q
لا يمكن للعراق العيش في الحاضر او التفكير في المستقبل، فالسياسة هنا بطيئة حد الموت، انها ممارسة لا تقوم على الأفعال الخلاقة بقدر ما تعتمد على رد الفعل، وفي العادة يكون ردا متاخرا، في السياسة تكون القيمة للحظة الراهنة، فالقائد الحقيقي هو الذي يجيد فن اقتناص الفرص...

لا يمكن للعراق العيش في الحاضر او التفكير في المستقبل، فالسياسة هنا بطيئة حد الموت، انها ممارسة لا تقوم على الأفعال الخلاقة بقدر ما تعتمد على رد الفعل، وفي العادة يكون ردا متاخرا.

في السياسة تكون القيمة للحظة الراهنة، فالقائد الحقيقي هو الذي يجيد فن اقتناص الفرص، اما من يعيش عقد التاريخ فلا عزاء له سوى ان يكون ضمن قائمة الدول المتاخرة التي تصارع من اجل البقاء على قيد الحياة.

بعد سقوط ديكتاتورية صدام، جاءت أحزاب المعارضة ذات الصبغتين الإسلامية والعلمانية، ووضعت اللبنات الأولى للنظام السياسي الجديد بتوجيهات مباشرة وغير مباشرة من الإدارة الامريكية ممثلة بالحاكم المدني بول بريمر، في تلك الفترة وما اعقبها عاشت الطبقة الحاكمة الجديدة بعقدة الماضي، ومارست عملها وكانها لا تزال في المعارضة، ولم تشعر انها تقود الدولة، لذلك سحبت معها اسلوبها القائم على النضال والانتقاد للأوضاع القائمة حتى وهي على رأس هرم السلطة، دون ان تقدم أي حلول حقيقية للمشكلات التي نجمت عن التغيرات في الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي للبلد.

نظرية الحاكم المعارض

تسببت عقلية المعارضة، وبروز ما يمكن ان نسميه "الحاكم المعارض" بضياع فرصة تاريخية للعراق يمكنه من خلالها بناء نموذج دولة عصرية في منطقة شديدة التخلف ومليئة بالصراعات الدموية، والأخطر من ضياع الفرصة، هو تحولها الى نكبة كبيرة سحبت المجتمع العراقي الى حرب طائفية، تبعها نظام محاصصة وتقاسم للنفوذ بين الأحزاب الحاكمة المعارضة.

نعم انها الأحزاب الحاكمة، وهي الأحزاب المعارضة في نفس الوقت، والتناقض في أسلوب الحكم لا ينتج نظاما بقدر ما يحول الواقع السياسي والمجتمعي الى ساحة صراع، وبالفعل كانت الحرب والخلافات هي القانون الرسمي منذ عام 2003 وحتى 2017، وما بين طائفية، الى حرب بين الحكومة المركزية وإقليم كردستان الى حرب داعش ضاعت فرص يمكن ان تبني عراقا مختلفا.

انتهت الحرب على داعش التي كانت تمثل اقصى درجات التخبط والانهيار، وفيه انكشف ضعف نظرية "الحاكم المعارض" الذي يعيش الماضي وينسى الحاضر، وبدا ان عهدا جديدا سوف يبدأ، عهد يختلف عن سابقه، وباتت الفترة المحصورة بين 2003 و2017 حقبة تاريخية كاملة تشهد على سنوات ضائعة من تاريخ العراق نتيجة اعتماد نظرية "الحاكم المعارض".

استجداء الجيران

في العهد الجديد لم تعد الطائفية مفيدة، ولم تعد أبواب دول الجوار موصدة بوجه السياسي العراقي، فالكعبة المشرفة، والتي كانت يوما ما منبرا لتكفير اكبر طائفة دينية في العراق، عاد قادة هذه الطائفة معززين مكرمين يطوفون البيت العتيق بكل احترام واجلال، وتلفزيونات المملكة السعودية لا يسمح لها اليوم بحديث سلبي عن العراق، اما في قطر صاحبة امبراطورية الجزيرة الإعلامية فاتخذت نفس طريق شقيقتها السعودية، وتوجهت صوب العراق طالبة بناء علاقات جديدة.

الحكومات العراقية المتعاقبة التي حكمت بعد عام 2003 كانت تقود البلاد بأسلوب المعارضة، وفي نفسها رغبة للحصول على تاييد إقليمي وعربي، لكن ذلك لم يحصل لاخطاء داخلية، وأسباب طائفية من دول عربية، الا ان هذه المعادلة تغيرت الان والدول العربية بحاجة لبناء علاقات مع بغداد، فقطر محاصرة من جيرانها، وتعتبر العراق افضل طريق يربطها بحليفتها الاستراتيجية تركيا، وبالفعل تعمل الدوحة على اكبر مشروع ترانزيت بين تركيا وقطر يمر عبر العراق.

اما السعودية، فرغم ما يبدو عليها من قوة سياسية واقتصادية، الا انها في الواقع محاصرة عالمية، وباتت دولة غير مرغوب فيها، بعد حادثة قتل الصحفي جمال خاشقجي، والحرب على اليمن التي تسبب بمجاعة كبرى وجرائم حرب لم يسبق لها مثيل في المنطقة.  

ايران فهي الدولة الأولى التي شعرت بقيمة العراق كدولة تمثل منفذا ومنقذا للدول المحاصرة، وبدأت منذ عام 2003 بفتح أبوابها على الأراضي العراقي، ووسعت نفوذها، لكنها استغلت ذلك بذكاء، ولم تستجدي يوما بناء علاقات مع بغداد، انما جاءت من موقع القوة رغم ما تعانيه من ضعف وعزلة بسبب العقوبات الامريكية، وتعززت فكرة الفضل الإيراني على السياسي العراقي، ولا تزال تتدحرج وتكبر حتى بات من الصعب اقناع شخصية سياسية عراقية بأهمية التعامل مع ايران وفق معايير العلاقات الدولية، لا معايير صاحب الأفضلية.

فرصة اخيرة

العقلية التي حكمت بعقد الماضي، وعاشت المعارضة رغم تسلمها الحكم انتجت لنا خرابا استمر لسنوات، وعلاقات متوترة مع الخارج، ويبدو ان ذات العقلية مستمرة بالماضي، فهي لا تفهم التغيرات الجديدة في المنطقة، ولا تعرف ان جيران العراق هم بحاجة اليه اكثر من حاجته اليهم، قطر والسعودية وايران دول محاصرة، والعراق طوق نجاتهم، وهو الدولة الديمقراطية التي لا تخشى من التغيرات الإقليمية.

الحكومة العراقية اليوم امام فرصة تاريخية قد لا تتكرر طوال القرن الحالي، فجميع جيران العراق يخطبون وده، ويقدمون له شيكات موقعة على بياض وهو الذي يكتب شروطة ان أراد ذلك، دول مثل السعودية وايران، وما بينهما قطر صاحبة اعلى دخل فردي في العالم، كلها تريد فتح افاق جديدة لعلاقاتها.

على الحكومة العراقية ان لا تذهب الى تلك الدول وهي تقدم خطب الشكر لان دولة ما فتحت سفارتها، او استثمرت مشروعا اقتصاديا، انما المطلوب هو فرض شروط جديدة، فمثلما استغلت ايران ضعف نظام صدام واخذت جزءا من شط العرب في اتفاقية الجزائر علينا الان ان نجدد الاتفاقية انما نعدل شروطها، بينما حدث العكس خلال زيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني.

ومثلما تركت السعودية وقطر العراق وحيدا في محنته خلال سنوات ما بعد سقوط ديكتاتورية صدام، على بغداد ان تدرك جيدا ان التودد السعودي والقطري يأتي في اطار مصالحهم هم، لا على أساس الرغبات الأخوية والشخصية، فالعلاقات بين الدول تبنى على أساس المصالح، وليس النيات الحسنة.

من خلال متابعة نشاط وفود الحكومة العراقية نرى انها لا تزال تعيش أوضاع 2006 حينما كانت حكومة المالكي تحلم بزيارة وفد عربي الى بغداد، لكن الوضع قد تغير اليوم، والدول تغيرت، وعلى بغداد ان لا تعيش الماضي، وعليها ان تتفاعل مع الحاضر لعل ذلك ينفع للمستقبل.

اضف تعليق