إذا ارادت الأحزاب العراقية ان تنجو بنفسها من العواصف القادمة فعليها الخروج من عصور ما قبل التاريخ، ليس عبر افتتاح مقراتها الرئيسة في القصور الرئاسية، ولا الصراع على المناصب، ما عليهم فعله هو الاستماع جيدا الى من يحلل خطابهم سواء كان ناقدا اميناً او حاقداً...

قبل حوالي أربعة الاف عام وتحديداً حينما كانت الدولة العراقية في طور التكوين وبداية ظهور حركة التحرر، كتب احد المهتمين بالسياسة مقالا يتناول فيه مصير احدى الجماعات ذات النفوذ الواسع، وشرح بالتفصيل كيف ستتحول من قائدة لحركة التحول السياسي في الى مجموعات صغيرة متشظية لا وزن لها الا في اطار محدود.

تقوم فكرة الكاتب على متابعة وتحليل دقيق للمتغيرات التي طرأت على المجموعة منذ نشوئها وصعودها الى قمة الهرم السياسي الى ان بدأت مرحلة النزول وتشتت الخطاب وتداعي افكارها ومتبنياتها التي قامت عليها طوال سنوات حكمها.

قرأ بعض أعضاء القيادات الوسطى في المجموعة (الحزب) مقال الكاتب، وجاءت الردود عنيفة ومتهمة للكاتب بانه يروج للافكار المنحرفة التي تتبنى نظرية اسقاط العملية السياسية عبر استهداف الجماعة (الأحزاب) القوية وتشويه سمعتها امام الرأي العام المحلي والعربي، وهو ما افسد على الكاتب جهده التحليلي، ورغم قناعته التامة بما كتب لكنه أصيب بالإحباط لان الردود كشفت اخطر ما يهدد الجماعة (الحزب)، فنداء الطوارئ الذي يجب ان يستجيب له الجميع تحول الى تهمة، ما يعني ان التنبيه على وجود الخلل لا يؤدي وظيفته بالاتجاه الصحيح انما تقابلها الأحزاب بنوع من الاستهزاء والتقليل من شأن التحليل السياسي، او باتهامه بالعمالة للخارج اذا كانت الفكرة عميقة وتناقش مشكلة جوهرية.

بعد سنة تقريبا من نشر مقال الكاتب عن الحزب، صدقت اغلب التحليلات التي طُرِحَتْ، والحزب خسر ما كان يملكه من سلطة ونفوذ واسع في الدولة العراقية (أي قبل أربعة الاف عام)، وتشكلت حكومة جديدة بعد تحالف غير متجانس من حركات سياسية افرزتها حرب طاحنة ضد جماعة إرهابية متشددة، وتم اختيار رئيس للوزراء، وقامت الحكومة بحملة واسعة لاجتثاث نفوذ الحزب نهائياً، وبعد صفقة تقاسم الوزارات انتشرت اخبار عن صفقات كبيرة لتقاسم اكثر من أربعة الاف منصب حكومي بين درجة وكيل وزير ومدير عام.

في اللحظة التي خسر الحزب كل شيء لم يعد لمقال الكاتب أهمية، فالتهديد الذي حذر منه قد وقع بالفعل، والخطر الذي أشار اليه واتهموه بالكذب والتزوير بات واقعاً، هنا عاد الحزب لقراءة المقال والمقالات المشابهة وشعر انه بالفعل قد تعرض لعاصفة لم ينتبه لوجودها، واقتنع أعضاء الحزب ان تفكيرهم لم يكن في مستوى تحديات القرن الحادي والعشرين، فمستوى تنظيمهم، لا يختلف كثيراً عن الابوية قبل قبل أربعة الاف عام، لا يوجد احترام للتخصص ولا توجد هيئات استشارية فعلية تستطلع ما يكتب عن الحزب ومستقبله، ولا يستفيدون من الآراء المضادة لهم والتي تعد الأساس في تقويم أداء الحزب.

شعر أعضاء الحزب ان تفكيرهم كان ينصب على إرضاء القائد الذي فقد وظيفته الأساسية بالتطوير الدائم، وانتقل الى مرحلة توفير سبل البقاء أطول فترة ممكنه، اقتنع أعضاء الحزب ان ما يرتضيه القائد هو كل شيء، وما دون ذلك فهو مؤامرة خارجية تستهدف القيم والمبادئ العظيمة، لم يعرف أعضاء الحزب ان النقد بشقيه البناء والهدام يمكن ان يفيد أي مؤسسة في عصر المعلوماتية والتكنلوجيا، فان كان النقد بناءً يمكن ان يصلح بعض الثغرات التي لم ينتبه لها احد، وهذه فضيلة من فضائل الكتابة السياسية الموضوعية، وان كان النقد هداماً ويمثل مؤامرة فعلية ودعاية مضادة، فيمكن استخدامه كمنصة اختبار لقوة الحزب امام الظروف المعقدة، النقد الهدام مثل هجمات القراصنة ضد شركات التكنلوجيا تفيد في اكتشاف الثغرات واغلاقها، لا سيما اذا كانت الشركة في اوج قوتها، فقد يصعب اصلاح الخلل اذا اخترقت وهي تعاني من مشكلات ثانوية أخرى.

اذا ارادت الأحزاب العراقية ان تنجو بنفسها من العواصف القادمة فعليها الخروج من عصور ما قبل التاريخ، ليس عبر افتتاح مقراتها الرئيسة في القصور الرئاسية، ولا الصراع على المناصب، ما عليهم فعله هو الاستماع جيدا الى من يحلل خطابهم سواء كان ناقدا اميناً او حاقداً، ففي الحالتين عليهم ان يسمعوا، وان لا ينتظرون مدى توافق ما يسمعون مع أفكار القائد، فهذه من صفات العبيد، عليهم ان يكونوا احراراً مثلما تعيش شعوب ما بعد الهواتف الذكية والقرية الكونية. الفرصة ما زالت سانحة، والتقدم المعلوماتي يوفر لهم طريقة سهلة للانتقال عبر 4000 سنة.

اضف تعليق


التعليقات

سالم الحجار
العراق
مع شكري وتقديري لاسلوبك المبدع، اقول: صديقي العزيز؛ لو كان الحزب بالمواصفات التي ذكرتها يستمع الى نصائح الآخرين فما مبرر وجوده وهو يعد نفسه امتداداً للرسالة السماوية وهو الاول والآخر. هذا فضلاً عن "التحليل" الذي تتفضل به، ولا أنسى -للتاريخ فقط- كيف ان احد رموز حزب الدعوة، وفي اجتماع "التحليل السياسي" في مبنى المجلس الاعلى بطهران في التسعينات، قاطع ياسين مجيد، وهو ايضاً من كبار الدعوة وكان يبين مساوئ الفيدرالية لمستقبل العراق، وانها وصفة اسرائيلية لتفكيك المنطقة، وأجابه: "هذا تحليل...! اما انا فعندي الحقائق ...." وهو يؤكد لنا كيف ان الفيدرالية من شأنها إعادة الحقوق للشيعة في العراق. واللهم يحفظ العراق وأهله2019-07-02