يرتبط تاريخ الديموقراطية في العراق بأزمة إدارة السلطة، وهذا يأخذنا إلى محاولة كشف نمط العلاقة بين الاثنين \"الديموقراطية – السلطة\". لم تكن الديموقراطية حاضرة بقوة منذ 1921م وحتى تسعينيات القرن الماضي؛ والسبب كان منذ إنشاء الكيان السياسي والقضايا الأساسية تبلورت حسب متطلبات كل مرحلة مر بها...
يرتبط تاريخ الديموقراطية في العراق بأزمة إدارة السلطة فيه، وهذا يأخذنا إلى محاولة كشف نمط العلاقة بين الاثنين "الديموقراطية – السلطة".
لم تكن الديموقراطية حاضرة بقوة في العمل السياسي العراقي منذ 1921م وحتى تسعينيات القرن الماضي؛ والسبب كان انه ومنذ إنشاء الكيان السياسي العراقي والقضايا الأساسية تبلورت حسب متطلبات كل مرحلة مر بها هذا الكيان، إذ أخذ مطلب الاستقلال والبناء حيزًا كبيرًا من الصراع السياسي مع الهيمنة البريطانية وتأثيرها على مجرى إدارة السلطة، لهذا حين نراجع أحداث تلك المرحلة نلاحظ أن الديموقراطية لم تكن حاضرة في المطالب الاجتماعية التي تضعها القوى السياسية أمام السلطة آنذاك، مع وجود بعض المحاولات التي ظهرت مع تولي الدكتور فاضل الجمالي لرئاسة الوزراء بعد انتخابات 1954م؛ إذ عمل الجمالي على إرساء بعض أسس الديموقراطية، فأجاز العمل للأحزاب السياسية، وفسح المجال أمام المنظمات غير الحكومية للعمل، كما أجرى انتخابات نيابية صعّدت جزءا بسيطًا من أحزاب المعارضة للبرلمان، فحصلوا حينها على 11 مقعد برلماني من أصل 131 مقعد، ولكن هذا لم يدم طويلا بسبب تدخل نوري السعيد، ودبر ما يسمى انقلاب القصر على الجمالي، وألغي البرلمان.
إن الربط بين الديموقراطية وتاريخ تأسيس السلطة في العراق نابع من الجواب المناسب للسؤال التالي: ما هو نمط الديموقراطية التي تم إدخالها في النموذج العراقي؟
تاريخيًا بدأ قدوم الديموقراطية مع الحكم الملكي الذي كان للبريطانيين الدور الأكبر فيه، عن طريق التأثير على القوى الاجتماعية التي ثارت في عام 1920م، على القبول باستقدام الملك فيصل الأول من سوريا ليكون حاكمًا على العراق، لذلك هناك من يرى أن الديموقراطية قد تحققت مع قيام النظام الملكي، بدليل وجود مقوماتها من فصل بين السلطات مع وجود دستور تم اعتماده عام 1925م، وملك نال صلاحيات مشابهة لما هو موجود في النظام الملكي البريطاني، ولكن هناك نوع من المفارقة مع وجود هذه المقومات التي تأسست عليها الديموقراطية في تلك المرحلة، أي إن الوضع السياسي في العراق لم ينل الاستقرار والتغير الاجتماعي الكافي لتقبل قيم الديموقراطية.
وهنا نلمس أن الديموقراطية التي دخلت بعد إجراء أول انتخابات برلمانية عام 1925م كانت شكلية، ونلاحظ أن تلك الإجراءات لم تكن فاعلة في تغير القيم والمعايير الاجتماعية التي كانت تخالف مضمون الديموقراطية، لذلك عمدت القوى المساهمة في بناء السلطة وفي مقدمتها الاستعمار البريطاني على الدمج بين القوى الاجتماعية التقليدية "شيوخ عشائر، ووجهاء المدن" وخطوات بناء السلطة، خلق هذا الدمج نوعًا من التناقض ما بين مضمون الديموقراطية والقيم التي تحملها تلك القوى، لذلك وقع نموذج الديموقراطية المطروح في صراع بين احتياجه إلى قيم مختلفة لا تشبه القيم التي تحملها القوى التقليدية.
جدل الشكل والمضمون
تبين متابعة تاريخ الديموقراطية أنها لم تكن مطلبًا رئيسيًا عند من أراد المشاركة في إدارة السلطة؛ لذلك أزاحت مطالب الاستقلال والعدالة وأيضا الاشتراكية الديموقراطية عن تصدر توجهات العمل السياسي، وهذا ما يظهرها في مستوى الشكل دون المضمون، فلو قمنا بمراجعة تاريخية أولية لبرنامج الأحزاب السياسية في المرحلة الملكية والجمهورية الأولى منذ 1958م وحتى 1963م، لا نجد للديموقراطية أهمية بارزة، فتغيير شكل النظام السياسي من ملكي إلى جمهوري نقله من طبيعة علاقات تابعة لبريطانيا والغرب إلى انفتاح على دول العالم، كان من بينها المعسكر الاشتراكي، مع الخروج من الأحلاف والتكتلات التي ارتبط بها النظام الملكي السابق، منها حلف بغداد والاتحاد الهاشمي، كما اختار النظام الجمهوري مبدأ الحياد الإيجابي للتعامل مع الازمات الدولية والإقليمية.
منذ قيام النظام الجمهوري في العراق ضمر مطلب الديموقراطية وانحسر وجوده فقط في الشعار السياسي دون التركيز على العمل به، كَوْن هذا النظام واجه تحدي الاستقلال الاقتصادي وإعادة توزيع الثروة مع ربطه بالدخل العام للمجتمع؛ لأن النظام الجمهوري الأول وضع العدالة الاجتماعية هدفا عمل على الوصول إليه؛ حيث كان قانون الإصلاح الزراعي الإطار العام الذي انطلق منه لإنجازها - العدالة الاجتماعية- ومن بعد عام 1963م وصولا إلى عام 1968م تلاشت الديموقراطية بين التحولات الاجتماعية التي عمل نظام البعث على إجراءها ليذيب كل التشكيلات الاجتماعية في تشكيلة الحزب ويربط الجميع بمحدداته وقدرته على التوجيه والتحكم، وبالتركيز على المسار التاريخي للديمقراطية في العراق نكتشف أنها انحسرت بمستوى الشكل أو الأداة التي توظف في سبيل الوصول إلى السلطة، ومن ثم التخلي عنها.
عملت إدارة السلطة في العراق منذ 1954م وحتى 2003م على إنتاج ديموقراطية شكلية خالية من مضمون واضح، يمتلك الفاعلية على النظام السياسي، هذا النموذج مُنِعَ من إرساء "المسألة الديموقراطية" في العراق كي تمتلك القدرة على التسرب إلى وعي أفراد المجتمع وتصبح معيارًا حاضرًا عندهم، يراقبون به ممارسات النظام وطريقة تصرفه بالقانون والثروة، أدى ترسيخ نموذج الديموقراطية الشكلية إلى فقدان عامل الرقابة الاجتماعي الحيوي في محاسبة النظام السياسي واستقراره، عمل نظام البعث من 1968م وحتى 2003م على إفراغ الديموقراطية من قوتها وتحويلها إلى أداة يستخدمها في تثبيت تحكمه بالسلطة والمجتمع، كما أنهى وجود متطلبات الديموقراطية من فصل بين السلطات، ومنع تكوين سلطة إعلامية تمارس دور التوعية والمراقبة لممارساته السياسية والثقافية.
بعد 2003: استمرار الشكل على حساب المضمون
أعاد تغيير 2003م فرصة تخطي إشكالية أن الديموقراطية في العراق ذات بعد شكلي غير متحقق عمليا في مؤسسة السلطة وعلاقة المجتمع بها، إذ توفرت عوامل الوصول إلى ديموقراطية لا تقف عند الشكل، بل تتحول إلى مضمون ينقل المجتمع إلى مستوى التفاعل المتبادل مع إدارة السلطة، ومن جانب آخر، إن الديموقراطية أصبحت مبدأ دستوري حاكم في تكوين شكل النظام السياسي، ودخول مرحلة الممارسة الانتخابية كل أربع سنين تساعد على تطبيق الديموقراطية فعليًا، ومع كل هذه الخطوات التي حصلت بعد 2003م، لم تتخط الديموقراطية الشكلية إلى مضمونها، وقيمها لم تتحقق، وإنما انحسر وجودها في المجال العام دون تأثيرها على من يدير السلطة إلا بمستويات محدودة، وهنا كأننا نعيد نفس معوقات بناء نظام سياسي مستند على ممارسة ديموقراطية ضامنة لاستقرارها، إضافة الى كثرة الكيانات السياسية التي لم تمارس الديموقراطية من داخلها اصبح عائقًا جديدًا يمنع إنجاز نيل الديموقراطية الفعلية.
لم نلتفت طوال السعي إلى تطبيق الديموقراطية الفعلية إلى الربط بين العامل الاجتماعي والسياسي؛ إذ ما يحمله المجتمع من تقاليد ومعايير سلوكية في أغلبها لا تتقبل قيم الديموقراطية، بل ترفضها مضمونًا وتتقبلها شكلاً، وهذا ما يجعلنا نفكر في كيفية تقبل أفراد المجتمع لقيمها والتعامل معها كقيمة اجتماعية تكفل حق الفرد بالسلطة والثروة، المفارقة كانت بعد 2003م؛ حيث تضخم شكل الديموقراطية، مما أدخلها في مشكلة استهلاكها والنظر اليها باعتبارها جالبة للفوضى والفساد وسوء الإدارة، وهذا تحدي جديد لضمان تطبيق ديموقراطية حملت صورة غير مقبولة عند الكثير من أفراد المجتمع.
اضف تعليق