من الوهم أن يعتقد أيا كان إن مثل هذه القرارات هي قرارات انفعالية اتخذها رئيس شعبوي لا يملك الحد الأدنى من المقومات ليكون مسؤولا سياسيا من الدرجة الثالثة؛ وإن أي رئيس سيعقب السيد ترامب سيكون بمقدوره إعادة الأمور إلى نصابها عبر التراجع عن تلك القرارات...
لم يكن السيد ترامب بمازح عندما قال الأسبوع الماضي أنه إذا ما نجح الكونجرس في تنحيته من سدة البيت الابيض فإن إسرائيل بحاجة إلى رئيس وزراء؛ ولن يكون هناك أفضل منه لهذا المنصب، وإن قالها ترامب من قبيل المزاح، لكن في الحقيقة فإن ما قدمه ترامب لإسرائيل لا يؤهله لأن يكون رئيس وزراءها فحسب بل يؤهله لأن يتوج ملكا مدى الحياة على إسرائيل.
فلم يقدم أحدا من قبل مثل ما قدم ترامب لإسرائيل وبالتأكيد لن يكون بوسع أي رئيس أمريكي قادم المزايدة على ترامب في هذا الصدد مستقبلا؛ فلقد منحهم القدس وشرعن المستوطنات وقطع شريان الحياة المالي عن وكالة الأونروا، وكل هذه القرارات بالتأكيد هي قرارات استراتيجية سوف يكون لها بالغ الأثر على ميكانزمات الصراع مستقبلا.
ومن الوهم أن يعتقد أيا كان إن مثل هذه القرارات هي قرارات انفعالية اتخذها رئيس شعبوي لا يملك الحد الأدنى من المقومات ليكون مسؤولا سياسيا من الدرجة الثالثة؛ وإن أي رئيس سيعقب السيد ترامب سيكون بمقدوره إعادة الأمور إلى نصابها عبر التراجع عن تلك القرارات التي مثلت انحرافا تاريخيا كبيرا عن نهج السياسة الخارجية تجاه الصراع؛ وهي سياسة استمرت لقرابة نصف قرن والتزمت بموجبها ضمنيا بمقررات الشرعية الدولية في هذا الصراع.
ومن يمني النفس بهذا الوهم لا يدرك حقيقة أن تلك القرارات ذات اتجاه واحد؛ ومن دفع باتخاذها في أروقة مؤسسة صنع القرار السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية كان يدرك تلك الحقيقة والتي تدعمها عدة معطيات قائمة على الأرض؛ وتلك المعطيات هي ما ستكرس مستقبلا تحويل تلك القرارات إلى سياسة معتمدة ليس للإدارات الأمريكية القادمة بل إلى سياسة أمر واقع لا يجد المجتمع الدولي أمامه من مناص إلا بالتعامل معها والاعتراف بها.
وأهم تلك المعطيات:
1. أن تلك القرارات نابعة من ثقافة عقائدية اجتماعية وسياسية لقرابة ربع سكان الولايات المتحدة الأمريكية وهم اتباع الطائفة الانجيلية في الولايات المتحدة الأمريكية والذين كانوا تاريخيا صهاينة قبل الصهاينة اليهود أنفسهم وضمن معتقدات أولئك الانجيليين إن نزول السيد المسيح مرهون بعودة السيادة اليهودية على القدس وبناء الهيكل المزعوم توطئة لنزول المسيح المخلص؛ والذى لن يبقى طبقا لمعتقداتهم إلا على بضع مئات من أولئك اليهود؛ والذي تقول تلك النبوءات الخرافية بأن أولئك المئات هم من سيؤمنون به صدقا أما البقية فلن يكون أمامهم من خيار إلا الموت قتلا على يد هذا المسيح؛ والذى من الواضح أنه لا يرحم أعدائه؛ وهؤلاء الـ 25% من الأمريكيين من اتباع الكنيسة الانجيلية، إضافة إلى الصهاينة من اليهود الأمريكيين لا يمثلون كتلة تصويتية فحسب بل هم أيضا يمثلون قوة اقتصادية تستحوذ على جل كعكة الاقتصاد الأمريكي؛ فهم بارونات الطاقة وصناعة السلاح والتكنولوجيا وأسواق المال وهوليود وهم أباطرة صناعة الترفيه في دزني ولاس فيجاس؛ وهم المالكون لوسائل الاعلام المرئية والمقروءة والمسموعة؛ وبالمحصلة فهؤلاء هم من بمقدورهم إيصال أيا كان إلى سدة البيت الأبيض حتى وإن كان هذا هو دونالد ترامب الجاهل السياسي.
2. الواقع العربي الاسلامي المزري وهو ما كان له بالغ الأثر في تشجيع أولئك الصهاينة في الولايات المتحدة الأمريكية على المضي قدما في مثل تلك القرارات الخطيرة والمراهنة على نجاحها أمام رفض عربي وإسلامي ضعيف وخجول نابع من ضعف أنظمة تدين ببقائها لصناع القرار السياسي الأمريكي؛ فكيف لأولئك أن يكونوا معارضين لإرادة من يدينون له ببقائهم في سدة حكم بلادهم؛ لذلك قان بقاء وتدعيم تلك الأنظمة هو بالأساس أحد أهم الأسس والدعائم التي ارتكزت وسترتكز عليها تلك القرارات ذات الاتجاه الواحد لتبقى مستقبلا.
3. شلل النضالي الفلسطيني؛ وهو أن يبقى صانع القرار الفلسطيني سواء كان هذا القرار نضالي سياسي أو سلمى أو عسكري مقاوم أن يبقي في حالة شلل غير قادر على الانتقال من مربع المفعول إلى مربع الفاعل؛ ومن يعتقد أنه مطلوب اليوم من الفلسطينيين أن يوقعوا على أي تنازلات فهو لا يخدع أحد غير نفسه؛ فليس مطلوب من الفلسطينيين في المرحلة الراهنة غير الهدوء والهدوء هنا لا يعنى الهدوء العسكري المقاوم بل السياسي المؤثر أيضا؛ فليس من المنطق أن يطلب من انسان يرى محارمه تنتهك أمام ناظريه وأن يوقع صك موافقة على تلك الانتهاكات؛ ومنطقيا عدم الثورة والهدوء يساوى واقعيا آلاف التوقيعات على وثائق الاستسلام والتي سيأتي وقتها في المراحل القادمة ضمن السياسة التي تنتهجها اسرائيل تجاه سكان الضفة الغربية وقطاع غزة والتي مضمونها من لا يأتي بالقوة والحصار والتجويع الحالية سيأتي بمزيد منها والتي ستؤتى ثمارها فيما بعد؟
وأمام هذا الواقع المتشابك والذي يصب في مجمله باتجاه تجريد الفلسطينيين من حقوقهم السياسية والاقتصادية والانسانية ويبقيهم عبيدا رهن مزاج إسرائيل؛ فليس أمام الفلسطينيين من خيار إلا الإنتفاض بكل الطرق المتاحة؛ وهذا الخيار هو أعلى درجات الثورة والذى يأتي دوما بما لا يتوقعه أي عاقل ولتنتفض الضفة الغربية ومعها غزة؛ وقد كفلت لنا القوانين الدولية الدفاع عن حقوقنا المسلوبة في ظل تعنت الاحتلال الإسرائيلي منحنا إياها.
ولا خيار آخر اليوم لهدم تلك المقومات التي بنت عليها الصهيونية العالمية خطتها السياسية لإذابة القضية الفلسطينية فلا مجال للتعامل مع الواقع الرهن الذي تفرضه الصهيونية العالمية علينا بأي خطط ذات طابع سياسي أو اقتصادي.
اضف تعليق