الطريق غير معبد امام دعوات التخلص من الوجود الخارجي، بل ان الكثير من الدعوات قاصرة عن إدراك مكامن الخطر في التدخلات الخارجية وتأثيراتها على جميع شرائح الشعب العراقي، لان التدخلات بدون استثناء لا تعطي اية نتائج إيجابية لبناء الدولة او تحقيق السيادة سوى تعميق الانهيار في العراق...
الحديث عن السيادة الوطنية في العراق عبارة عن كلام مفرغ من محتواه الحقيقي، او هو دعاية سياسية لاحزاب خاسرة تتشبث بالخارج وترفع شعار التخلص من تدخل خارجي اخر، وهذا التدخل المرفوض له أنصار أيضا ويرفع شعار التخلص من التدخل الأول، وما بينهما تنطلق الدعوات مرة باسم الشعب ومرة باسم السيادة ومرة باسم الدين وأسماء أخرى لها دلالات في الصراع الدولي اكثر من أي دلالة وطنية.
والتدخلات التي نتحدث عنها كثيرة واسبابها تتعلق بالداخل اكثر من الخارج، الأحزاب هنا كيانات لا تقوم على برامج سياسية واضحة ولا تتبع بيئة مؤسساتية كما هو معمول بالانظمة الديمقراطية الراسخة، واذا ما تعرضت الأحزاب الى النكسات او الخسائر لا تعيد قراءة تجربتها وتصحح مسارها بل تلجأ للخارج من اجل اختصار الطريق، ما يعرضها ويعرض البلد بكامله الى الانقياد للاجنبي الذي لا يعرف الا مصالحه الخاصة حتى وان رفع شعار الأنبياء والصالحين، ونؤكد ان لا دولة تاتي للعراق من اجل مصلحة العراقيين، لأننا نعيش في عصر سيطرة أصحاب النظرية الواقعية في العلاقات الدولية التي تفترض وجود نظام من الفوضى يتطلب من جميع الدولة تعزيز قوتها ونفوذها من اجل الإمساك بمفاتيح القرارات الدولية، وهذا ما يحدث في العراق الذي تحول الى فريسة سهلة وساحة لاستعراض القوة بين الدول العظمى والدول الأخرى الطامحة في اثبات وجودها، وتحديدا الصراع الجاري بين الولايات المتحدة الامريكية، والجمهورية الإسلامية في ايران.
وبما اننا اتفقنا على ان لا تدخل ولا مساعدة من أي دولة في العالم تقوم على الفضيل المطلقة والرغبة في المساعدة المجانية، فان النفوذين الإيراني والامريكي لا يخرجان عن القاعدة ولهما اهداف متعارضة ويجب ان يتم التخلص منهما معا بدون أي انحياز لاي طرف على الاخر، اما الحديث عن طرد لإيران وتعزيز لنفوذ الولايات المتحدة الامريكية فهذا خطأ كبير لا يسهم الا بتعزيز النفوذ الإيراني الذي سوف يشعر بالخطر، والعكس صحيح فان طرد النفوذ الأمريكي بواسطة حلفاء ايران، فهنا سندخل في كارثة لا تقل خطورة عن التي سبقتها، وقبل التفكير بالتخلص من النفوذ الخارجي للولايات المتحدة الامريكية وايران، على العراق فهم اهداف هذين التدخلين.
على مستوى التدخل الامريكي فانه يحمل أهدافا استراتيجية تستهدف السيطرة على موارد الطاقة ليس من اجل الاستيلاء عليها بقدر ما تحتاجه واشنطن للتحكم فيها واستغلالها كوسيلة ضغط على الدول الأخرى.
الهدف الاخر هو حماية المصالح الامريكية وحلفائها في المنطقة، فالعراق الضعيف يمكن للدول الاخرى ان تسيطر عليه وتستخدمه كنقطة انطلاق للهجمات على الخصوم، والعراق القوي الديمقراطي يمكن ان يكون محفزا لشعوب الدول المجاورة من اجل تقليد انموذجه الديمقراطي، وهذا يعني انهيار منظومة التحالفات السابقة مع الديكتاتوريات في المنطقة، والسيطرة الامريكية الدائمة على العراق تعني عراقا ضعيفا بديمقراطية عرجاء لا يمكن للاخرين السيطرة عليه، لكن في الوقت نفسه لا يمكنه بناء انموذجه الديمقراطي الذي قد يسبب حالة من العدوى للديكتاتوريات الخليجية المتحالفة مع الولايات المتحدة الامريكية.
اما على مستوى التدخل الإيراني فهو يهدف الى توسيع دائرة الفعل السياسي والعسكري تمهيدا لكسر حالة العزلة الدولية التي تعاني منها طهران منذ الثورة الايرانية عام ١٩٧٩ فضلا عن ضمان التواصل بين اقطاب الحلف الايراني مع الجماعات غير الدولتية كحزب الله والفصائل المسلحة العراقية.
الهدف الثاني هو تحقيق ما تصبوا اليه الجبهة الثورية الايرانية التي ترفع شعار تصدير الثورة الى الخارج، والعراق يمثل العمق الاستراتيجي لايران سواء على المستوى العقائدي او على مستوى التاثير في صراعات المنطقة.
ادوات الصراع
اهداف الولايات المتحدة الأمريكية مختلفة عن الايرانية، كما ان مصدر قوة الولايات المتحدة الأمريكية مختلف ايضا عن مصادر القوة الايرانية داخل العراق، فالاولى تركز على الجوانب القانونية لوجودها مستفيدة من هيمنتها على المنظمات الدولية، بينما تركز ايران على الفصائل المسلحة من اجل احداث التاثير، والسماح لها باخذ دور في مسار الاحداث العراقية، ولذلك تتسم التدخلات الامريكية بالنعومة والتخفي لانها تاتي تحت الاطر القانونية، بينما تتسم التدخلات الايرانية بالعنف الذي يتعارض في الكثير من الاحيان مع التطلعات الشعبية التي تخشى عودة الصراع او اشتعاله مجددا، ولا سيما ان هذه الاخيرة تعاني من ضعف واضح في مجال الدعاية السياسية تصل الى حد البساطة السخيفة.
وتستثمر الولايات المتحدة الامريكية بالادوات الناعمة مثل وسائل الاعلام، لاقناع الطبقات الاجتماعية والسياسية، وتشكيل الرأي العام المعارض للوجود الإيراني، بينما تستغل هذه الأخيرة الروابط العقائدية بين الغالبية العظمى من سكان العراقية والشعب الإيراني، وتتحدث عن حرب ثقافية ومحاولات للتفريق بين الشعبين الجارين، اللذين تجمعهما مشتركات عقائدية، وهي تخلط بين الماضي العقائدي والحاضر الدولي، أي تستحضر حالة عقائدية عامة مع حالة سياسية جديدة في العصر الراهن من اجل الاستفادة منها في حالة الصراع، كل ذلك من اجل استنهاض الرأي العام ضد الوجود الأمريكي وتعويض الضعف الشديد في وسائل الدعاية السياسية لديها.
واذا ما أراد العراق التخلص من الوجود الأجنبي فعلى القوى السياسية الوطنية العراقية صاحبة القرار الوطني الخالص ان تحدد نوعية الأجنبي وما المقصود به، وهل هناك وجود اجنبي مسموح به وهناك ما هو غير مسموح به، وما معايير الاباحة لوجود اجنبي معين؟ ورفض وجود اخر؟ مع الاخذ في الاعتبار ان أي استثناء لتدخل معين يتطلب وجود استثناء في الطرف الاخر، ما يعني اننا نعود في نفس دوامة التدخل الأجنبي ولا نحل المشكلة بقدر ما نقوم بمفاقمتها.
لا يمكن طرد دولة جاءت بطلب عراقي وبطريقة قانونية عن طريق حرب تقوم بها جماعات مسلحة خارجة عن اطار الدولة، لان وجود الجماعات المسحلة بحد ذاته يدفع للتدخل الخارجي او هو تمثيل لتدخل خارجي اخر، كما لا يمكن شن حرب ثقافية شرسة على مجموعة من العقائد المشتركة بين الشعبين العراقي والإيراني من اجل كبح جماع الدعاية الإيرانية لان ذلك يعطي نتائج عكسية، فالشعوب الشرقية ومنها العراق وايران تعطي منزلة كبيرة للعقيدة الدينية ولا يمكن تحقيق طموحات تتعلق بالسيادة الوطنية عن طريق فتح الصفحات العقائدية.
الطريق غير معبد امام دعوات التخلص من الوجود الخارجي، بل ان الكثير من الدعوات قاصرة عن ادراك مكامن الخطر في التدخلات الخارجية وتاثيراتها على جميع شرائح الشعب العراقي، لان التدخلات بدون استثناء لا تعطي اية نتائج إيجابية لبناء الدولة او تحقيق السيادة سوى تعميق الانهيار في العراق وتحويل ما تبقى منه الى ركام يحتاج الى سنوات لاعادة ترتيبه وبنائه.
اضف تعليق