كانت النجوم في مقبرة البقيع قبل قرابة القرن أمام مرأى الجميع كالشمس في رابعة النهار ثم كوِّرت مع بداية الدولة الوهابية وفي ذكرى الهدم الأليم للبقيع المقدّس قبل ستة وتسعين عامًا، نقف لنتسائل؛ هل كانت هذه العملية الإجرامية ضمن مخطط مدروس للفرقة الوهابية ومسبق...
كانت محط الرحال والآمال..
يجمع المرء ماله ليصبح مستطيعًا ثم يمخر البحار أو يقطع الفيافي قاصدًا الله ورسوله ومهابط الوحي..
أم القرى وطيبة وما حولهما، كل شبر فيهما وكل ركن في زواياهما يتخيل الزائر أفواج الملائكة والرسل تترا..
نعم كانوا هنا حيث أقف أنا اليوم وَيَا لعذوبة الشعور والمشاعر..
صورة إيمانية روحانية تمزّقت وتهدّمت ثم تحوّلت إلى كتلة إسمنتية خرسانية كأنها لبلدٍ سياحي يضج بالرأسمالية والقشور.. جسد بلا روح له خوار..اَي فندق تُرى سأسكن وكيف ستنتهي رحلة الحج والزيارة دون تعب..
روحانية اندثرت مع اندثار التراث والآثار الإلهية.. وجميل أن نرى الكعبة مكانها رغم محاولات محو المستجار!
أما البقيع فقد ُطمس وما عاد يُفرّق بين قبر وآخر إلا بالتواصي أو الخرائط كبحّار يتبع النجوم ليعثر على الهدى في ظلمات الكون..
كانت النجوم في مقبرة البقيع قبل قرابة القرن أمام مرأى الجميع كالشمس في رابعة النهار ثم كوِّرت مع بداية الدولة الوهابية.. وفي ذكرى الهدم الأليم للبقيع المقدّس قبل ستة وتسعين عامًا، نقف لـ نتسائل؛ هل كانت هذه العملية الإجرامية ضمن مخطط مدروس للفرقة الوهابية ومسبق قد دُبِّر بتزامنٍ مع خطة إنشاء دولتها أم بشكلٍ عفوي دون تخطيط مسبق؟
من خلال المعطيات والشواهد الموجودة يتبين بوضوح أن أساس قيام الدولة الوهابية كان قد بُني على أنقاض البقيع وبقايا سائر الآثار التي هُدمت في مكة والمدينة، وعملية الهدم كانت الهدف الرئيسي من وراء إنشاء الدولة والهدم أيضا هو الغطاء الديني لقيامها هكذا، فـ أصحاب الدولة بـ الإضافة إلى أطماعهم المادية من خلال الاستيلاء على نفائس العتبات المقدّسة - كما تمت الإشارة إليه في مقالٍ سابق-، كانوا يتسمون بالجهل والعقلية البدوية التي ترى الأمور بـ عقلية قشرية ومتدنية أو هكذا أرادوا ان يُظهروا أنفسهم ليعيثوا في آثار السماء الفساد..
بيد أنه نعم وبضرس قاطع يمكن القول إن الهدف الرئيسي من وراء إنشاء الدولة الوهابية هو استهداف الآثار المادية والروحية المرتبطة بأهل البيت النبوي الطاهر، وبـ عبارة أدق؛ استهداف الشيعة والتشيع. وفي حال كان المخطِط من دين آخر أوبلا دين فلا يخفى أنه كان يريد إشعال الفتنة في جزيرة العرب بين المسلمين فيها وطمس المعالم الدينية بسياسة مُخطط لها في كتب السّاسة لأمد بعيد.
وعودًا على بدء يُطرح هذا السؤال تُرى من ذا الذي أعطاهم الوصاية ليتدخلوا في الشؤون التعبّدية لغيرهم ويفرضوا على الناس نمط خاص من عقائدهم، والذي يعتبر نوع من "التطفل الاجتماعي حسب تعبير علم الاجتماع بل يُعد من أسوأ مظاهر التخلّف الثقافي.. حيث يظن أصحابها أنهم أوصياء على بعضهم بعضًا، أو أصحاب قوامة اجتماعية على غيرهم، فيستبيحون خصوصياتهم، ويخوضون في حياتهم الخاصة". (١)
ربما لا يوجد نص رسمي يصرِّح عن هدف القضاء على التشيع لأهل البيت وبث الفتن في المجتمع العربي والإسلامي من وراء إقامة الدولة الوهابية، ولكن الدلالات تصرخ مصرحة بهذا الأمر؛ وفي هذا الصدد يصرّح الباحث السعودي خالد الدخيل في رسالته الدكتوراة عن نشأة الدولة السعودية إن الشرك لم يكن متفشيًا في نجد قبل ظهور الحركة الوهابية ليُجعل من محاربته العامل من وراء ظهور الحركة، فـ ما الذي أوجده؟
ويرد على هذا التساؤل بسؤالٍ آخر: "في الأدبيات الوهابية كلها تقريبًا يُستخدم مصطلح الشرك بشكلٍ يغلب عليه طابع التعميم من دون توضيح للمقصود بذلك، وأي منه كان منتشرًا في نجد قبل ظهور الحركة؟"، (٢) وهذا يعني أن الحركة الوهابية لم تأتِ لفرض أي تغيير في المجتمع النجدي ذو الصبغة الحنبلية، إذن فـ من كان مخاطَبها؟.
وهنا يجيب الباحث السعودي حينما يقسِّم (الشرك) إلى نوعين: شرك يسميه (الشرك المؤسساتي)، وآخر ينعته بـ (الشرك الثقافي) ؛ "أما الأول حسب رؤيته فهو نوع من الدين الشعبي في إطار مؤسسات دينية مثل القباب التي عادة ما تُقام على قبور الأنبياء والأولياء والصالحين، أو المقامات والمزارات، وفي الغالب فإن هذا النوع مرتبط بـ مرجعية أو مرجعيات دينية وفقهية معروفة، ومثال على ذلك هوالدين القائم في النجف في العراق بـ رموزه ومؤسساته ومزاراته الدينية وبمواسمه السنوية.
أما المستوى الثاني: (الشرك الثقافي) فـ قوامه مجموعة من المعتقدات الدينية الشائعة داخل المجتمع، وهذا النوع ليس مرتبط بـ فكرة المؤسسة، وإنما يأخذ شكل الممارسة الشائعة داخل المجتمع على أساس فردي، وهو غير مرتبط بـ مرجعية دينية.. وهنا لابد من الإشارة إلى أنه حينما يرد مصطلح (الشرك) من دون تحديد فإن المقصود من ذلك هو (الشرك المؤسساتي) وليس (الشرك الثقافي)". (٣)
من خلال هذا التقسيم يبدو جليًا ان المقصود بهذا النعت هو التشيع وأتباع المدرسة الإمامية مدرسة أهل البيت، وذلك عن طريق التلاعب بـ الكلمات والمغالطة بها، فطرحت مفردة (الشرك) وهي أسهل وأعظم المفردات التي أطلقت من جماعة تَتصِف بـالجهل المركّب، حيث لا يوجد وازع أو باعث للطرح بأسلوبٍ علمي ومهذَّب.
وبناء على ذلك فإنه في مقام الرد على فِرية (الشرك) لا حاجة بنا لبذل أي جهد على من لا يميز الفرق بين من يجعل شريكًا لله، وبين من يعظِّم شعائر الله.
ويضيف الباحث: "إن المجتمع النجدي كان مجتمعًا حنبلي الهوى، ولم يكن في ثقافته اَي تيار من التيارات الإسلامية التي يمكن أن تتسع رؤاها بشكلٍ من أشكال ما يعتبر شركًا، مثل الصوفية أو أحد فرق الشيعة" (٤) وهنا بيت القصيد؛ حيث أوصلنا الباحث من هذا السرد إلى نتيجة أن الحركة الوهابية جاءت خصيصًا لاستهداف التشيع كخلاصة في لحن القول.. وكل المفردات والعناوين البرّاقة وغير البرّاقة كـ الإصلاح والتوحيد وما شابه ذلك ليست إلا تمهيدًا لشنّ الحرب على أتباع المدرسة النبوية والعلوية، وبما أن المجتمع النجدي لم يكن ليعظِّم شعائر الله فكان لابد من التوجه إلى عاصمة التراث النبوي والتشيع في الجزيرة العربية وهي المدينة المنورة لتنفيذ جريمة العصر المتمثل في هدم البقيع المقدّس.
ومن خلال الوثائق التأريخية يتجلّى بوضوح ان صبغة المدينة المنورة كانت صبغة شيعية إمامية. وفي هذا الصدد يقول الرحالة والمستشرق الألماني "هيرمان بورخارت عن مشاهداته في المدينة: "إن أكثرية سكّان المدينة هم من الغرباء الذين تجذبهم قدسية البلد إليها من جميع أنحاء العالم الإسلامي، وعلى هذا فهناك فيها جاليات من كل بلد إسلامي تقريبًا.. أما السكّان الأصليون فهم من نسل الأنصار الذين كانوا يسكنون المدينة عندما هاجر نبي الإسلام إليها سنة ٦٢٢ للميلاد.. ومعروف أن بقايا الأنصار القدماء هم من الشيعة.. كما أن قبيلة كبيرة من الشرفاء الحسينية يسكنون المدينة وهم المنحدرون من نسل الحسين حفيد الرسول.. وتعيش في البادية من جهة الشرق قبيلة بدوية بكاملها يسمى أفرادها "بني علي"، وهؤلاء كلهم من الشيعة.. أما العرب الفلاحين والذين يسمون "النخاولة" وهم الذين كانوا يفلحون في بساتين الإمام الحسن فهم من الشيعة أيضًا.. ولذلك فإنهم قاوموا الوهابيين حينما احتلوا المدينة مقاومةً عنيفة.. ". (٥)
وبعد أن استولى الوهابيون على مدينة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله كانت لا تزال الصبغة والثقافة الشيعية بارزة في وعيها وحضارتها، وفي هذا الصدد يقول الرحالة رتر: "حينما كان المزوِّر – وهو المرشد الذي يصاحب الزوار في الحرم النبوي الشريف- يقرأ الزيارة، وقبل أن يبدأ في قراءتها، يخبر الزائر همسًا بأنه سيزور القبر المقدّس على طريقة المسلمين الذين يحبّون رسول الله، فعلمت أنه يجازف في هذه الزيارة لأنه ربما يتعرّض للإهانة والعنف من الوهابيين الذين استولوا على المدينة مؤخرًا". (٦)
وأما من الناحية العلمية والنخبوية فكانت لـ مدينة النبي الكريم صلى الله عليه وآله مدرسة كبرى لتخريج العلماء والفقهاء وفقًا للمدرسة الشيعية الإمامية وذلك بسبب إقامة جميع أئمة أهل البيت عليهم السلام فيها، ما عدا من اضطر منهم للخروج بسبب النفي وإجبار السلطات، وقد كانت حتى العهد القريب تحوي المدارس والمكتبات الغنية بـ تراث أهل البيت عليهم السلام، إلا أنها أُحرقت في أوائل العهد السعودي. (٧)
وقد توسعت المدرسة الإمامية في نفوذها لتنتشر في سائر مناطق الجزيرة العربية من تلك الحاضرة المقدّسة، فأصبحت منطقة الهجر والأحساء بـ مدنها المعروفة؛ الهفوف والمبرز والعمران والعيون، وكذلك شرق الجزيرة العربية المعروفة بـ القطيف وأهم مدنها صفوى والعوامية والأوجام والقديح. وقد تخرّج من مدنها وقُراها عدد كبير من أعلام الإمامية ممن كان لهم الدور والأثر الكبير في الحركة العلمية، وكان أبناء المذهب من جميع المناطق يرجعون إليهم في الفتاوي والأحكام، وذلك قبل انتقال المرجعية إلى العراق وإيران. (٨)
من هنا وبناءًا على ما سبق ؛ فإن مدينة النبي العظيم صلّى الله عليه وآله، كانت ولا تزال حضارة دينية إسلامية علوية إمامية، وما التدمير الإجرامي لمقبرة البقيع الذي تمّ في الثامن من شوال لعام ١٣٤٤ هـ إلا لاغتصاب هذه الأرض المقدّسة من يد الأمة وطمس مهابط الوحي فيها وحجب دلالاتها واشعاعاتها عن العالم الإسلامي والإنسانية، لكن هذه المقدسات ستبنى يومًا وتعود إلى أمتها ورمزيتها وحضارتها بنهاية صحوة الإرهاب والإبادة والأحادية، وإن رُكبت أعجاز الإبل وإن طال السُرى..
اضف تعليق