يفرض القانون العراقي ان يتم إعطاء اجر مالي مقابل أي خدمة يقدمها المواطن سواء في القطاع الخاص او العام، لكن القانون شيء والواقع شيء اخر، في المدارس مثلاً وبعد ان تجاوزت الدولة مرحلة بناء المنشآة بالتبرعات وصلت الى التدريس بالتبرعات، وظهرت لدينا صفة محاضر مجاني...
ليس غريباً ان تتأخر طائرة عن رحلتها في أحد المطارات فهناك الخلل الفني وهناك المشاكل الإدارية وقضايا أخرى تتعلق بحركة الطيران الدولي، لكن قد يكون غريباً بعض الشيء ان يطالب قائد احدى الطائرات ركابها بدفع أجور التزود بالوقود او البقاء داخل المطار في حال امتناعهم عن الاستجابة لمطالبه.
قصة تناقلتها وسائل الاعلام العراقية عن امتناع الشركة التركية المشغلة لاحدى الطائرات العراقية بدفع مبالغ التزود في الوقود في مطار قرطاج التونسي، وحاولت التملص منها، وهي مفروضة عليها، خاصة وأنها لا تملك مكتباً في تونس، فيتم دفع المبالغ كاش إلى الشركات التي تقدم الخدمات الأرضية، ومنها التزود بالوقود، إدارة المطار ترفض اقلاع الطائرة وقائد الطائرة يجد الحل، على الركاب ان يدفعو ثلاثة الاف دولار حتى يصلوا الى مقصدهم.
القصة غير مؤكدة كحقيقة كاملة، لكنها طبيعية في سياق العمل الإداري العراقي، الذي هو امتداد لتاريخ طويل من التبرع الشعبي للحكومات والشركات، كان حزب البعث وزعيمه صدام يجمع الأموال من الشعب تحت ذريعة بناء ملوية سامراء، وهي نوع من الاتاوات الحكومية لانك ببساطة لا تستطيع ترويج أي معاملة في الدوائر الرسمية بدون الدفع لبناء الملوية، لم تنتهي قصة الملوية حتى جاءت فكرة أخرى مشابهة لها في بغداد، وبنفس الطريقة فرضت التبرعات رغم ان ذلك من واجب الحكومة التي تستولي على موارد النفط الهائلة.
لم يكن حزب البعث يعمل على جمع التبرعات المادية فقط، فكانت هناك ما يسمى بنظام السخرة، وهو نوع من التبرع الاجباري للعمل لدى الدولة، فحينما تحتاج احدى الدوائر الرسمية بعض السيارات او الآليات الثقيلة تقوم بتوقيفها بالشارع واخذها مع سائقها خدمة "للحزب والثورة"، لا يتم تبليغ اهل المواطن بان ابنهم ذهب للسخرة، ينتظرون يوم او اكثر في صراع مع الخوف، فقد يكون تحت رحمة الأجهزة القمعية في سجونها المرعبة.
وفي اطار سياسة التبرع كان حزب البعث قد تبرع بمواجهة عسكرية مجانية نيابة عن العرب لحماية البوابة الشرقية كما يقول، استمرت المواجهة تلك لثمان سنوات وحصدت مئات الالاف من اروح الشباب العراقي، ولم تتوقف شيهة التبرع حتى جاءت فكرة تحرير القدس ليتبرع مرة أخرى بشبابنا ويؤسس جيش القدس، قبل ان يختطف البلد كاملا بيد القوات الامريكية عام 2003.
بعد الاحتلال هناك متسع من القصص المشابهة لما كان يقوم به حزب البعث مع قليل من التشدد وكثير من الفساد، تخصص الحكومة أموالاً لمشاريع كبرى كجزء من واجبها تجاه المواطن، تسير الأموال في طريق متعرج، تنهشها الظروف القاسية، وتتعرض للهجمات من الأعداء والأصدقاء، وكأنها فريسة في حشائش السافانا الافريقية، تصل الأموال (الفريسة) الى وجهتها وقد أصابها الذبول، قليلة العدد، مرصوفة في زاوية صغيرة من الخزانة، يعطف عليها المسؤول الحكومي فيطلب بعض الأموال لمساعدة الأموال المصابة بمرض النقصان وعدم الكفاية، ولان الشعب العراقي طيب وكريم يتبرع بما تبقى له من قوت يومه، فتذهب أموال التبرعات بنفس طريق الأموال السابقة، مفترسات تتعرض لها وقد تصطادها ولا تصل الى مقصدها.
يفرض القانون العراقي ان يتم إعطاء اجر مالي مقابل أي خدمة يقدمها المواطن سواء في القطاع الخاص او العام، لكن القانون شيء والواقع شيء اخر، في المدارس مثلاً وبعد ان تجاوزت الدولة مرحلة بناء المنشآة بالتبرعات وصلت الى التدريس بالتبرعات، وظهرت لدينا صفة "محاضر مجاني" وهو شخص درس لمدة 16 عاماً من اجل تكوينه كمعلم في المدارس لقاء اجر معين بحسب القانون، بينما يجد نفسه هو من يدفع الأجور من اجل تعيينه كمعلم متبرع لجمهورية النفط.
في مشاريع البنى التحتية تقوم الدولة بدفع الأموال للشركات من اجل تنفيذها، يباع المشروع من شركة الى أخرى، حتى تطول السلسة، وفي الحلقة الأخيرة تطلب الشركة المنفذة الفعلية من المواطنين دفع بعض الأموال او التوقف عن المشروع، يضطر المواطن لدفع الأموال للشركة كتبرعات، لانه يعرف بان تأخر تنفيذ المشروع يعني نهايته الحتمية وموته، ما دام هناك من يدفع اكثر منه.
اذن هي جمهورية تعتمد على التبرعات لكونها دولة فقيرة وغير مؤهلة ادارياً وقانوياً ولا يمكن ان تكمل المسيرة من دون مساهمة أبنائها، الرواية الرسمية تسوق لافكار كهذه لكن يندر ان نسمع بتبرع الحكومة برواتها او نصف او حتى ربع رواتبها لبناء مدينة هدمها الإرهاب، او تشييد بعض الأبنية المدرسية بديلا عن الطينية في الوسط والجنوب، وحده المواطن هو الكفيل الرسمي لجمهورية تعيش على التبرعات.
اضف تعليق