فرضت الحاجة الى التطوير كضرورة بشرية معاصرة الحاجة الى منح الثقافة أولوية قصوى في البناء الانساني والمجتمع ثم الدولة، وأن الدولة في مسؤوليتها عن هذا البناء باعتبارها آلية حديثة في البناء الاقتصادي والاجتماعي في المجتمعات الحديثة لابد أن تضع تلك الأولوية على قائمة اهتماماتها وبرامجها...
لقد مرت الثقافة في تاريخها المعرفي والفكري بتطورات مهمة أثرت حقلها الذاتي والدلالي، وكانت هذه التطورات عبارة عن تراكمات في المعرفة وتطور أيضا في وسائل المعرفة ومصادرها، التي بدت هي الأخرى في حالة من التراكم المستمر في استحداث وابتكار هذه الوسائل أو المنهجيات العلمية التي يتكرر انتاجها بشكل متواصل.
لقد أصبحت مناهج التفكير العلمي مسؤولة الى حد كبير عن تطوير الفكر الانساني وتجاوزه طبعت المنهج كآلية في اكتشافات المعرفة الى المشاركة في انتاج المعرفة مما سمح بثراء معرفي هائل ونوعي أفاد بمحصلته كل وسائل التطور والتقدم في الحياة البشرية.
وبالقدر الذي انتجت تطورات الفكر هذه المعرفة البشرية المتراكمة واخذت هذه المعرفة عنوانها الأخير في الثقافة، فان هذه الثقافة بدورها كانت قد أنتجت مفعوم التطور الذي أخذ بعدا أوليا واستثنائيا في حركة الحضارة الحديثة، وقد كشفت تجربة هذه الحضارة عن العلاقة الجدلية بين الثقافة والتطور، وأن الخط الذي اقترحته هذه الحضارة واشتغلت عليه بقوة في التطوير الذاتي لها عبر العقل العلمي والمنهج العلمي كشفت عن ذلك الدور المتبادل بين الثقافة والتطور وأن التطور رهين ثقافي بدرجة أولى، وعلى أساس هذه العلاقة الجدلية فإن التطور يبقى يمتح في أصوله وحركته من عين الثقافة، وهنا يتحول التطوير الى انتاج ذاتي للثقافة.
من هنا فرضت الحاجة الى التطوير كضرورة بشرية معاصرة الحاجة الى منح الثقافة أولوية قصوى في البناء الانساني والمجتمع ثم الدولة، وأن الدولة في مسؤوليتها عن هذا البناء باعتبارها آلية حديثة في البناء الاقتصادي والاجتماعي في المجتمعات الحديثة لابد أن تضع تلك الأولوية على قائمة اهتماماتها وبرامجها السياسية والادارية، وتسعى الى نشر الثقافة في مجتمعاتها والتعبير عنها كضمانة في ديمومة هذه المجتمعات وترسيخ علاقتها وفق مفهوم المواطنة مع الدولة، وهو ما يمنح الدولة قدرة أكثر على الديمومة والأداء وفتح آفاق التطوير امامها الذي يعد بالنسبة للدولة خيارا وشرطا في ديمومتها وبقائها.
فالدولة في عملية البناء يجب أن تركز على بناء الوعي وتوسيع مدركاته الثقافية وهي تمارس بناءها الاقتصادي والاجتماعي لذاتها، فالوعي هو الخطوة الأكيدة نحو بناء الدولة الحديثة وتحويل هذا الوعي الى ثقافة مجتمعية عبر التشديد على وسائل النشر الثقافي وترويض الذات الاجتماعية بشكل ذاتي في الاستجابة الى المتطلب الثقافي بعيدا عن وسائل الاكراه والقسر في التوجيه الثقافي والفكري أو ما يعرف في الأنظمة الدكتاتورية بالتوجيه السياسي، وبعيدا ايضا عن وسائل التزييف في نشر ثقافة غير علمية وغير رصينة فكريا وهو ما كانت تصنعه الأنظمة الدكتاتورية وبذلك حرمت شعوبها من حق المعرفة العلمية وألغت ضرورة الوعي كمطلب انساني حديث.
ان ما يعزز من وسائل النشر الثقافي العلمي هو ضمانات الحرية التي كفلتها الدساتير الحديثة أو النظم السياسية في الدولة الحديثة باعتبار الثقافة هوية في الرأي وخصوصية في التفكير وهو ما يشكل هويتها الانسانية الحديثة فالمثقف يتمثل هويته الانسانية في آرائه وأفكاره الثقافية.
لكننا نحذر من الهيمنة الكاملة للدولة في بناء الذات الثقافية وبناء الانسان – الفرد المثقف لا سيما ونحن لازلنا تحت وطأة ذاكرة الدولة القديمة ونظمها الاستبدادية ذات الطبيعة الثقافية الأحادية والتصورات الانغلاقية، من هنا نحيل جزءا أساسيا ومهما ومسؤولا بدرجة قصوى الى ادارة المجتمع الذاتية في البناء الثقافي وترويض مسيرته نحو بناء انساني للذات الاجتماعية.
لكن مجتمعنا وهو يعيش شرنقة العالم القديم مازالت تشكل الثقافة بالنسبة اليه قلق حضاري وأزمة تعبر عن ارتباك مسارات اللقاء بالعالم الحديث مما يدع المجالات المتاحة امام خياراته في الثقافة تفتقر الى الاقناع والى الايمان بالنتاج الثقافي الحديث، وهو ما يؤدي الى الفقر في التمييز الدقيق والتوظيف العقلاني الناجح للمهام الثقافية.
وهنا تبدأ مسؤولية ودور النخب الفكرية والعلمية وقدرة الوسط الثقافي على تبني هذه المسؤولية منوطة باعتبارات أولية منها:
أولا: ضرورة سعة الافق الفكري والمعرفي للنخب المثقفة وتطلعاتها نحو أحدث نتاجات الفكر البشري، وهو يظل دائما في طور التكوين لان نتاجات الفكر تتكون باستمرار بينما يحول الأفق الضيق في الفهم الثقافي دون انفتاحات متكررة على هذه النتاجات التي تؤكد أن الانفتاحات على الثقافة وامكانية التطوير فيها تشترط التكرار في هذا الانفتاحات.
ثانيا: في حالة مجتمعنا ضرورة التخلص من الآثار الايديولوجية والسياسية على المنحى المعرفي والثقافي بالنسبة لهذه النخب والموروثة عن حقب أو عصر الأيديولوجيات والتي كانت قد مرت بها نخبنا ومفكرينا وأفرزت الانحيازات السليبة للأيديولوجيات على حساب الموضوعية والعلمية، وكانت مسؤولة الى حد كبير عن التخلف المعرفي والثقافي الذي مرت به ولازالت تعيشه مجتمعاتنا.
ثالثا: أهمية الخوض في المجالات الثقافية والمعرفية والدخول في عوالمها بالنسبة لهذه النخب هو لغرض المعرفة والتثقيف الذاتي العلمي، والموضوعية في وجهة هذه المعرفة وادائها واقصاء كل غاية قبلية في تبني المعرفة والثقافة موضوعا ومجالا مخصصا للعمل الفكري والثقافي.
وعلينا أن ندرك ان البناء الذي تتوخاه الثقافة أو تهدف اليه انما يحدث بشكل ذاتي وتلقائي بفعل التطوير المعرفي والثقافي الذي تنهجه النخب المثقفة في تطوير قدراتها الذاتية المعرفية والثقافية.
وأخيرا فإن الكلمة لها دور السلطة في توجيه البناء الثقافي والاجتماعي اذا توفرت الاعتبارات الثلاثة المتقدمة وهي تشكل أسس تطوير الثقافة في مجتمعنا ودولتنا.
اضف تعليق