التاسع من شهر نيسان ليس تاريخا عاديا، انه نهاية وبداية، النهاية تمثلت بموت أبشع ديكتاتورية عرفها العراق طوال القرن العشرين، ولان الحياة لا فراغ فيها، فان من جاء بعد البعث قد نقش رايته بعبارات مغايرة عما كان عليه الوضع سابقا، تاريخ حزب البعث مليء بالتناقضات...
التاسع من شهر نيسان ليس تاريخا عاديا، انه نهاية وبداية، النهاية تمثلت بموت أبشع ديكتاتورية عرفها العراق طوال القرن العشرين، ولان الحياة لا فراغ فيها، فان من جاء بعد البعث قد نقش رايته بعبارات مغايرة عما كان عليه الوضع سابقا.
تاريخ حزب البعث مليء بالتناقضات، حزب قومي بلا قومية، اختل ميزان القوى بين شقيه العراقي والسوري، فكان الصراع سيد الموقف حتى اخر لحظة من حياة الجناح العراقي على يد القوات الامريكية حينما سحبت تمثال القائد الضرورة صدام حسين.
قومية البعث نفسها جعلت من الكويت ساحة لتجاربه وطموحات زعيمه صدام، ذهب الى هناك بجيشه زاعما ان الكويت محافظة عراقية، فالقومية العربية يقول عنها منظر البعث ميشيل عفلق بانها "بديهية خالدة"، هي نفسها التي دفعت البعث لغزو الكويت.
التجارب القومية البعثية تعني تحويل حياة الناس الى ما يشبه معسكر الحرب، وكل شيء مسموح به، من اجل تحقيق الأهداف الكبيرة، فهناك فكرة أساسية تقول: ان كل شيء مرجح ومؤجل. فالحرية، والدولة، والاشتراكية، اهداف مشروعة.. يعلق الدكتور علي حاكم صالح على هذه الجزئية بالقول: ان شعار الوحدة انتشر في جميع مفاصل الايدلوجيا القومية، سواء كانت البعثية او غير البعثية، هذا الشعار يركز على قضايا أساسية تصب في صالح الحزب، وفي ظل هذا الوضع تحولت الحياة اليومية للناس الى امر طارئ.
ويضيف الدكتور علي حاكم صالح في كتابه "الأيديولوجيا وتمثيلاتها في الفكر العراقي الحديث" ان الميدان السياسي لايدلوجيا البعث وهو جزء من الايدلوجيا القومية، امتص كل ما عداه، وجرى تسسيس الذات والمجتمع، ولا يعني فعل التسييس الذي أوقع الذات في اسر السياسة انه يمنحها حق التفكر بالسياسة، انما يحيلها الى نقطة جوفاء ضمن خطة اشمل واوسع مدى.
فالايدلوجيا تصبح شمولية وتصبح الذات مجرد لحظة او عثرة يسهل محوها على طريق الوحدة، والنظرة الوحدوية تشيع القسوة في نفوس أصحابها، قسوة الثورة، وفي هذا الشأن يرى عفلق القسوة الثورية تفترض البطولة والتضحية، وللبطل والبطولة عند عفلق مكانة لا تعلوها مكانة أخرى، وهي احدى ركائز ايدلوجيا البعث.
فالامة فكرة، وليست عددا، وتناقص العدد ليس هو ما يعرض الامة للانقراض، بل النقص في الفكرة، وان من ينتمي الى الامة الحقيقية يجسد الفكرة، والا فان نقصانه، أي موته، ليس امرا ذا بال ما دام مجرد نقصان في العدد.
من هنا أسست ايدلوجيا البعث الى فكرة الفرد البطل، الذي يفوق الجميع قدرة وفهما وبصيرة، والفرد هنا هو الشخص الذي ينتمي لحزب البعث، هذا الحزب الذي يمثل الفكرة، اما باقي افراد المجتمع فهم لا يعنون شيئا ما داموا لا يحملون الفكرة.
وعندما فرض حزب البعث سلطته على العراق، تضخم تعبير عفلق عن حاجة البعث الى القيادة الكفوءة القادرة على تخطي اخطر المعارك القومية، وضرورة الزعيم او القائد، مو ضوع شغل التفكير الايدلوجي البعثي، وتدرجت صياغاتها من فكرة عامة الى ان انتهت أخيرا في فكرة القائد الضرورة، او القائد المفكر، ذلك القائد الذي يمثل الجميع، ولا يهم ان مات الجميع ما دام هو على قيد الحياة، فهو الذي يحمل فكر البعث ويدافع عنه.
لم يتوقف البعث عند هذا الحد، انما ذهب الى مرحلة ما بعد القائد الضرورة، ورفع مكانته فوق الجميع، وشخصنته بمقاييس طمس الجمهور، واحاطته بالغفلة، فالبلد الذي يحكمه القائد الضرورة يجب ان يكون هو البلد القائد للقومية العربية، وتزاوجت فكرة القائد بفكرة البلد القائد، وكان هذا شرطا ضروريا بحسب علي حاكم صالح.
قد يبدو ان فكرة الفرد البطل قد ماتت بعد عام 2003 حينما سقط حزب البعث، وجاء نظام ديمقراطي تعددي قائم على الانتخابات الحرة، ودستور يضمن التداول السلمي للسلطة، لكن هناك أمور اعمق من صندوق الانتخاب، انها الديكتاتوريات التي تحولت الى شضايا، فالفرد البطل لم يعد حاكم العراق الفلعي، انما هناك افراط ابطال كل له حزبه الذي يديره بدون صندوق انتخاب. وحوله الى شركة عائلية تدر عليه الأرباح المالية، والسياسية، والمكانة الاجتماعية.
في مقابل الافراد الابطال (قادة الأحزاب)، اصبح هناك الفرد البريء اللطيف، هذا هو الشخص الذي يطلق عليه اسم "رئيس الوزراء" شخص متفق عليه ويمنع على الناس انتقاده بانتظار ما في جعبته للمستقبل، وتتعزز هذه الفكرة سنة بعد أخرى، وكأن القادة الابطال أصحاب الاقطاعيات الحزبية قد اتفقوا على تقاسم النفوذ مع افراز شخص برئ يجعلونه على قمة الهرم ليكون لهم خيمة تمارس تحتها كل اشكال الديكتاتورية.
اضف تعليق