السؤال، ومواجهة بديهيات الحياة الاجتماعية بالنقد والمساءلة، هما جزء من منظومة استخدام العقل. وبهذا المعنى يكون (السؤال بالمعنى العام والحضاري) هو عصب الحياة والأفكار. فلا حياة بلا تساؤل، كما أنه لا أفكار ناضجة وحيوية بدون نقد وتقويم وتطوير. ولا يمكننا أن نقارب أي ظاهرة من...
يرافق التحولات الكبرى التي تجري في العالم، وعلى مختلف الصعد والمستويات، الكثير من التساؤلات والاستفسارات، وقد أغرت هذه التحولات الجميع بممارسة السؤال والتساؤل، ومواجهة اليقينيات المختلفة بالمزيد من أسئلة الشك والنقد والتقويم. فالعالم اليوم يمتلئ باليقينيات على مختلف الصعد، كما يمتلئ بأسئلة الشك على مختلف المستويات.
لذلك لا يمكن أن تموت الأسئلة في عالم يموج بالمتناقضات والتعقيد، فكل شيء في هذا العالم المعاصر، يؤسس على الدوام للأسئلة، ويستدعي الإثارة والبحث، فلا مناص من السؤال والتساؤل، مهما بدا العالم متقدماً ومتطوراً. فالتساؤل هو تقوى الفكر على حد تعبير (هايدغر)، وهو سبيل الكشف عما تحجبه القوة أو المادة من حقائق ووقائع. والخطاب الغربي المعاصر، الذي يؤسس للتواريخ بعد موتها لا يلغي التساؤلات، ولا ينفي الدهشة، بل يؤكدها ويحفز على تأسيسها في كل المواقع والحالات، لأنه لا يمكن أن تمرر عناصر هذا الخطاب بدون نقد ومساءلة وتمحيص. ولا ريب أن كل تساؤل ينطوي على نقد، كما إن كل نقد يثير العديد من الأسئلة والتأويلات المتعددة. لهذا فإن إثارة الأسئلة على مسارات الواقع المختلفة من ضرورات الحياة والوجود، لأنه لا حقيقة ناصعة إذا لم تسبقها أسئلة الشك والنقد ورفع الحجب والأوهام. ففي رحاب السؤال والمساءلة، تتولد عناصر الحقيقة، واستمرار النقد يعني فيما يعني نمو الحقائق والأفكار والقناعات داخل المحيط الاجتماعي.
من هنا قيل إن العلم عبارة عن خطأ مصحح. فلابد من توسل السؤال والنقد، حتى ننجو من الزور والرياء والمخاتلة، وخطاب المطلق الذي يخفي الكثير، ولا يظهر إلا القليل والنادر.. وكل منظومة فكرية لا تقبل السؤال وتقمع النقد والمساءلة فإن مآلها السكون والموت.
نحن هنا لا ندعو إلى التشكيك في نوايا السائلين، وإنما نؤسس لمواقع السؤال والنقد في مسار الحقيقة وإثراء الفكر والمعرفة. لأن الكائن المتلقي دائماً، بلا أسئلة وشروط ونقد، نساهم معه أو نساعده على انتزاع عقلانيته، ونذوبه في أوعية متماهية ومتطابقة تقتل كل حس حيوي فيه وإرادته الإنسانية. فالكائن الإنساني، لا يمكنه أن يمارس إنسانيته وعقلانيته وشهوده، إذا لم يمارس السؤال والبحث المضني عن الأفكار والحقائق. ولا يوجد على صعيد الأفكار البشيرة من يتصف بالكمال والشمول، لأن الأفكار دائماًبحاجة إلى التطور والتراكم، والسؤال مدخل من مداخل تطوير نظام المعرفة والتفكير والتأويل. ونحن لا نعني بهذا، أن الناس مفطورون على السؤال والتساؤل، ولكن ما نريد قوله، إن حياة الإنسان الحقيقية مرهونة بقدرته على استعمال عقله، لكي يكتشف الحقائق بنفسه، ويعرف الحدود الفاصلة بين القضايا والأمور، بين الوسائل والغايات، بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون. وكلما ارتفعت حقيقة استخدام العقل لدى المجتمعات الإنسانية، كانوا هم أقرب إلى النجاح والسعادة. فلا تنمو المجتمعات حضارياً إلا بالمزيد من استخدام العقل، لأنه وسيلة النمو، وهو الذي يمنح المجتمعات ماء الحضارة وعصب التقدم.
ولاشك بأن السؤال، ومواجهة بديهيات الحياة الاجتماعية بالنقد والمساءلة، هما جزء من منظومة استخدام العقل. وبهذا المعنى يكون (السؤال بالمعنى العام والحضاري) هو عصب الحياة والأفكار. فلا حياة بلا تساؤل، كما أنه لا أفكار ناضجة وحيوية بدون نقد وتقويم وتطوير.
ولا يمكننا أن نقارب أي ظاهرة من ظواهر الاجتماع والوجود بلا تساؤل، فهو لازمة لمختلف الظواهر، ومن دونه لا وجود لثقافة تريد أن تشق سبيلها إلى الدينامية والفعالية.
الإبداع في المختلف
السؤال والنقد يؤسسان لعملية انفتاح وتواصل على المستويين الثقافي والإنساني، وأي تجاوز لهذه الحقيقة فإنه يفضي إلى العديد من المآزق وعلى المستويات كافة. وبفعل هذا السلوك المنغلق والانعزالي والبعيد عن الحس الحضاري والديني السليم، يحدث الانفصال الشعوري والنفسي، وتتشكل كيانات اجتماعية مغلقة، وممانعة لأي صيغة للوحدة والاندماج. وقد لا نبالغ إذا قلنا أن العديد من الحروب الداخلية والأهلية التي شهدتها بعض المجتمعات العربية والإسلامية، وبصرف النظر عن مبرراتها التاريخية والسياسية، هي من جراء تراكم العقلية المتعصبة، التي لا ترى إلا لوناً واحداً وفكراً واحداً وحقيقة واحدة.
إن هذه العقلية بمتوالياتها النفسية والاجتماعية والسياسية، هي جذر العديد من الحروب الداخلية، إذ أنها بمثابة الحاضن لكل الأسباب والعوامل، التي تعمق الإحن والأحقاد، وتشعل الفتن والنزاعات، وتغلّب جوانب العنف والتصعيد، على جوانب التهدئة والحلول السلمية. فالعقلية الدوغمائية، تسعى إلى تأكيد خصوصياتها، حتى لو كان هذا التأكيد على حساب مصالح الأمة والوطن.
وبدل أن تمارس الأفكار والقناعات الثقافية وظيفة تربوية وروحية مهذبة للأخلاق العامة، ومحفزة على الالتزام بالقيم العامة التي تقوي أواصر الوحدة الاجتماعية.
تتحول هذه الأفكار إلى مادة للتأطير الضيق والتنميط والانغلاق، وتبرز الموروثات الاجتماعية والتاريخية في صورها السلبية والمتخلفة، وتبرز عوامل الانعزال واستخدام العنف (عنف القول والفعل) ضد الآخرين. بينما من يتأمل جوهر الأفكار الإنسانية، يجدها تتجه إلى تربية الإنسان إلى الالتزام بالقيم الإنسانية العامة التي لا تشكل عامل نفرة بين الاتجاهات المختلفة، بل عامل وحدة وائتلاف، وتقوي هذه الأفكار آفاق السلم المجتمعي، وتعزيز الضمير الإنساني والرقابة الذاتية والاندفاع الطوعي نحو ممارسة الصلاح والخير على مختلف المستويات.
وفي هذا الإطار، لابد من القول إن العقلية الدوغمائية هي التي تفرغ الدين والقيم العليا من استهدافاتها النبيلة تحت دواع وحجج عصبوية مقيتة. والمشكلة الحقيقية التي تواجه العالمين العربي والإسلامي اليوم، ليست في تربص أعداء الأمة وسعيهم الحثيث لنهب ثرواتنا والقضاء على مقومات وجودنا الذاتي المستقل. بل في تلك العقلية التي لا ترى إلا قناعاتها، وتمارس في سبيل ذلك عمليات الإقصاء والنفي والقتل إلى كل الثقافات والقناعات الأخرى.
إن هذه العقلية تلتقي موضوعياً مع أعداء الأمة التاريخيين، لأنها هي التي تهيئ الظروف في المحصلة النهائية لنجاح مشروعات ومخططات الأعداء، وذلك لأنها تغذي الأحقاد الداخلية، وتمنع الائتلاف وأشكال الوحدة المختلفة، وتحارب بلا هوادة الآخرين الذين لا يتفقون أو يشتركون معها في القناعات والأفكار، فتعم الفتن وتزداد العصبيات، وتتراجع قيم العقل والحضارة. وهذه هي الأرض الخصبة لنجاح أي عدو خارجي في نهب ثروات الأمة والانتقاص من استقلالها وحيويتها الحضارية.
من هنا نرى من الأهمية بمكان، أن يعتني الفكر العربي والإسلامي، بمسائل التنوع والتعدد وقيم التسامح والعدل وآليات تحقيقهما، ويخوض بشكل جاد في أسئلة العصر وتحديات المعاصرة. فلا يكفي الرجوع إلى فكر المقارنات والمقاربات الذي صاغه مفكرو القرن الماضي، إذ أن هذه الصياغات كانت محكومة بعقلية التمامية والدفاع عن الذات، وإن حقائق الاجتماع البشري قد وجدت من عهود تاريخية قديمة، وإن البشر لا يصنعون الحقيقة، وأن دورهم ووظيفتهم هي فقط في أن يعثروا عليها.
لاشك أن مواجهة أسئلة العصر وفق هذا المنظور وهذه العقلية، يزيدنا اغتراباً، ويعمق في نفوسنا عقداً ومركبات نقص عديدة، بعضها صريح والبعض الآخر يختفي تحت (يافطات) وعناوين أخرى. ومن المؤكد أن حقل الاجتهاد الفقهي والمعرفي، هو الذي يفتح إلينا العديد من الأبواب والآفاق، حتى يتجه فكرنا المعاصر إلى تأصيل أسئلة العصر في واقعنا الاجتماعي والحضاري.
ولا مجال في هذا الإطار لإنكار واقع التنوع الفكري والثقافي والمعرفي، فهذا التنوع هو من الحقائق البديهية في الاجتماع الإنساني. ولعل من الخطأ الجسيم النظر إلى هذا التنوع وحق الاختلاف باعتباره عقبة تحول دون إنجاز الغايات النبيلة، ولا ريب أن العمل على ترذيل الاختلاف ونبذه المطلق، لا ينهي الأسباب الطبيعية للاختلاف، وإنما يغير مسارها ويجعلها سبباً من أسباب النزاع والصراع، بدل أن يكون وسيلة من وسائل الإثراء الفكري والمعرفي. فلا يمكن لقوة الغلبة والقهر من نفي الحقوق الطبيعية في حياة الإنسان، ويأتي في مقدمتها حق الاختلاف.
ومن الطبيعي القول، إن القهر والقسر والإلغاء أشد خطراً وضرراً على الأمم والأوطان من ممارسة حق الاختلاف والاعتراف بالتنوع المعرفي الثقافي، واعتباره الوليد الطبيعي لقيمة الاجتهاد وسبيل تعدد الخيارات الفكرية والإستراتيجية في مسيرة الأمة.
لهذا نجد أن القرآن الحكيم يرصد حقائق الاختلاف في الكون والحياة والإنسان ويقول تعالى (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) (1) والمذموم قرآنياً هو الاقتتال والتنابذ والنفي المتبادل والبغي، لأنها جميعاً خروج من طبيعة العلاقات الإنسانية المنشودة. فالاختلاف في حدوده الطبيعية، يثري علاقة التواصل والتفاعل الإنساني، كما أن الاقتتال والتنابذ قطيعة مع الإنسان الآخر. فالاختلاف حوار وتواصل وتفاعل، والقطيعة والنفي طغيان واستئثار ونفي لقيم التواصل الإنساني.
وفي الإطار التاريخي للفضاء العربي والإسلامي، تشكلت استجابات عربية امتثالية، واندرجت في سياق علاقات ولاء وتبعية فكرية ومعرفية لغيرها، بحيث أضحت هذه الاستجابة، وكأنها صدى متواصل للصوت الغربي. ولاشك أنه حينما تذعن ثقافة لأخرى، فإن آفاق الحرية والإبداع والراهنية تتقلص وتصل إلى حدودها الدنيا، لأنها ثقافة تتجه صوب المطابقة المميتة، دون أن تتحرر من أسر وهيمنة الثقافة الغالبة. وكما يبدو أن الثقافة المبدعة هي التي تتمكن من بلورة أفق الاختلاف الثقافي والمعرفي، دون أن تقطع أواصر التواصل والتفاعل الخلاق مع الثقافات الأخرى، وليس المقصود من الاختلاف والمغايرة الثقافية هنا هو اعتبار الثقافات الأخرى ذات مكونات هامشية، أو لا ترقى إلى مستوى التوجيه الإنساني، وإنما المقصود هو أن الاختلاف في هذه الدائرة هو شرط التفاعل الخلاق والاستيعاب الواعي لمنجزات الفكر الإنساني المعاصر. كما أن تنمية عوامل المغايرة والاختلاف الثقافي، هو الذي يؤسس لواقع أو ظروف تغذي الذات الثقافية وتثريها بأبعاد إنسانية وموضوعية عديدة.
وبداية النهاية لأية ثقافة، هي حينما تتجه إلى اختزال وقائعها ومفاهيمها في البحث عن الأشكال المتوافقة أو المنطبقة مع مفاهيم وأشكال الثقافات الأخرى دون الالتفات إلى الشروط التاريخية والاجتماعية لكلتا الثقافتين. أفق المغايرة والاختلاف من الآفاق المهمة لأي ثقافة، لأنه يوجهها إلى أسئلتها الخاصة، وتحدياتها الملحة ويدفع باتجاه الحوارات النقدية الواعية مع الثقافات والمكونات المعرفية الأخرى.. (وإن اختلافاً مشروطاً بالوعي، يمكن أن يسهم بتغذية الثقافة العربية الحديثة بوجهة نظر جدية، وبمنظور يقوم على التواصل مع الثقافات الأخرى، من خلال إيجاد نسق يعين الثقافة العربية على فهم ذاتها وغيرها، بما يدفعها من واقع المطابقة إلى أفق الاختلاف، وإذا كان واقع المطابقة يفضح تبعية الثقافة العربية وولائيتها لثقافة الآخر، أكثر من انصرافها إلى واقعها التاريخي فإن أرضية الاختلاف غير ممهدة وبحاجة إلى توافر اسباب كثيرة ليصبح الاختلاف أمراً مشروعاً وقائماً بالفعل، ومن ذلك نقد أنظمة التمركز الداخلية في الثقافة نفسها، بما فيها المفاهيم الخاصة بالمجتمع والسلطة والمعرفة والدين والفكر والاقتصاد وغيرها، وبما أن الاختلاف ضرورة تتصل بدائرة التكون الثقافي العربي الحديث فهو مشروط بمحددات تنظم أهدافه وغاياته وفي مقدمة ذلك إعادة نظر نقدية للعلاقة التي تربط الثقافة العربية الحديثة بأصولها الموروثة من جهة، وبالثقافة الغربية من جهة ثانية، وتشكيل منطقة تفكير لا تتقاطع فيها تلك المؤثرات ولا تتعارض ولا تذوب مكوناتها مع مكونات غيرها، ولاتتداخل رؤى هذه برؤى تلك والأهم من ذلك أن تعلن عن أسئلتها الخاصة التي تترتب مقدماتها وبراهينها في ضوء حاجات الإنسان والواقع التاريخي وليس استجابة لمقترحات خاصة بسياقات وأنساق ثقافية آتية من الماضي أو من الثقافات الأخرى) (2) .
فوهم المطابقة مميت للثقافة، فلا حياة ثقافية إلا بأفق المغايرة والاختلاف، وأية ثقافة تطرد من واقعها هذا الأفق بتداعياته وممكناته ومتطلباته، فإنها ثقافة لا تاريخية، ولاتستطيع أن تبلور أو تنشئ ثقافة ذاتية أصيلة. فتنمية أفق الاختلاف الثقافي هو شرط الأصالة والمعاصرة معاً. فلا أصالة إلا بجوهر الاختلاف الثقافي، كما أن المعاصرة لا تتحقق في السياق التاريخي والاجتماعي، إلا بالتحرر من وهم المطابقة والتماهي بالآخر فكراً وسلوكاً. فالتعصب والانغلاق، لا يصنع أصالة، بل يصنع واقعاًثقافياً تمور فيه التناقضات بكل أشكالها وأطيافها، وتقوّض النسق أو الأنساق الثقافية المحملة بالمضامين الحضارية الأصيلة، كما أن الحيرة والضياع والغبش في الرؤية، لا يصنعان معاصرة بل يفضيان إلى المزيد من العزلة عن الآخر أو الذوبان فيه.
ويبقى أفق الاختلاف الثقافي هو الذي يعمق الرؤى الحضارية الذاتية، ويؤسس لقيم الحوار مع الآخر والتفاعل معه، وبهذا على حد تعبير الدكتور عبد الله إبراهيم يتم تجاوز السجال إلى الحوار ونقد الذات الامتثالية، والدعوة إلى ذات هي مجموع ذوات كفؤة وقادرة على إنتاج الفعل، والتفاعل مع الآخر على نفس المستوى مع المقدرة والإمكانية، لهذا كله ينبغي التأكيد على ضرورة النقاط التالية:
1) ضرورة تدشين الأرضية الصالحة لبلورة أفق المغايرة الثقافية والاختلاف المعرفي، لأنه أحد العوامل الضرورية لتطوير واقع الثقافة العربية والإسلامية، واستجابتها الفعلية لتحديات الراهن الحضاري والثقافي.
2) تطوير المنظور النقدي والحواري في فضاء الثقافة العربية والإسلامية المعاصرة، لأن الاختلافات الثقافية لا تتحول إلى مصدر ثروة حقيقية للإنسان والثقافة إلا بوعي نقدي يشتت التافه من الأمور، ويثري المضامين الإنسانية والحضارية في الثقافات. وهذا بطبيعة الحال، لا يتأتى إلا بعقلية حوارية تبحث عن المشترك فتثريه وتنضجه، دون أن تتغافل عن نقاط الافتراق والاختلاف لمناقشتها ومساءلتها، لا لإنهائها من الوجود والحياة الثقافية والمعرفية، وإنما للوصول إلى صيغة عملية لإدارة نقاط الاختلاف والمغايرة.
فالحوار ليس هدفه النهائي القضاء على نقاط الاختلاف، بل هو وسيلة حضارية لإدارته بعقلية متقدمة. فالنقد هو الممارسة الضرورية في الاختلافات الثقافية والمعرفية، كما أن الحوار هو الوسيلة الفعالة الذي يمنع إصدار أحكام قيمة على الظواهر الثقافية ذات الشروط العامة والتاريخية. وبهذا تكون العلاقات الداخلية بين مدارس الثقافة العربية والإسلامية، ذات أسس حوارية وتفاعلية وتواصلية، فتطرد عوامل الحقد والضغينة، وأسباب الاحتراب الداخلي.
من أين يبدأ النقد
يتضمن النص القرآني العديد من الآيات والشواهد التاريخية، التي تؤكد على ضرورة أن يراجع الإنسان أفعاله، وينقد ممارساته من أجل تقويمها بما ينسجم والقيم الإسلامية العليا. فالباري عز وجل يقسم بالنفس اللوامة ويعلي من مقامها، لأنها تمارس عملية اللوم والمراجعة والمحاسبة والنقد كي تصل إلى المستوى المثالي في التعامل مع الأمور والأشياء. فقد قال تعالى (ولا اقسم بالنفس اللوامة) (2) .
والقسم الرباني بالنفس اللوامة يوضح قيمتها في حركة الوجود الإنسانية في ارتفاعه إلى الأعلى، باعتبار بأنها تعمل على تخفيف الأثقال الروحية والأخلاقية والاجتماعية التي تشد الإنسان إلى الأسفل، لينطلق من موقع إنسانيته في حالات الصفاء الروحي الذي ينفتح به على الله عز وجل.
وبذلك كانت تمثل قمة النموذج الإنساني في أصالة التجربة الحية الواعية في حركة الحياة في داخله. فمقتضى عمق اللوم على الغفلة، وعلى التقصير، لا يترك النفس سادرة في هواها وفي غفلتها ولا يقف بها في أجواء اللامبالاة فيما يثار حولها من قضايا، لاسيما إذا كانت القضية تتصل بالمصير الأبدي، مما يجعلها في مستوى الأهمية الكبرى في مواقع الفكر والإيمان (4) .
والقرآن الحكيم يثير فينا حس النقد الذاتي، عن طريق تذكيرنا بحقيقة وجدانية، ألا وهي بصيرة الإنسان على نفسه، فإنه قبل الآخرين شاهد عليها وعالم بواقعها، مهما توسل بالأعذار والتبريرات الواهية. يقول تبارك وتعالى (بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو القى معاذيره) (5) .
ويؤكد القرآن الحكيم في الكثير من الآيات أيضاً على مراجعة تجربة دعوات الأنبياء وتشخيص سلوك المجتمعات الغابرة ومواقفها، حتى نتمكن من الاستفادة منها وأخذ العبر والدروس من محطاتها وانعطافاتها. كما ينتقد القرآن الكريم تقليد الآباء والأجداد. قال تعالى (بل قالوا إنا وجدنا آبائنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون، وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آبائنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) (6) .
وبهذا أسس الإسلام عقلاً برهانياً ونقدياً لدى الإنسان المسلم، وهذه هي البذور الأولى لمشروع النقد والمساءلة لظواهر الحياة الطبيعية والإنسانية. ولا ريب أن هناك جملة من العلوم قد تطورت وتأسست في الفضاء الحضاري الإسلامي من جراء هذه العقلية البرهانية ـ النقدية فعلم الجرح والتعديل وعلم الحديث ونقد الرواية كلها علوم تبلورت ونضجت من جراء العقلية النقدية الإسلامية.
والنقد كعملية ثقافية ـ معرفية، هو عبارة عن فحص لكل ما هو سائد في سبيل واقع آخر مضاد له وفقاً لنموذج أو تصور مستقبلي. «فالنقد يعني: الفحص والاختبار ووضع كل شيء في ميزان العقل والاحتكام إلى معاييره» (7) .
ولكن ومع هذا التأكيد القرآني والإسلامي، على ضرورة المراجعة والنقد، إلا أن واقع المسلمين يخلو من هذه القيمة، بل هناك بعض المساحات الاجتماعية التي ترذلها، ولا ريب أن لهذا الغياب أسبابه وعوامله الثقافية والاجتماعية والنفسية. فالقناعات النفسية والثقافية التي لا تراجع، ويتم التعامل معها كحقائق ثابتة، تدفع باتجاه التمتع بحق الطاعة والانقياد والاتباع، دون أن يكلف نفسه (صاحب القناعة الثابتة) عناء مراجعة أفكاره وقناعاته ومساءلتها.
وبهذا تتراكم عوامل الغفلة والاستعلاء، بحيث يتجاوز هذا الإنسان كل ممارسة نقدية، ويحجم عن ممارسة كل محاسبة إلى سلوكه وأفعاله. وهنا لابد من بيان أن مجال النقد هو وسائل التطبيق الاجتماعي والثقافي والتعليمي، وذلك لأن الجمود عليها يعطل التقدم. وليس ثوابت الشرع وقيمه العليا. فالثوابت العقدية والتشريعية ليست موضوعاً للنقد، إنها موضوع للبحث والفهم. وبطبيعة الحال فإن المحيط الثقافي الذي تنمو فيه حالات ضمور الحس النقدي، هو ذلك المحيط الذي يردع عن السؤال المساءلة، ويقف موقفاً سلبياً من الاختلاف الثقافي والفكري، ويحارب الإبداع خوف الابتداع. وهذا يعمق نفسية عامة تحول بين الإنسان الفرد والجماعة وممارسة النقد والمراجعة والمحاسبة لكل ما هو سائد. فالاختلاف المرذول والمذموم، هو الناتج عن الهوى، أما الاختلاف الناتج عن البحث الحر والموضوعي طلباً للحقيقة لا إتباعاً للهوى فهو اختلاف مشروع، وذلك لأنه طريق الوصول إلى الحقائق وهو الذي يثري الواقع والفكر والثقافة. والنقد وفق هذا المنظور، هو الذي يثري الساحة الثقافية بالمضامين الجادة، كما أنه يفعل الساحة الاجتماعية باتجاه الأمور والقضايا الأكثر أهمية وجدية. فالنقد هو الممارسة الضرورية في الاختلافات الثقافية والمعرفية، كما أن الحوار هو الوسيلة الفعالة الذي يمنع إصدار أحكام قيمة على الظواهر الثقافية ذات الشروط العامة والتاريخية. ولاريب أن غياب تقاليد النقد والمساءلة، هو الذي يدفع الشعوب والأمم حين الهزائم إلى التشكيك الصارخ في كل ما هو سائد.
وهذا يقودنا إلى القول إننا بحاجة دائماً أن نتعامل مع هزائمنا وانتصاراتنا بموضوعية بحيث إننا لو انتصرنا لا نصاب بداء الغرور والتعالي، فنلغي الآخرين من خريطة الوجود التاريخي.. ولو انهزمنا ندرس أسباب هزيمتنا بشكل موضوعي وهادئ، ودون أن يؤثر هذا على جوهر وجودنا وثوابت كياننا. ولاشك أن للإنجازات أسبابها وعناصرها كما أن للاخفاقات عواملها. والرؤية الموضوعية تحتم علينا دراسة المسألة من جميع أبعادها، لإزالة عوامل الإخفاق وتأكيد عناصر النجاح والإنجاز.
ولا يوجد على المستوى التاريخي أن مجتمعاً مكتوب عليه أو قدره الهزيمة دائماً أو الانتصار دائماً.. وإنما هما (الهزيمة والانتصار) ظاهرتان إنسانيتان تتحكم فيهما جملة من العوامل الذاتية والموضوعية. فالمجتمع الذي تتوفر فيه عوامل المنعة والتفوق يحقق ذلك على الصعيد العملي، والمجتمع الذي يتخلى عن تلك العوامل يصاب بالإحباط والتراجع والتقهقر. فالرؤية الموضوعية تعني، الابتعاد عن التهويل والتهوين، والبعد عن الشطط والمغالاة وعن اليأس والتيئيس الدافع إلى الاستقالة المعنوية الفردية والجماعية.
وإن فقدان الثقة بالذات من جراء نكسة أو هزيمة، يؤدي حتماً إلى الاستسلام إلى المنظومات الفكرية والثقافية للغالب.. وقد أشار إلى هذه المسألة ابن خلدون بقوله: إن المغلوب مولع دائماً بمحاكاة الغالب والاقتداء به لأنه يعتقد أن انتصاره راجع إلى صحة مذهبه وعوائده.
كما أن تجريح الذات وجلدها على مختلف الصعد والمستويات، ما هو في حقيقة الأمر إلا إخفاء لابتعاد المثقف أو المفكر أو الأديب والنخبة بشكل عام عن مواطن الإبداع الفكري والثقافي والأدبي وتحولهم في الكثير من الأحيان إلى إحالة للماضي وحجاباً لعدم رؤية الحاضر.. فالقراءة الموضوعية إلى الظواهر الاجتماعية والإنسانية المفرحة منها والمحزنة تحتم علينا النظر إلى الأمور انطلاقاً من أسبابها الحقيقية وعواملها المباشرة.
من هنا وتأسيساً على حقيقة التطورات السريعة التي تجري في العالم في كل اتجاه، تتأكد ضرورة التقيد بقوانين الموضوعية في دراسة التطورات والظواهر الاجتماعية والإنسانية الأخرى.. لان توفر هذه القوانين هو الذي يمكننا من قراءة هذه التطورات والتحولات بشكل سليم ودقيق.
والفكر النقدي يقتضي:
1ـ توفير أسس الفحص والمقدمات العقلية والنظرية لعملية المراجعة، إذ لا يعقل أن تتم المراجعة انطلاقاً من ردود أفعال أو مماحكات سياسية، بل من الضروري أن تتوفر كل الأدوات النظرية والمفهومية والعدة التقنية التاريخية والمعاصرة لفحص الظاهرة فحصاً موضوعياً متزناً.
2ـ التقيد بالمنهج الموضوعي دون جلد الذات أو تحميل الآخر المجهول أسباب الإخفاق وعوامل الهزيمة.
وبهذا نتشبث بما يسمى بـ(القوانين الموضوعية) للظواهر الاجتماعية والإنسانية.. ومن هنا فإن الفكر النقدي يقتضي أيضاً دراسة الظاهرة والكشف عن قوانين عملها وحركتها وعن طبيعة العلاقة التي تربط بين عناصرها المختلفة.. وعن طريق هذه الدراسة نصل إلى النتائج الأخيرة بعيداًعن المسبقات الفكرية أو الاجتماعية، ونتعرف على الأسباب الموضوعية لنمو الظاهرة أو ضمورها.. إننا مع ضرورة المراجعة لمناهجنا العلمية والعملية، لكنها تلك المراجعة التي تنطلق من حس المسؤولية الذاتية وتحمل الذات مسؤولية الإصلاح.
فالمراجعة والنقد جزء من مشروع الإسلام التربوي، فلا فلاح بدون محاسبة الذات ومراجعة افعالها وتقويم سلوكها والعدول عن الأخطاء والزلات. وبالتالي فإن النقد وفق هذا التصور مطلوب، لأنه سبيلنا إلى التطور والتجدد والتزكية.
الدين والإبداع.. أية علاقة؟
في البدء ثمة حقيقة أساسية ينبغي بيانها، وهي ضرورة التفريق بين الدين كمجموعة من المبادئ والقيم الخالدة، التي تنسجم وفطرة الإنسان ونواميس الكون والوجود. وبين الدين كما هو معيوش وممارس، وذلك على حد تعبير أحد العلماء (8)، إننا لا ننكر تاريخية الحركة الإنسانية، لأن التاريخ عبارة عن حركة الإنسان ضمن ظروفه، إذ لا يمكن فصل التاريخ عن الإنسان وبالعكس، لذا فإن مسألة الوعي التاريخي في حركة الإنسان ومدى تمثله لما يطرح عليه من أفكار ورسالات، هي مسألة جدّ واقعية لا يمكن التنكر لها، لكننا عندما نريد أن نخضع النص لسياق التاريخ، فعلينا أن نحدد الموضوع بشكل دقيق، لأن هناك فرقاً بين القول إن القرآن كان خارج نطاق الزمن وخارج النطاق الإنساني وليس له أية علاقة بالإنسان الذي عاش في زمنه، وبين القول بأن القرآن انطلق في مفردات هذا الإنسان وفي أجوائه ولكن من أجل الخروج من الخاص إلى العام.
لذلك نستطيع القول: إن النص القرآني يتحرك مع الواقع ويصوره لنا ليخرجه من دائرته الزمنية، ليجعل منه سياقاً تاريخياً في مدى الزمن، بدل أن يكون سياقاً تاريخياً في داخل المرحلة الزمنية الخاصة. وهذا الذي يميز القرآن الحكيم، الذي لم ينزل في صحراء فارغة، بل في أرض مليئة بالتعقيدات، ودخل في عمقها وتحرك في كل مواقعها وآفاقها، ولكنه تجاوزها لأنه كان يريد أن ينقل النموذج ويقدم الفكرة أو الحل ليتحرك في كل زمان ومكان، ونحن ندرك أن حركية الإنسان في التاريخ تخضع لهذا التصور القرآني.
لذلك ينبغي أن ندرس الإسلام ونتعرف على أحكامه من خلال نصوصه وكل ما يتصل به في حركته التاريخية مما له علاقة بمفاهيمه وتطبيقاته. أما السقوط تحت تأثير كل تطور حديث يتحرك من خلال قواعد فكرية غريبة عن الإسلام، فهو أمر يؤدي بنا إلى أن نجعل الإسلام صالة عرض يمكن أن نضع فيها أي شيء. ودائماً ثمة بعد إنساني في النص يتجاوز الزمان والمكان، بمعنى تجرده من خصوصيات البيئة المحلية، ليصل إلى مستوى مخاطبة كل إنسان بتكوينه الروحي والنفسي والأخلاقي.
وهذا البعد هو الذي يسوغ عملياً كون النص القرآني عالمياً ومتفرداً، إذ أن ملاك كون النص متفرداً هو إمكان تأويله وتفسيره بمعان ودلالات تتجاوز جيلاً أو عصراً أو بيئة ثقافية. و«الاجتهاد في المنظور الإسلامي، هو نشاط داخل النص القرآني، ولا يمكن أن يكون في مقابله، على أن حركة الفكر البشري داخل النص الإلهي لا يمكن أن تكون حركة فاعلة ومنتجة، إن لم تكن حركة منتقلة تارة من النص القرآني إلى ميدان الكون وتارة من ميدان الكون إلى النص القرآني. فالكون هو مسرح التأمل والقراءة الميدانيين، والقرآن هو مسرح التأمل النظري» (9) .
وعليه ومن خلال الإطار النظري الآنف الذكر، نجد أن الدين الإسلامي، لايقف حجر عثرة تجاه الإبداع البشري بكل صوره وأشكاله وأجناسه، وإن ما تعانيه ساحاتنا العربية والإسلامية على هذا الصعيد، ليس وليد قيم الدين وإنما تدخلت عوامل سياسية وثقافية واجتماعية لوجوده. ولايمكن بأي شكل من الأشكال أن نعتبر قيم الدين هي المسؤولة عن هذا الواقع.
فالدين الإسلامي أعطى للإنسان الحرية التامة في التأمل في الموجودات، والوصول إلى حقائق الكون والحياة من خلال إعمال العقل والتفكير. فإننا مع الإبداع الإنساني الذي يثري حياتنا معرفة وحيوية وجمالاً. وفي ضوء ذلك ينبغي أن لا تتحرك إبداعات المبدعين في دائرة التكفير وعدمه، بل تكون خاضعة للبحث في سلامة التأويل من حيث المنهج العلمي في فهم النص وعدمه، على أساس مناقشة المفردات والمعطيات التي يقدمها كل فريق أمام الآخر. وربما يقودنا الحوار الموضوعي إلى حقائق جديدة وقناعات معرفية متميزة. كما إننا ندعو إلى ذلك لا من موقع العقدة من التجديد والإبداع والتنوير بل من موقع الرغبة في أن تكون لنا أصالتنا الثقافية ومرجعيتنا الحضارية.
ولابد من إدراك أن المعارف الجاهزة، لا تفضي إلى نمو المعرفة والإبداع، ما لم تتقدح في المساءلة والقراءة والنقد. وحينئذ فيما يتبلور منها من حقائق وأفكار ونتائج بالاحتكام إلى عقولنا سيضيف إلى وقعنا الثقافي المزيد من الحيوية والفاعلية.
لذلك فإن المطلوب دائماً، هو إثراء تجاربنا العقلية والفكرية والمعرفية بتجارب السابقين مما يحقق معنى التواصل في بناء المعارف الإنسانية والانفتاح على آفاق السيرورة التي تختزن تجارب الإنسان والراهن في عملية إخصاب دائم لا تكف عن التوالد والإبداع.
ولنعترف بصراحة أن أزمة الإبداع في واقعنا العربي والإسلامي، ليست بسبب النصوص الدينية، ولكنها بفعل منهج القراءة والتقويم. إذ أن الواقع المتخلف في ثقافته والمنغلق على ذاته، لا يستطيع الإجابة الحضارية على أسئلة العصر ومتطلباته الكبرى. وتراجع مستوى الإبداع في أية أمة، يرجع في تقديرنا إلى انهيار مصادر التجديد والتغيير والتطوير في الأمة. فحينما تسود أيديولوجيات التسويغ والتبرير، وتتضاءل إمكانية استخدام العقل، ويصاب الوجدان والشعور باليباس والتخشب، حينذاك تغيب كل أشكال الإبداع في المجتمع والأمة. وليس من قبيل الصدفة أن تقترن لحظات الإبداع في تجربتنا التاريخية مع لحظات النهضة والخروج من آسار الجمود، والعمل الجاد من أجل تكييف واقع الحال مع النظم المفاهيمية العليا. فبوابة الإبداع في واقعنا المعاصر ليس الاستخفاف بقيم الدين والغيب، وإنما الانعتاق من كل القيود التي تحول دون ممارسة التفكير بشكل حر ومستقل.
وإن الإنصات الواعي والعميق لكل الآراء والأفكار والإبداعات، يجعل وعي الاختلاف وعياً جمالياً كتنوع أغصان الشجرة، كما أن تأصيل قيم الاجتهاد والبحث عن الحقيقة والتجديد، يساهم في إرساء دعائم الإبداع بكل صوره وأشكاله. فالاجتهاد هو الأرضية الخصبة لنمو مستويات الإبداع في المحيط المجتمعي. «وإن الدين والعقل ليسا في حالة تناقض أو احتراب. بل إن الدين في جوهره يحث على استخدام العقل بأقصى طاقة ممكنة والدين يذهب مع العقل إلى فردوسه لا إلى جحيمه المفتوح على العبث واللاجدوى. فحين يصبح العقل مقطوعاً عن شجرة الروح، لابد وأن يشرع الأبواب على الخراب المتصل بالهاوية، وأن يصل إلى المأزق الذي جعل (فاوست) يبيع نفسه للشيطان، والذي جعل (نيتشه) يعلن عن موت الله، و(كافكا) يعلن عن موت الإنسان، فالدين كما يشمل العبادات والأخلاق والقيم النبيلة، كذلك هو دعوة دائمة للنظر والتأمل والتبصر. والنظر بدوره يستدعي الشغف بالعلم والإبداع ومحاولات فك اللغز الإنسان عن طريق التأمل والاجتهاد» (10)، ويكتشف جماليات الإنسان والكون، حتى تكون الصورة بمفرداتها العديدة في سياق واحد ومنسجم ومنطوق الآية القرآنية (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) (11) .
فالدين والعقل، هما توأما الخروج من قمقم الجهل والتخلف، كما أنهما الأرضية الخصبة لإبداعات الإنسان على مختلف الصعد والمستويات. وبالقلق المعرفي والتساؤل والنقد، نمحو عطالة العقل واستقالة الفكر والوجدان. فالنص الديني، لا يلغي دور العقل وإبداعاته ومكتسباته في مقاربة الواقع واكتشاف سننه وقوانينه وجمالياته.
وأول الإبداع السؤال وجدله الإنساني، والإنسان بحسب المنظور الرباني أكثر الكائنات قابلية للجدل. لذلك ينبغي أن نبتهج بالسؤال لأنه يمنحنا التحفز والرغبة ويدفعنا إلى البحث المضني والمغامرة العقلية. والنص القرآني كما يقرر الكثير من العلماء والمفكرين، يعتمد على أسلوب النص المفتوح، أعني النص الذي لا تستوعبه قراءة واحدة، لأن كل قراءة له تفتح أمامك احتمالات جديدة وأفقاً جديداً لقراءة أكثر عمقاً، دون أن تنفد قراءة النص على تفجير الإيحاءات المتجددة. وأحسب أن هذا الأسلوب وهذه المنهجية، هي التي تحفز المبدعين والمفكرين لإبداعهم، وهي التي تتسع لجميع الآفاق والإمكانات. ومن خلال هذا الفهم والمنظور، تتشكل بذور الإبداع في مسيرة الإنسان. وبالتالي فإن الدين الإسلامي وعبر نصه القرآني الخالد، يساهم في دعم وإسناد وتفجير الطاقات الإنسانية في سبيل رقي الوجود الإنساني فناً وعقلاً، وجداناً وفكراً، عاطفة وعلماً. وبهذا تتكامل صورة الإبداع وفق المنظور الديني الآنف الذكر. والوعي البشري حينما يتحرك لإدراك حقائق النص الديني، يغتني بالوعي والقوة العقلية التي تؤهله للاستيعاب والإبداع. وبهذا فإن الدين لا يعطل روافد اغتناء الوعي والمعرفة في سبيل اغناء مضامين الإبداع الإنساني في مختلف المجالات والحقول.
فالمطلوب ان نمارس حريتنا وحقوقنا دون التجديف في الدين. ويخطئ من يتصور أن لا حرية مع احترام قيم الدين ومقدساته. فكما أن الحرية قيمة مقدسة بذاتها كذلك هو الدين، ولا يجوز بأي شكل من الأشكال معاداته. وبالذات إذا أدركنا أن احترام مقدسات الدين وخيارات المجتمع العليا، لايقف في وجه قيم الحداثة والتنوير، بل لو تعمقنا في قراءة تجارب التنوير في العالم، نجد أن على قاعدة الاحترام يتم التجديد والتنوير. ويخطئ من يعتقد أن طريق التنوير والحداثة مجابهة المجتمع في خياراته العليا ومقاومة عقائده الدينية. بل هذه العناصر الأخيرة هي التي تشكل الوعاء الحقيقي لنمو أسباب التقدم وتبلور خيارات التجديد في الواقع المجتمعي.
فإهانة المقدسات، لا يقود إلى تكريس قيم التنوير في المجتمع، وإنما يزيد من أوار الاضطرابات ويفاقم العصبيات ويدخل الجميع في نفق مظلم مليء بالتهم والتخوين والتكفير. وإن المسار الذي يتبعه بعض المثقفين العرب في إعادة انتاج محنة خلق القرآن، وإدخال مجتمعاتنا في صراعات لا تقربنا من التقدم، وإنما تزيد واقعنا مأساوية وبعداً عن مشروعات التقدم الحقيقية.
فالحرية قيمة مقدسة لدى كل الديانات السماوية والنظريات الإنسانية، فلا نحولها ببعض التصرفات وكأنها تقف بالضد من خيارات الأمة الحضارية. إننا في العالمين العربي والإسلامي بحاجة إلى تلك الجهود الفكرية والثقافية والأدبية، التي تؤصل قيم الخير في الواقع الخارجي، وهذا لا يتأتى إلى بنشاط فكري نوعي ومتواصل، لا يأبه بالمعوقات ولكنه في ذات الوقت لايدخل المجتمع في معارك وهمية أو جزئية أو لا تؤدي إلى الوصول إلى الأهداف العليا. إننا مع خيار الحرية للأكاديمي والباحث والمثقف والأديب والمفكر والصحافي، ولكننا في ذات الوقت نرى أن طائفة من الأدباء والمثقفين لا تحسن التعامل مع هذه القيمة، ولا تجيد التعامل الإيجابي مع هذا الخيار.
فالحرية قيمة عليا مقدسة، ليست بعيدة عن قيمة المسؤولية، وإنما هما قيمتان متكاملتان، فلا حرية بلا مسؤولية، كما أن لا مسؤولية بدون الحرية، لذلك فإننا ندعو المثقفين العرب إلى تأصيل مفهوم التفاضل بين القيم. بمعنى أنه على المستوى الفعلي قد تتزاحم جملة من قيم الإنسان العليا، فما هي القيم ذات الأولوية، وما هو الناظم والمعيار لإرساء مفهوم التفاضل بين القيم. فالحرية قيمة مقدسة، كما أن احترام الأديان السماوية كذلك. فمتى تبدأ قيمة الحرية وأين تنتهي لصالح قيمة إنسانية أخرى مقدسة، ليست على النقيض من هذه القيمة، كما أن تطبيقها ليس انتقاصاً منها وإنما تكاملاً معها.
اضف تعليق