الحضور السعودي وقبله الإيراني، والقطري، لم يأتي من فراغ، انه اعلان لاستراتيجية جديدة للدول تلك، عنوانها مواجهة دبلوماسية واقتصادية، بعيدة عن الحروب المباشرة او حروب الوكالة، ومن يملك الذكاء الأقوى في التفاوض، والأموال الأكثر سيربح الكثير في المواجهة الجديدة، وما بين تلك السجالات يبدو ان حال العراق...
أينما تولوا وجوهكم فثم ارض العراق يجب ان تصلوا عليها، وتحت سمائها، في بغداد او النجف، او أربيل، لا فرق بين هذه المدن، فكل العراق بات دولة مطلوبة في التحولات الجديدة لمنطقة الشرق الأوسط،، ايران سبقت الجميع منذ عام 2003، وقطر جاءت بعد ازمتها مع جيرانها، والسعودية أعلنت دخول الساحة بعد نهاية ملف الحرب على داعش.
البعض يقرأ هذا الحراك الإقليمي نحو العراق بانه بادرة خير تصب في صالح بغداد ويقولون ان القادم افضل، واخرون لهم رؤية مضادة ويعتقدون ان القادم اخطر، وما بين النظرة المتفائلة، وتلك المتشائمة، ثمة استراتيجية جديدة لدول المنطقة، تؤسس فيها لقاعدة مستقبلية متقف عليها بين دول المنطقة: اجعلوا العراق ارضا حراما، لا مجال للحرب فيها، فالسجال الدبلوماسي والاقتصادي هو الفعل المباح فقط.
في الثالث من نيسان الجاري حطت رحال وفد سعودي كبير يصل تعداده الى مائة شخص، بينهم تسعة وزراء أبرزهم وزير الثقافة بدر بن عبدالله بن محمد بن فرحان، ووزير البيئة والمياه والزراعة عبدالرحمن الفضلي، ووزير الطاقة والصناعة والثروة المعدنية خالد الفالح، ووزير التعليم حمد آل الشيخ، ووزير الإعلام تركي الشبانة، ووزير الدولة لشؤون الخليج العربي ثامر السبهان.
هذا ليس وفدا بسيطاً، انه قافلة حج كاملة لا بد انها تريد طلب المغفرة من بغداد، بعد سنوات من الاعتداءات الإرهابية اغلبها جاء نتيجة صراعات إقليمية حولت العراق الى ساحة معركة كبرى، وراح ضحيتها عشرات الالاف من الأبرياء، نساء وأطفال، شباب، وكهول، وكل ما يحلوا للارهابين ان يقتلو، أولئك الارهابين المدعومين من نفس الدول التي تزور العراق حاليا.
ما بين طهران والرياض
تأتي السعودية طلباً للمغفرة، بعد أسابيع من زيارة وفد إيراني، له غرض مختلف، فالإيراني يريد من العراق ان يدفع الحساب، بعد سنوات من العلاقات الدبلوماسية القوية، بداية من اعترافها بأول حكومة عراقية تحت حكم الاحتلال الأمريكي، ومرورا بالعلاقات الطيبة مع بغداد خلال محنة الاعتداءات الاجرامية التي استمرت لسنوات ما بعد الغزو الأمريكي، وانتهاء بالحرب على داعش، وهي التي تعتبرها طهران نقطة الارتكاز لتاكيد صداقة طهران لبغداد، كما تقول طهران ان لها حقا في النصر المتحقق على داعش، على الأقل في المواقف غير الرسمية واللقاءات الخاصة.
تريد ايران من العراق ان لا يخضع للعقوبات الامريكية وان يبقي حدوده مفتوحة امام البضائع الإيرانية، وان يوفر لها نافذة واسعة تربطها بالعالم المغلق باقفال أمريكية محكمة، وهي ترى ان تحقيق هذا الشرط دين على العراق يجب ان يرده بعد الحرب على داعش.
الهدف الإيراني اذن، هو اقتصادي بحت، مطلوب من بغداد توفير المال الى طهران باي طريقة كانت، سواء بالتراضي مع واشنطن، او بالمواجهة. انه موقف صعب ويهدد مستقبل الاقتصاد العراقي، فقد يدخله ضمن خانة العقوبات الامريكية.
في الجبهة المقابلة، تاتي السعودية بعروض اكثر اغراء للعراق، فهي لا تثقل كاهله بالتزامات كبيرة، انما تقدم له استثمارات بضوء اخضر من الولايات المتحدة الامريكية، قدمت مليار دولار، مع مدينة رياضية، واستثمارات اقتصادية كبيرة حسب ما وعد الوفد الزائر، واشياء أخرى من بينها دعم الموقف العراقي في الساحة العربية والدولية.
نظريا تعد السعودية اكثر اغراء، فهناك فرق بين ان تقف مع ايران المثقلة بالعقوبات الامريكية، او ان تستفيد من الأموال السعودية الطائلة التي ستدخل الى العراق على شكل استثمارات، لكن المسألة ليست بهذه السهولة سواء تعلق الامر بالسعودية او ايران.
فالسعودية لا توجد لديها استراتيجية ثابتة للتعامل مع ملفات المنطقة والعالم، وفي اغلب الأحيان هي تابعة للسياسة الامريكية، وتاخذ الأوامر من واشنطن، وليس بالغريب ان تعلن الرياض حربها على اليمن من واشنطن، او ان يامرها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بزيادة الصادرات النفطية، ومن ثم فان الانغماس مع السياسة السعودية يعني التحالف مع دولة سياستها غير مستقرة.
العروض المالية خطيرة ايضا
التعاطي المفتوح مع السعودية ومن دون شروط امر خطير أيضا بنفس خطورة عدم الالتزام بالعقوبات الامريكية على ايران، فالسعودية لا تعاني من نقص في الأموال، انما في توظيفها لاموالها الطائلة لتحريك ماكنتها الدبلوماسية، فالمال هو الممثل الرسمي للدبلوماسية، وقد تسحب استثمارات بمليارات الدولارات وتتسبب بانهيار اقتصاد شريك إقليمي نتيجة خلافات بسيطة، ونتذكر هنا ما حدث مع صفقات سعودية في لبنان، من بينها صفقة الأسلحة الفرنسية للجيش اللبناني، ونعتقد ان الحالة اللبنانية شبيهة بالحالة العراقية.
السعودية تاتي الى العراق، من اجل ثلاثة اهداف:
الأول: تسجيل حضور رسمي كبير على المستويات السياسية والاقتصادية بعد خسارتها الحرب في سوريا، وفشلها في تحقيق أي انجاز في اليمن.
الثاني: تحويل هذا الحضور الى جدار صد كبير ضد النفوذ الإيراني الكبير في المنطقة، وجعل العراق ساحة للتدافع الإقليمي ضد ايران وشريكتها العربية الجديدة قطر.
الثالث: الدخول في لعبة المحاور الجديدة، من خلال السجال الدبلوماسي والاقتصادي الناعم ضد خصومها بعد تاكد جميع الفرقاء الإقليميين على ان حروب الوكالة لا تجدي نفعا.
الحضور السعودي وقبله الإيراني، والقطري، لم يأتي من فراغ، انه اعلان لاستراتيجية جديدة للدول تلك، عنوانها مواجهة دبلوماسية واقتصادية، بعيدة عن الحروب المباشرة او حروب الوكالة، ومن يملك الذكاء الأقوى في التفاوض، والأموال الأكثر سيربح الكثير في المواجهة الجديدة، وما بين تلك السجالات يبدو ان حال العراق متجه نحو الافضل، على الأقل ستكون التفجيرات الإرهابية خارج لعبة الصراع الإقليمي، والتزاحم يكون لكسب ود بغداد لا تخريبها.
اضف تعليق