على الدول الكبرى ان تأخذ درس الحجر الصحي العالمي، وان تعي ان كوكب الأرض لم يتحول الى جنة عدن، فهناك امراض كثيرة وخطيرة بحاجة الى علاج قبل فوات الأوان، وقبل ان تتحول الى وباء عالمي يهز عروش أعظم الامبراطوريات العالمية، فالفيروس الصغير الذي قطع اوصال القرية العالمية...
اعلنت منظمة الصحة العالمية اعتبار فيروس كورونا المستجد وباء عالميا، بعد ان أصاب اكثر من 100 دولة واجبرها على منع السفر فيما بينها وإيقاف اغلب الأنشطة الحياتية، لا سيما المدارس والجامعات، وتقليل حركة التنقل بالأسواق، فضلا عن قطع اوصال الحياة بين المدن في البلد نفسه.
من الصين الى كوريا واليابان والى الشرق الأوسط في الامارات وايران والسعودية والعراق، وحتى اوربا التي بدأت في إيطاليا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا، وليس انتهاء بالولايات المتحدة الامريكية، كل هذه الدول المحورية في العالم قطعت او ضيقت الخناق على إجراءات السفر، وقامت بالحجر الصحي على المواطنين والمسؤولين ولم يسلم من ذلك وزير او مواطن بسيط، لم تسلم منه دولة متقدمة او متخلفة، ولم يتعافى منه شخص اوربي لانه اوربي او صيني لانه صيني.
عالم المال والاعمال تاثر كثيرا وهبطت البورصات العالمية وبدون أي استثناء في اليابان او اوربا او أمريكا، الكل تاثر، والكل واقع تحت تاثير الفيروس الصغير جدا جدا، اما الذهب العالمي الأسود (النفط) فقط تنازل عن أسعاره القديمة وهبط بنسبة النصف من قيمته السعرية، ودخل العالم حالة من الخوف والانهيار السريع في جميع القطاعات، فماذا يعني ذلك كله؟
القرية الصغير، او عالم بحجم راحة اليد، مقولات اخذت صداها عن التطورات التكنلوجية الهائلة في العالم والتي قربت المسافات، حتى وصف العصر الراهن بانه العصر الأكثر تطورا عبر التاريخ الإنساني، لقدرة الانسان على التحكم في اغلب ما يعترض سبيله من معوقات الطبيعة، لكن ببضعة أيام انهارت الصورة الوردية عن العالم، وانكشف ضعفه امام الفيروس، ودخلت جميع دول العالم حالة الإنذار القصوى، انه الحجر الصحي العالمي، وهو حدث لا يمكن اعتباره عابرا اطلاقا ويحتاج منا وقفة للمراجعة، ليس في النظام الصحي وحسب، بل الى أمور أخرى اهملها التقدم العلمي منذ سنوات وبقيت اغلب الدول الكبرى تتناساها وتتغافل عنها، ولا بد من طرحها الان، فالمعاناة واحدة حتى وان اختلف مصدرها، سواء كانت بالفيروس او بالنهب المالي الذي تقوم به الدول الكبرى وسياسات تجويع الشعوب الصغيرة، او بالقمع السياسي الذي يضع الناس في الحجر الفكري لسنوات كونهم يمثلون خطورة على الأنظمة الديكتاتورية المدعومة من دول العالم المتقدم.
فان تكون في الحجر الصحي ليس حدثا عابراً كما يتصوره الناس، انها سجن اجباري لشخص قد يمثل خطراً على مجتمعه، بالضبط مثل حالة السجين لدى وزارة العدل، فهناك يقوم الشخص بفعل يعتبر مضرا بمجتمعه، من قبيل السرقة او السطو على المال العام او ارتكاب جريمة قتل... الخ. الفرق بين السجين والمحجور صحيا، ان السجين يقوم بالفعل بذاته والسجن بالنسبة اليه عقوبة حتى لا يقوم بتكرار ذات الفعل، لان التكرار يشعل الغيرة والعدوى اجتماعيا، فمن يسرق المال ويعلم انه لن يحاسب سيستمر بالسرقة وعندما يشاهده غيره سوف يقلده ويتفشى وباء السرقة ليعيش الناس بحالة من عدم الامان على اموالهم، نفس الامر ينطبق على الرشوة وعمليات القتل والاعتداء على حقوق الاخرين، لكل فعل عقوبة واذا غابت العقوبة تمادى الجاني وبات مثل الدودوة التي تنهك جسد المجتمع وتدمره من الداخل.
يمكن تسمية التجاوزات الاجتماعية مثل (السرقة، والرشوة، والقتل وغيرها) بانها امراض اجتماعية، وهي امراض قابلة للعلاج وبطرق مختلفة، تختلف بحسب الزمان والمكان وفلسفة النظام السياسي والاجتماعي، بعض الانظمة لا تجد علاجا سوى السجن والتنكيل بالجناة، وبعضها الاخر يقوم بعلاج جذر المشكلة مثل تعزيز الوضع الاقتصادي ورفع منسوب الثقافة يقابلها تشديد للقوانين بحق المخالفين باعتبارها السور الذي يحمي المنجز المتحقق، ويضمن عدم حدوث اصابة بالاوبئة الاجتماعية التي تستقوي مع مرورة السنوات في حال تركها بدون ردع حقيقي.
اما في الانظمة المتخلفة، ولا سيما الديكتاتورية منها فان لها تفسير مختلف للامراض الاجتماعي، ولها اساليب مختلفة للتعامل مع الامراض المجتمعية التقليدية وغير التقليدية، هي لا تهتم بالبيئة الوقائية للمرض، اذا كان مرض الرشوة ينتشر مع غياب القوانين الرادعة وانهيار منظومة العدالة، فان النظام الديكتاتوري ينمو ويكبر وسط هذه البيئة، ومن اجل ابعاد الانظار عن اساليبه السيئة في الوقاية من الامراض المجتمعية يقوم بقمع الاراء المخالفة، يضع الناس في الحجر المجتمعي (السجن) لان تلك الاراء هي الدواء الذي يقتل النظام الناشر للوباء.
وبالعودة الى الصورة الاوسع (العالم) وخصوصا الدول المتقدمة نجدها تمارس الحجر الصحي (العقوبات) على شعوب كاملة لانها مصابة بفيروس معين، فيروس ليس من انتاجها بل جاء بسبب السياسات الفاشلة للدول المتقدمة، هذه الدول التي تمارس النهب لاموال الدول الفقيرة، وتفقرها الى اقصى درجة ممكنة حتى يأتي ديكتاتور ليحكمها ثم تقوم الدول الغنية بزيادة الحمولة عبر سلسلة من الإجراءات العقابية تجاه شعب كامل من اجل ارغام الديكتاتور على التخلي عن السلطة، انها تضع الشعب بكامله في الحجر الصحي ما يزيد من تفشي الديكتاتورية بتمسك أبناء الشعب بالديكتاتور الذي يعتبرونه مصدر الخلاص من السياسات الظالمة، لا سيما مع قلة الوعي الاجتماعي.
على الدول الكبرى ان تأخذ درس الحجر الصحي العالمي، وان تعي ان كوكب الأرض لم يتحول الى جنة عدن، فهناك امراض كثيرة وخطيرة بحاجة الى علاج قبل فوات الأوان، وقبل ان تتحول الى وباء عالمي يهز عروش اعظم الامبراطوريات العالمية، فالفيروس الصغير الذي قطع اوصال القرية العالمية، يمكن لفيروس اخطر منه، "فيروس سياسي" مثل الحركات الشعبوية ان تمهد لاكبر ديكتاتورية تحكم الأرض، ويمكن لفيروس النهب المالي الذي تقوم به الدول الكبرى والسياسات غير العادلة ان تتحول الى فيروس قاتل يصيب من جميع انحاء العالم وبدون استثناء.
اضف تعليق