من علمانية تحترم مقدسات شعبها وتراثه، إلى سلفية تهدم التراث عمدًا تحت شعارات عائمة تهدف لطمس حضارة دينها فضلًا عن مقدساته! هل حريق نوتردام سيوقظ عقولًا من سُباتها علّها تفهم أن ما قامت به كان جرمًا فظيعًا بحق الإنسانية والدين، هل سيفهم الشعب (السعودي) خطأ...
عالم مليء بالعجائب هذا الذي نعيشه..
من علمانية تحترم مقدسات شعبها وتراثه، إلى سلفية تهدم التراث عمدًا تحت شعارات عائمة تهدف لطمس حضارة دينها فضلًا عن مقدساته!
هل حريق نوتردام سيوقظ عقولًا من سُباتها علّها تفهم أن ما قامت به كان جرمًا فظيعًا بحق الإنسانية والدين، هل سيفهم الشعب (السعودي) خطأ أسلافه وينفتح من جديد لتقبل حضارته وتراث الإنسانية الذي بعهدته؟
حينما اندلع الحريق الهائل في كاتدرائية نوتردام الشهيرة في قلب العاصمة الفرنسية باريس ليلة الخامس عشر من أبريل ٢٠١٩م، وصل لهيب نيرانها إلى وكالات الأنباء قبل سائر أجزاء الكنيسة ليعرب العالم أجمع عن مدى حزنه وأسفه، واستعداده للتبرع لإعادة البناء من جديد..
لقد هزّ حادث الكنيسة التراثية العالم كأي حادث وقع ضحاياه العشرات أو ربما المئات؛ ورغم أن الحريق كان عرضيًا وليس مفتعلًا لكنه أدى إلى حزن وأسف جميع المهتمين بالتراث الإنساني من مختلف الشرائح والنحل، وكافة القوميات والملل، إذ قد يبدو ظاهرًا أنه مكان خاص بطائفة دينية محددة لكنه واقعًا تراثٌ عالمي تكمن أهميته فيما يحمله من معانٍ تجسّدت في مبناه العريق..
الدولة الفرنسية المتشددة في العلمانية كانت ولا تزال تبذل كل ما بوسعها لمعاداة الرموز الدينية وإبعادها عن الحياة العامة، لكنها بذلت جهدها في الحفاظ على المبنى، ليس بسبب كونه مركزًا لجذب السائحين فحسب ولكن لأهميته الدينية والثقافية أيضًا..
من جانب آخر.. الإعلام السعودي الرسمي لم يقتصر على تغطية الحدث، بل وأبدى أسفه على ذلك؛ إذ خصصت قناة العربية برنامجًا تحت عنوان: (جولة افتراضية للتعرف على كاتدرائية نوتردام)ن عرضت من خلاله تاريخ المبنى وخصائصه وما جرى عليه من أحداث تأريخية منذ نشوئه في عام ١١٦٣ م. (١) أما أحد كُتّاب موقع العربية نت (وسام كيروز) فقد كتب مقالًا تحت عنوان (قلب فرنسا المحترق في نوتردام) على صفحة الموقع قال فيها: "كاتدرائية نوتردام ليست كنيسة تاريخية عادية، بل هي نقطة تلاق قد تكون فريدة بين الجمال والتاريخ والدين والأدب".
وعبّر عن أمله في ترميم الدمار الذي لحق بها.
وأضاف: "نوتردام هي مكان واحد ترمز إلى البحث الديني، وتشهد على البحث عن طريق آخر..
هي رمز لتسليم الدين، وتمرّد الأدب في الوقت ذاته... وأيضا هي الدليل في فرنسا المُوغلة في العلمانية حتى الإلحاد، على المكانة التي لا يمكن تجاوزها للدين في حياة الشعوب.. فرنسا التي ترفع شعار العلمانية، تُقيم مراسم جنازة رؤسائها في كاتدرائية نوتردام، في آخر طقوس الارتباط بين الجمهورية والكنيسة." (٢)
ومن جهة أخرى حلّق طاقم قناة العربية بالمروحية على البرج بعد يوم من انهياره عارضًا هذا العنوان التراجيدي: ( شاهد من الجو.. لقطات محزنة لنوتردام في باريس).(٣)
وعلى الصعيد الثقافي كتب الروائي والكاتب السعودي (تركي الحمد) تغريدة في صفحته على التويتر قال فيها: "وأنا أتابع حريق كاتدرائية نوتردام في باريس، تخيلت (كوازيمودو)، و(أزميرالدا)، بطلي رواية (أحدب نوتردام)، لـ (فيكتور هوغو)، والنار تشويهما في ذلك البرج، فيعتصرني الألم. كاتدرائية نوتردام ليست مجرد كنيسة، بل هي جزء من التراث الثقافي الفرنسي والعالمي، فحق لنا أن نحزن لاحتراقها..".(٤)
هذا ناهيك عن التصريح الحكومي الرسمي الصادر عن وزارة الخارجية السعودية حيث أعرب مصدر مسؤول عن "تضامن المملكة مع فرنسا والشعب الفرنسي الصديق إثر الحريق الهائل".(٥)
هذه عيّنات عشوائية من الإعلام الرسمي وكذلك بعض ما يجري من مواقف في أروقة المثقفين داخل المملكة العربية السعودية إضافة إلى التصريح الحكومي الرسمي حول الحريق الفرنسي المؤسف.
بالمقابل هنالك معْلَم آخر كان ولا يزال داخل الجزيرة العربية يتصف بصفة دينية وحضارية وتراثية إنسانية هُدم بـ فعل فاعل بشري متعمَّد وبخطة مسبقة في عام ١٩٢٥م ولا يزال مهدومًا، ألا وهوالبقيع المقدس، وذلك إضافة إلى معالم أثرية ودينية أخرى في منطقة الحجاز. ومع أنه لا مقارنة بين الموضعين؛ لما تحمله الآثار الحجازية من قدسية مميزة لكن من باب إلزامهم بما ألزموا به أنفسهم، لابد من تذكير السعودية أولًا ثم العالم ثانيًا؛ بالجانب الأثري والثقافي في الحجاز. فـ لو أردنا أن نقارن بين البقيع والكنيسة من جانب تراثي وتاريخي بحت بِغض الطرف عن الجانب الديني فالبقيع أعرق وأقدم من المبنى الكاتردائي؛ ذلك لأنه بني عام ٤٨٨ للهجرة أي عام ١٠٩٤ ميلادي وذلك بأمر من الوزير السلجوقي مجد الملك أبو الفضل أسعد بن محمد بن موسى الماردستاني القمّي، (٦) وكان المبنى عبارة عن معلم أثري للفن المعماري العربي والإسلامي، وقد شهد تطورات عدة خلال العهد العباسي والسلجوقي حتى العهد العثماني وكان للسلطانين عبد الحميد ومحمود العثمانيان فضل كبير في الترميم وتطوير البناء، (٧) وكل التغييرات كانت تصور سير تطور الفن خلال الحقب المختلفة، ناهيك عمّا تحمله من رموز ومعانٍ ثقافية ودينية لشرائح واسعة.
وبالنسبة للجانب التراثي للبقيع فقد أبرز المستشرقون والسواح من النحل الأخرى الجانب التراثي حينما زاروا المدينة عام ١٩٢٥ م بعد عملية الهدم بقليل مثلا؛ قال أحدهم وهو ايلدون روتر (Eldon Rutter): "حينما دخلت إلى البقيع وجدت منظره كأنّه منظر بلدة قد خُربت عن آخرها.. وقد شاهدت رجلًا مسنًا والدموع تنحدر من عينيه.. وقد كانت هناك بين أيدينا على الأرض قطعة من الخشب يظهر أنّها مقلوعة من صندوق خشبي كان موضوعًا على أحد القبور، فعلمت أنّه كان يبكي على هذه القطع من الأخشاب التي كانت من بقية الصناديق التي توضع على قبور المسلمين سابقًا"(٨).
رغم أن الرجل لم يبكِ لقطعة خشب أو صندوق (ضريح)، وإنما كان يبكي على انتهاك حرمة المكان وقدسيته لكن النظرة التراثية غطت على الجانب الديني عند هذا السائح، مما يدل على أن الشيخ والسائح حملا من الهم والحزن الكثير..
أحدهما من زاويةٍ تراثية والآخر من زاويةٍ دينية.
والقاسم المشترك بينهما ان البنيان كان رمزًا لمعانٍ مختلفة، فهو نصب ثقافي وديني له حرمته ومكانته التاريخية للإنسانية جمعاء..
وعودا إلى بدء؛ إلى الكيل بمكيالين في الموقف السعودي الحزين تجاه حريق نوتردام والميت تجاه هدم الآثار في الحجاز، (هنا لا أريد أن أقول أن اليد السعودية هي المنفِّذة والفاعلة لجريمة الهدم، ذلك لأني أخاطب الجيل الحاضر الذي قد لا تكون له علاقة بما فعل آباءه من قبل)، كما لا أصف هذه الحالة أنها نابعة عن (ازدواجية أو تناقض)، وإنما أضع نظارات المثالية والتفاؤل وأقول: إن الموقف الحزين على نوتردام نابع من تطور فكري تعهده السعودية اليوم.
وأنا إذ أقارن بين الكاتدرائية والبقيع؛ أريد لشرارة الشعلة التي التهبت في قلب باريس أن توقظ السعودية من سُباتها العميق لتتقد باتجاه احترام الأديان والتراث ولتمحو عار الهدم بفعل فاعل بداية قيام حكومتها. ولعل حريق نوتردام ينبّه العالم أجمع للمطالبة بحقوق الإنسانية جمعاء في البقيع الغرقد. إذ أنه ليس مختصًا بطائفة دون أخرى، إذ يتجلى كالشمس أن كلّ ما قيل بحق نوتردام ينطبق على الآثار الحجازية من جمال وتاريخ ودين وأدب، بل والحجاز هو الأعرق والأعمق والأجمل والأكبر والأهم؛ لما قد حوى من قباب بيضاء وخضراء ومنارات شامخة بهندسة دقيقة عريقة وزخارف منمقة، بمشاركة حضارات مختلفة تشمل العرب والأتراك والهنود والفرس، وقد وضعت كل حضارة منها لمساتها الفنية والحضارية، ومن ناحية الأدب والشعر فالحجاز كان ولا يزال محل وصف الشعراء منذ القرن الهجري الأول.. فلماذا اللوعة والأسى تجاه الأول، والصمت المطبق تجاه الآخر؟!
البقيع هُدم قبل قرن وينبغي الإفصاح عمّا جرى عليه للأجيال الجديدة لدى المنابر الرسمية والثقافية في السعودية التي (تحضّرت) وصار بإمكانها ظاهرًا أن تستوعب الاختلاف، إنها دعوة إن لُبِّيت ستعود فائدتها للسعودية قبل غيرها؛ إن أرادت أن تحسّن من صورتها في العالم وتُكفِّر عن ماضيها وتطوي صفحات الظلام بفتح صفحة جديدة وبداية عهد جديد، وإن أبت فستسقط الأقنعة ويتضح للعالم أن هنالك عنادًا وعداءًا للبيت النبوي الطاهر فكيف تدعي الإسلام!.. إذ ان فرنسا العلمانية لم تقصر في حفظ وترميم رمز ديني!
ومع أن كاتب "العربية نت" يقرّ ان مبادئ الدولة الفرنسية تختلف عن المبادئ الدينية الكنسية إلا أنه يشيد بالموقف الرسمي حينما يرى أن " فرنسا التي ترفع شعار العلمانية، تُقيم مراسم جنازة رؤسائها في كاتدرائية نوتردام".
فلماذا لا يكون ذلك عند السعودية؟
فإن لم تكن معتقدة بحفظ المقدسات فلتحذو حذو(فيكتور هوجو) حسب تعبير أحد كتّاب صحيفة الشرق الأوسط: "إن فيكتور هوجو.. ذهب في عشقه لهذا المعلم الديني لا من باب التدين، بل من زاوية الفن ومن باب حفظ التراث..". (٩)
ترى.. وأي عذر يبقى للمثقفين ممن يرثون نوتردام ويغضون الطرف عن الكارثة الثقافية والحضارية الكبرى في الحجاز، غير أن تُنعت ثقافتهم بالثقافة المُسيسة والتابعة..
عليه.. حرٌي بكلا الفئتين: الرسمية والمثقفة أن تتدارك ما يُمكنها تداركه من تناقضات صارخة وذلك حفاظًا على مصداقيتها.
......................................
اضف تعليق