ماذا يتوجّب على الحكومة العراقية ووزاراتها ومؤسساتها كافة أن تعمل، وما هي المبادرات التي يجب أن تقوم بها لكبح الغضب الشعبي، ولجعل المواطن العراقي في مأمن من شح المياه وتلوثه وتوفير الطاقة الكهربائية؟، هناك حلول قريبة المدى أي يجب إنجازها خلال شهور، وهناك حلول بعيدة المدى...
يبحث المهتمون من كبار العقول من العراقيين في الشأن العراقي، وما ستؤول إليه الأوضاع في عموم البلد، ويتداول غالبية بسطاء الناس ما يمر به بلدهم العراق من أزمات سياسية واقتصادية وخدمية تنعكس بشدة على واقع حياتهم اليومية، ويتساءل الكثير من العارفين وغيرهم، هل سينجو المركب العراقي من الغرق وهل يوجد قباطنة ماهرون يوجّهون دفة المركب نحو مرفأ الأمان لاسيما أن عهد القبطان الأوحد في العراق قد مضى، وهؤلاء المتسائلون يركزون على الصيف القادم كأنه اللحظة الفاصلة بين تردّي أوضاع العراقيين وتحسّنها!.
لماذا الصيف القادم سيكون ساحة لاختبار قادة العراق، وهل سيكون وعاء ساخنا لاحتدام الصراع بين الشعب والحكومة؟، الإجابة عن الشقين من هذا التساؤل ممكنة، لكن من الأفضل أن يبحث قادة العراق (رؤساء الكتل والأحزاب والكابينة الوزارية)، هذين الشقّين بجدية وعدم التخفّي وراء اللامبالاة وعدم الاهتمام والتصوّر غير الواقعي للنتائج المتوقعة في حال بقيت أوضاع الخدمات (الطاقة الكهربائية) ونظافة المياه، ومعالجة أوكار الفساد، كما هي دون تغيير ملموس.
في فصول السنوات الماضية من الصيف، كان مشهد المظاهرات يتكرر بشكل آلي، وكانت الحكومات المتعاقبة قد اعتادت هذا المشهد المتكرر مما ضاعف من عنصر اللامبالاة في التعامل مع حقوق المواطنين، وانتقل النقص الخطير من إمدادات الكهرباء إلى شح الماء ومن ثم ملوحته في البصرة وتلوثه فيها وفي غيرها من المدن، وبالتزامن مع ذلك آفة الفساد منسية ولا أحد من المعنيين يلتفت إليها إلا في حدود محاسبة صغار الموظفين وهو يأتي بمثابة ذر الرماد في العيون.
في الصيف الماضي في البصرة بلغت الأمور نقطة حرجة، وخرجت المظاهرات من سلميَّتها، ما أدى إلى قتل العديد من المتظاهرين برصاص القوات الأمنية بسبب حالات العنف التي رافقتها، وزار مدينة البصرة كثيرة من المسؤولين من أعلى قمة الهرم الحكومي نزولا، وكذلك بعض المراجع الدينية واتخذوا بعض الخطوات الفعلية كتصليح مضخات المياه وتخصيص مبالغ مالية لإصلاح بعض الأنابيب وفتح بعض الترع والأنهار الصغيرة، ولكن تظل تلك الخطوات ترقيعية وليست جذرية، أو أنها وصفت بالتخديرية التي لم تفلح باقتلاع أسباب الأزمة من جذورها.
هذا التعامل الحكومي الهش مع مشكلات متراكمة ومتجذرة وخصوصا في مجالي ضعف الخدمات وانتشار الفساد في مرافق الحكومة ومؤسساتها، جعل المراقبون والمختصون يتحدثون عن عودة أخطر للمظاهرات لسبب بسيط وواضح، أن المعالجة الجذرية لأسباب الأزمة لم تتم، وما أن هدأت الاحتجاجات، وبدأت درجات الحرارة تهبط، وازدياد منسوب الأمطار واختفاء اللسان الملحي من شط العرب، وامتلاء خزانات السدود، حتى أهمل أو تناسى المسؤولين مشكلة الصيف الماضي، وظنوا أنها لا تتكرر مرة أخرى في المنوال نفسه!.
لكن في الحقيقة هذا التفكير الحكومي وتفكير الأحزاب أيضا لم يكن في محله، فأسباب الأزمات نفسها لا تزال موجودة، أي أن الصيف القادم بدرجات حرارته العالية سوف يستهلك كل المخزون المائي في ظل السياسة المائية غير الواضحة لدول الجوار تركيا وإيران، وانعدام الاتفاقيات الدولية والثنائية التي تلزم الدولتين بإطلاق حصص ثابتة متفق عليها ولا يجوز التلاعب بها لأنها تتعلق بحياة شعب كامل وأراضيه ومحاصيله الزراعية وثروته الحيوانية.
هذه البنود الخطيرة لم تتعامل معها الحكومة كما يجب، ولم تعطها الاهتمام اللازم، ربما لأنها منشغلة بأهداف أقل خطورة بكثير من مسببات الاحتجاجات في الصيف القادم، يتساءل كثيرون هل هناك فرصة لمعالجة الأمور قبل حلول الصيف القادم؟، بالطبع كان يجب على الحكومة والجهات المعنية بمختلف عناوينها ومهامها أن تبدأ بمعالجات مشكلات شح الماء وتلوثه وقلة الطاقة الكهربائية وجذّ الفساد من دوائر الحكومة وسواها، قبل هذا الوقت بكثير، أي أنها ملزمة بهكذا تعاملات منذ نهاية الصيف الماضي، على أن تكون الحلول جذرية وليست من أجل التهدئة الوقتية.
ومع ذلك باعتقادنا أن الوقت لا يزال متاحا للتحرك الحكومي السليم فيما يخص الخدمات بالدرجة الأولى، ووضع الإستراتيجية الدقيقة بعيدة وقصيرة الأمد لمعالجة ظاهرة الفساد المالي والإداري، فكما صرح مسؤولون من وزارة الكهرباء أن هناك تعاملات علمية جادة في قضية توفير الطاقة الكهربائية في موسم الصيف الملتهب، وهناك خطط تم المباشرة بها لتوفير نسبة كبيرة مما يحتاجه الموطنون من طاقة في أيام وشهور الذروة.
أما قضية الماء فالملاحظ أن وزارة الموارد المائية لا تمتلك الإمكانيات التي تجعلها قادرة على خزن مياه الأمطار الهائلة التي سقطت على العراق هذه السنة، أو تلك التي تدفقت عليه من دول الجوار، فتم هدر معظم كميات المياه وتسريبها عبر الأنهار بصورة سريعة إلى مصباتها تخلصا من مخاطرها، فيما تركيا مثلا لم تهدر قطرة واحدة وهي منشغلة اليوم في ملء سد أليسو الذي سيحرم الأراضي العراقية الخصبة والواسعة من المياه مما يجعلها ومحاصيلها عرضة للعطش والجفاف والموت.
في الخلاصة ماذا يتوجّب على الحكومة العراقية ووزاراتها ومؤسساتها كافة أن تعمل، وما هي المبادرات التي يجب أن تقوم بها لكبح الغضب الشعبي، ولجعل المواطن العراقي في مأمن من شح المياه وتلوثه وتوفير الطاقة الكهربائية؟، هناك حلول قريبة المدى أي يجب إنجازها خلال شهور، وهناك حلول بعيدة المدى، وما يهمنا الآن الحلول السريعة التي لا تخلو من رصانة وجدية، بالإضافة إلى التعامل العلمي المدروس مع الحلول بعيدة المدى.
يبدو من تصريحات بعض المسؤولين أن الخطوات المطلوبة التي تغني العراقيين عن تكرار مشهد مظاهرات الصيف الماضي قد تم اتخاذها، وأن شح المياه لن يتكرر، وهذا ما نأملهُ، كما أن وزارة الكهرباء أعلنت أنها تبذل قصارى الجهود لرفع الطاقة الكهربائية إلى أعلى مستوياتها عند الذروة، وهي استعدادات جيدة لو أنها اتخذِتْ فعلا، تبقى قضية الفساد، نأمل أيضا من مجلس مكافحة الفساد المشكَّل حديثا أن يقوم بنقلة جذرية في هذا المجال، وأن يتم اتخاذ خطوات واضحة وجدية لمحاصرة هذه الآفة التي لا تزال تهدد حاضر ومستقبل العراق.
اضف تعليق