إن قيام الدول وانهيارها لا يأتي مصادفة بل تحكمه قوانين نافذة تفعل فعلها في الحالتين. والدولة العثمانية حملت جرثومة فنائها في داخلها منذ نشأتها، لأنها ورثت الاستبداد المملوكي القائم على القسوة المتناهية حتى بين اطراف الحكم، فكان الحكم سلطانياً مطلقا بصبغة ثيوقراطية ونهج دموي لا يعرف الرحمة، ولايقيم وزناً للحوار وسماع الرأي الآخر، حتى في عهودها الأخيرة التي اطلعت فيها النخب السياسية والثقافية التركية والعربية وبقية الشعوب الخاضعة لتلك السلطنة على التطورات السياسية والتجارب الديمقراطية، خاصة بعد قيام الثورة الفرنسية التي أعلنت نهاية حكم الملوك الاستبدادي المطلق في أوروبا وقيام الجمهورية.. وحتى لو عادت الملكيات بعد حين من الزمان فإنها قد عادت مقيدة لا مطلقة، أو أنها رجعت بشكل صوري على طريقة أن الملك (يملك ولا يحكم ) كما هو الحال في بريطانيا.
لقد تأثر بهذه الأفكار التقدمية الجديدة جيل من المتعلمين الترك والعرب الذين ابتعثوا للدراسة في اوروبا، وحاولوا تطبيق ما قرأوه وشاهدوه لإصلاح المنظومة السياسية والإدارية للدولة العثمانية بتشجيع من الصدر الأعظم مدحت باشا (ت1884م) الذي ساعد على وصول السلطان عبد الحميد الى الحكم لأنه كان متحمساً للإصلاح، لكنه سرعان ما بطش بالصدر الأعظم وسجنه في مدينة الطائف في الحجاز، ثم قتل مخنوقاً في سجنه، وحمل رأسه له في الأستانه!!
من هنا بدأ الصدام بين المثقفين وأجهزة السلطان الأمنية والقمعية انتهى بخلعه من الحكم عام 1908م على يد (جمعية الاتحاد والترقي) التي كانت تدعو للمشروطة أو الحكم الدستوري المقيد بدستور، وقد ساعدهم العرب في مختلف أقطارهم التي كانت خاضعة للسلطنة العثمانية، على أمل ان يحصلوا على قدر من الحريات السياسية وأن يعترفوا بهويتهم القومية التي تتمثل بشكل رئيس في اللغة العربية، لكن الاتحاديين سرعان ما تنكروا لعهودهم وكشفوا عن نزعة عنصرية متطرفة (طورانية) استعلائية تحمل حقدا دفيناً للشعوب الأخرى، وبخاصة العرب، وهو أمر موروث من سابقيهم دون شك، فقد اشار اليه المصلح المجدد عبد الرحمن الكواكبي الذي توفي عام 1902 مسموما على يد احد جواسيس عبد الحميد، انتقاما منه بسبب كتابه (طبائع الاستبداد)، وقد تتبع مظاهر هذا الحقد والاحتقار للعرب حتى في اللغة التركية، حيث اصبحت تجري على ألسنتهم مجرى الأمثال! (د. محمد عمارة: عبد الرحمن الكواكبي، ص60).
لقد فرض الاتحاديون الترك سياسة التتريك على العرب، وهي أشبه بسياسة (الفرنسنة) التي فرضها المستعمر الفرنسي على الشعب الجزائري، كمقدمة لإلغاء هويته الوطنية وربطه ثقافيا بالمستعمر.
وحينما قامت الحرب العالمية الاولى، تحالف الأتراك مع ألمانيا ضد فرنسا وبريطانيا، فقاموا بحملة قاسية للتجنيد الاجباري، تدعى بالتركية (سفر بر) أو (سفر برلك) كما تعرف في الشام، وقد شملت، بشكل رئيس، المواطنين العرب في بلاد الشام والعراق وشبه الجزيرة العربية وغيرها. كان المجندون لا يعرفون اين يلقي بهم حظهم العاثر في تلك الامبراطورية المترامية الاطراف... هل في مناطق شديدة البرودة في البلقان او على حدود روسيا او في مناطق شديدة الحرارة كصحارى الاردن والجزيرة العربية وجبال اليمن!! كما لا توجد احصائيات دقيقة عن أعداد القتلى والمصابين والاسرى والمفقودين، بل يدفن القتلى في مقابر جماعية بقيت معالمها قائمة حتى اربعينيات القرن الماضي، كما اشار الى ذلك الكاتب الصحفي الراحل كامل مروة (ت 1966) الذي وصفها في رحلته المغامرة نحو برلين عبر تركيا ودول البلقان إبان الحرب العالمية الثانية والتي صدرت بعنوان (بيروت- برلين- بيروت). وكان من تأخذه السلطات العثمانية الى سوح الحرب يودعه أهله وداع مفارق قد لا يعود ثانية، وبعضهم يقيم له مجلس الفاتحة!!.. إضافة الى ذلك فقد شنت السلطات حملات على التجار والمزارعين للحصول على المواد الغذائية التي يدعمون بها المجهود الحربي، فأصاب الناس عسر كبير، وعمت المجاعة في سوريا ولبنان. وساد التذمر بين المواطنين، فعبرت النخب العربية عنه شعراً ونثراً ومواقف سياسية، كلها تدعو للحرية ورفض الاستبداد والموت المجاني لأبناء العرب في الجبهات.
وفي هذه الأجواء عينت السلطات التركية واليا على دمشق هو جمال باشا الملقب بالسفاح.. كان شديد القسوة، ويحمل حقدا دفينا على العرب، فاعتقل خيرة رجالات النهضة في بلاد الشام بتهم ملفقة حول علاقتهم بفرنسا وبريطانيا. واقيمت محاكم عرفية في سوريا ولبنان حكمت بالاعدام على العشرات منهم، كما هجرت عائلاتهم الى الأناضول. ونفذت تلك الأحكام في السادس من شهر آيار (ماي) 1915.
وكان الشهداء من ألمع ما وصلت اليه النخب والكفاءات ليس بين العرب وحسب، بل بين الاتراك أيضا، فمنهم سياسيون ورجال إدارة وكتاب وشعراء وصحفيون وشيوخ عشائر ورجال دين، كما كانوا يمثلون مختلف شرائح المجتمع الدينية والمذهبية والعرقية، فرغم أن الأكثرية كانوا من سوريا ولبنان لكن هناك من كانت أصوله فلسطينية كالشهيد الشيخ احمد عارف مفتي غزة الذي شنقه السفاح مع ولده في القدس عام 1917، أو مصرية كالشهيد عمر مصطفى حمد، بل وكان فيهم جزائريون كالشهيد عمر حفيد الامير عبد القادر الجزائري الذي اقام في دمشق بعد أن نفاه الفرنسيون من الجزائر.
كان جمال باشا قد أمر أن تضاء ساحة المرجة بالأضواء الكهربائية في مايشبه الاحتفال، ووقف هو على شرفة في بناية العابد يتفرج على منظر المعدومين، وكأنه يشفي غليله!! وكان أحد المحكومين وهو الشيخ عبد الحميد الزهراوي عضو مجلس المبعوثان (الأعيان)، ورئيس المؤتمر العربي في باريس 1913، قد انقطع حبل المشنقة من رقبته، فرفع من جديد، وشدّ من رجليه شداً قويا حتى قضى نحبه!!
لقد دقت جرائم جمال باشا السفاح آخر مسمار في نعش الدولة العثمانية، لأنها أثبتت للعالم مدى وحشية هذه الدولة واستهانتها بكل الشرائع والقوانين الانسانية والإلهية، كما اوجدت بينها وبين الشعوب العربية قطيعة نهائية، الامر الذي عجل بسقوطها بعد مدة وجيزة من تلك الجريمة النكراء.
وللأسف فبعد مائة عام من جرائم السفاح يعود اليوم في تركيا من يريد أن يحيي (أمجاد) العثمانيين ومجازرهم التي لم ولن تزول من الذاكرة، ورعايتهم لتنظيم (داعش) المتوحش الذي يعيث فسادا في العراق وسوريا والعالم كافة، يذكرنا بـ (انكشاريتهم) (وخوازيقهم) التي أذلوا بها العباد وجثموا على صدر امتنا أربعة قرون ونيف!!
اضف تعليق