هل يمكن لمواطن قتله الجوع ان يفكر في فلسفة الشعارات التي يطلقها ضد الحكومة، وان يتأمل في اقتصاده الوطني، وان يبحث عن نظام سياسي وفق المعايير الحديثة؟ بالضبط هذا ما يجب ان يعرفه المتظاهرون، وعلينا عدم التقليل منهم، ليس لان جميعهم فلاسفة او ممكن يحملون تخصصا في مجالات مختلفة...

مع كل تظاهرة شعبية كانت او مدعومة من تيار سياسي متنفذ نسمع شعارات "بالروح بالدم نفديك يا عراق" يرددها المتظاهرون كنوع من التعبير عن الولاء للوطن، والتمسك به الى اخر لحظة في الحياة لدرجة انه يمكن التضحية بالمواطن من اجل رفع راية الوطن، في مشهد عاطفي يثير الحماسة بين الناس حتى وان اختلفوا في بعض الجزئيات.

فهل يستحق الوطن فعلا التضحية بالمواطن من اجل ان تبقى رايته مرفوعة؟ وما جدوى وجود وطن يموت فيه مواطنيه؟ وما نوع الوطن الذي يجب ان نموت من اجله؟ هل هو الوطن الموجود في ثنايا العواطف التي تشتعل بسرعة عبر التحريك الإعلامي، ثم تبرد بنفس الطريقة، ام انه الوطن الذي يسري بعقول الناس ويدفعهم لتأسيس قاعدة رصينة له لا يحتاج منهم الموت من اجل بقدر ما يحتاج منهم العمل الحثيث الدائم؟ اليس من الاجدر بنا ان نغير بعض الشعارات في التظاهرات؟ لماذا لا يكون شعارنا الدائم هو: "بالعمل والإخلاص نحميك يا عراق".

نحن نرفض شعار "بالروح بالدم نفديك يا عراق" لأنه جزء من ثقافة الموت التي ورثناها من الأنظمة الديكتاتورية السابقة التي تركز على موت المواطن من اجل حياة الزعيم، واصل الشعار هو "بالروح بالدم نفديك يا فلان"، وهذا هو حال جميع الأنظمة الديكتاتورية في العالم، لا هدف لها سوى حياة الزعيم، وتعلم الشعب على ثقافة الموت، وتضخ العواطف بين الناس لدرجة يتشبعون بها وتبحح جزء من حياتهم، ويأخذون من الشعب حتى تفكيره المنطقي، لانهم لا يريدون مواطنا يفكر، فهو خطر عليهم ويسهل عليه اكتشاف شعاراتهم التي تتعارض ومصلحة الوطن.

هذه الأنظمة تعلم المواطن ان يعيش حياة الحرب حتى في الممارسات السلمية، فعبارة "بالروح بالدم نفديك..." تعني ان هناك استعدادا للدخول في الحرب، بغض النظر عن مستوى هذه الحرب ومع من ستكون؟ وهي جزء من السيطرة على الشعب، ففي حالة الحرب (وعلى مستوى جميع دول العالم)، يكون الموطن أكثر ولاء لحكومته، ويتنازل عن الكثير من حقوقه لضمان الحد الأدنى من الامن مقابل الحفاظ على حياة الحكومة.

وقد يسأل سائل ان الشعارات التي تطلق من ساحات التظاهر اليوم هي بالضد من الحكومة، وهي تتحدث عن فداء الوطن ولا شيء سواه، وهذا من نعنيه، نقول بان الوطن لا يمكن بناؤه من حيث يهدم، ولا يمكن بناء الوطن على جثث أبنائه، ليس لأننا ضد التضحية من اجله، لكننا ضد ان تكون النفوس رخصية بهذا المستوى وتوزع بالمجان حتى في المواقف السلمية، وما دُمنا نتحدث عن تظاهرة سلمية فلماذا نحشر الحرب وسط هذه الممارسات البناءة، نحن نعتقد انه مثلما كان الديكتاتور يحشد الناس للحرب باسم الوطن، نريد اليوم ان نقضي على ثقافة القرابين المجانية، ونستبدلها بثقافة العمل النافع الذي يتجه دائما لأغلاق الثغرات وإصلاح ما افسدته الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

"بالعمل والاخلاص نحميك يا عراق" شعار قد لا يقبله حتى المواطن، لأنه يستهدفه بالدرجة الأساس، فالحقيقة المؤلمة اننا شعب لا يعمل، وكسول ولا يريد سوى مرتب شهري يدخل جيبه، نفرح بالوظيفة الحكومية الرسمية، ولا نفرح بتشريع قانوني يقوي من اقتصاد البلد، لا يهمنا بناء وطن وفق المعايير الناجحة، بل يهمنا ان نحصل على وظيفة بمرتب شهري حتى وان احترقت الدنيا، نساهم بخسارة الوطن ثروته البشرية عبر تقديمها بكل هذه السهولة، فأي محرقة أقسى على الوطن من التفريط بأبنائه.

واذا شعرنا بفقدان الامل بالحصول على خدمة معينة من الحكومة نقوم بأطلاق شعارات الحرب، اما نكون نحن او فليذهب الجميع للحرب، نضع كل امالنا على زعيم سياسي او شعار من شعارات الحرب التي ورثناها من الأنظمة الديكتاتورية.

على سبيل المثال، نحن شعب يفرح من اجل العطلة الرسمية، ولا يفرح بقرار حكومي يفرض غرامة على المخالفات القانونية، فلم نسمع بتظاهرة حاشدة بسبب الإعلان المستمر عن العطل الرسمية التي دمرت اقتصاد البلد وجعلت الموظف الحكومي يستلم الراتب مكافئة على جلوسه في بيته امام شاشات التلفاز والهواتف الذكية، ومن الغرابة ان يكون الحديث عن التأثير السلبي للعطل الرسمية حديثا غريبا بحد ذاته، اذ ان هناك تصورا سائدا بان التخلص من المنظومة السياسية الحاكمة الان سوف يحل كل مشكلات العراق، وهذا تصور خاطئ، فالخلل ليس برئيس الوزراء وحده، ولا مجلس النواب، ولا القضاء، هناك خلل في اصل الممارسة الاجتماعية والتقاليد السائدة في هذا البلد (مع الاخذ في الاعتبار دور القيادة السياسية في الوصول الى هذه الحالة البائسة).

يسأل القارئ، هل يمكن لمواطن قتله الجوع ان يفكر في فلسفة الشعارات التي يطلقها ضد الحكومة، وان يتأمل في اقتصاده الوطني، وان يبحث عن نظام سياسي وفق المعايير الحديثة؟ بالضبط هذا ما يجب ان يعرفه المتظاهرون، وعلينا عدم التقليل منهم، ليس لان جميعهم فلاسفة او ممكن يحملون تخصصا في مجالات مختلفة، انما لان عددا قليلا من أصحاب الاختصاص، وممن يحملون ثقافة واسعة يستطيعون ان يغيروا بوصلة التظاهر من شعارات الحرب مثل شعار "بالروح بالدم" الى شعارات العمل والاخلاص الدائم في خدمة الوطن، لا نحتاج الى موتى جدد، نحن نحتاج الى قوى عاملة جديدة تستطيع بناء الوطن، ولا نريد نصب المزيد من سرادق العزاء، بل نريد المزيد من ساعات العمل، والمزيد من المبادرات والمزيد من الأفكار الجديدة لبناء الوطن.

اضف تعليق


التعليقات

مصطفى غازي الدعمي
العراق
أحسنت دكتور وتعودت على قراءة ما تنشر وهو في كل مرة يركز على مفهوم مهم جداً من شأنه أن يصنع غد أجمل أتفق كليا معك فيما طرحت وشاهدنا بعض الشعارات في التظاهرات الأخيرة أمثال نريد وطن وتشجيع المنتج الوطني وبعض أعمال الترميم وهو حراك بإتجاه ما أشارت بوصلتك إليه ونتمنى في القادم ان يكون وعينا أكبر.
نشرت سابقاً شعارًا كان تصحيح منطقي لشعار الموت من أجل الوطن قلت فيه نعيش نعيش ويحيا الوطن2020-06-08