة المالية العالمية، وهي لم تبدأ حربها مع كورونا من موقع قوة وفق كاتب المقال راجروم راجران، مما يدعها تدرك حجم المسؤولية الاخلاقية في ضرورة اعادة فهم العالم من جديد وليس ترتيبه وفق استراتيجيات الاقتصاد والمال، فهناك ماهو أغلى منهما وهي الحياة.
وهي اللحظة التي جعلت تلك الدول الكبرى والمالكة لرؤوس المال في العالم أن ترضى بكل ذلك التراجع والكساد الصناعي والمالي ولا تفكر بالخسائر باستثناء الرئيس ترامب، بقدر تفكيرها بخلاص دولها وشعوبها من أزمة تهديد الحياة، وهنا تتم استعادة القيمة الطبيعية والاساسية للحياة كمفهوم وسلوك يعلو على قيم الاقتصاد ووتيرة المال المتسارعة نحو تشيئ الانسان وتهميشه في المعنى بالنسبة لوسائل الانتاج وأدوات المال وهو منطق الاخلاق الرأسمالية..
لكن هذا التحول المتوقع بنسبة غير أكيدة قد يدفع تلك الدول الرأسمالية الى المشاركة العالمية في مواجهة كورونا تحت ضغط الخوف من انتشاره ووصوله الى الشعوب في هذه الدول، فسياسة الحجر التي اتبعتها تلك الدول وفي مقدمتها أميركا ودول أوربا الغربية هو تكتيك مرحلي في مواجهة كورونا لكنه لا يمكن أن يستمر بشكل استراتيجي مما يجعل تهديدات أشد خطرا من كورونا في حسابات هذه الدول، فهناك في العالم مصادر الطاقة للدول الكبرى–الغنية وأسواق الاستهلاك الدائمة التي كرستها استراتيجيات تلك الدول، وبذلك فان هذه الدول سوف تسعى الى المشاركة العالمية في مواجهة كورونا وتحت ضغط المجتمعات فيها وبإمكاناتها المالية والعلمية الهائلة التي تشكل رافدا قويا ومؤملا لدى الانسانية في حسم هذه المواجهة لصالح الإنسانية.
ولعل طبيعة هذه المواجهة العالمية التي ستحدث مع كورونا تحدث أثرا متوقعا في التواصل الانساني والاجتماعي بشكل أكثر انسانية بين المجتمعات الانسانية مما يعيد مفهوم الاخلاق التقليدي الى حيويته في حياتنا المعاصرة، وهو يمثل انتكاسة الرؤية الرأسمالية التي سعت الى تحجيم مفاهيم الاخلاق واقصاءها الى الجوانب الذاتية لدى الانسان التي تشكل حصيلة الاخلاق الرأسمالية، ولذلك يتم دائما اقصاءها عن السياسة والاقتصاد في العرف الرأسمالي بينما تكرس الموضوعية الاجتماعية أهمية الاخلاق في ديمومة وبقاء الحياة وهو ما يعيد في طريق تمثلها واستمرارها تلك النزعة الجماعية الاجتماعية في حياة الانسان التي قد تقود اليها المواجهة الانسانية العامة مع كورونا وبذلك يتم تكريس البعد الموضوعي بعيدا عن الذاتي الرأسمالي في فهم وتناول مبادئ الاخلاق.
اضف تعليق