يحتار العراقيون في وصف حالهم، بعد تغيير النظام السياسي العام 2003، والذي حكمهم سابقا بالقسوة والارغام، اذ يصف هذا الحال، أحد العراقيين وهو يستقل احدى وسائط النقل العامة بأنه \"لا اتقدمنه خطوة ولا اتأخرنه خطوة\"، بقوله هذا يضع ما يجري بهذا البلد في متاهات دوامة التأرجح...
يحتار العراقيون في وصف حالهم، بعد تغيير النظام السياسي العام 2003، والذي حكمهم سابقا بالقسوة والارغام، اذ يصف هذا الحال، أحد العراقيين وهو يستقل احدى وسائط النقل العامة بأنه "لا اتقدمنه خطوة ولا اتأخرنه خطوة"، بقوله هذا يضع ما يجري بهذا البلد في متاهات دوامة التأرجح بين اللا تقدم واللا تأخر، التأرجح لا يحسم لنا أمر محاولة فهم الذي وقع بعد التغيير.
قد يرى البعض أن هذا الوصف ايغال في التشاؤم دون الالتفات الى معاني الأمل، التي تحققت، كما يرد البعض عليه – التشاؤم –، اذ لكل تغير كلفته توازي فداحة ما جرى قبله، ومضمون المثل الشعبي العراقي "اللي يشوف الموت يرضى بالسخونة"، يرد على حالة اللا تقدم واللا تأخر، ولكن أصبح لا مناص من طرح السؤال الخفي الذي ينطلق بين حين وآخر "هل نجحنا أو فشلنا بعد تغيير 2003؟".
لا أظن نمتلك القدرة على تحديد اجابة لهذا السؤال لأننا نقع تحت تأثير تجاذب طائفي وسياسي يعيق أمكانية التفكير خارجهما، ولذلك لو قمنا بمعاينة مظاهر النجاح والفشل ربما يمنحنا قدرة للخروج من عائق التفكير عند حدود الطائفية السياسية، والنظر الى ممكنات اخرى تفيدنا في تلقي فهم وتحليل عن ما اعتدنا عليه.
في العراق باتت السلطة والسياسة هما مؤونة رئيسية لكل من يريد تقديم رأي يفسر ما يجري فيه، وهذا ما حولهما الى سبب ونتيجة.
النجاح وما تحقق منه:
يتبادر الى ذهن أغلب العراقيين، كان الخلاص من النظام السابق هو الحصيلة المحروزة من النجاح؛ لأنه امسى العائق الاكبر أمام تغير حال البلد نحو الاحسن، ولذلك غطى هذا النجاح على بقية ما حصل بعد العام 2003، لقد أصبح تغير النظام الملاذ لتلافي اي انجرار نحو الاشارة الى توارد الاخطاء والخلل الحاصل، ولكن هذا المنجز ما عاد يفي بالغرض؛ لكي يمحو وينسينا ما بتنا نواجهه منذ 2003 ولغاية اليوم، اذ حين نقارن بين الكسب والفقد، الى أي كفة تميل المقارنة؟
اجابة على هذا الامر مرهون بعدة امور، منها هل مازال مضمون المثل الشعبي العراقي "اللي يشوف الموت يرضى بالسخونة"، حاضر عند العراقيين، حينما ينتبهوا الى ما أصابهم اليوم؟، ليس هناك ادنى شك أن هذه القضية فيها تعقيد كثير، يكاد يصل الى حد الحيرة ازاء حسم كفة أحد طرفي "الكسب – الفقد"، ينحصر استمرار الميل الى كفة الكسب والنجاح بمدى استمرار فاعلية لحظة تغير النظام وانجاز الخلاص منه، بمعنى اخر كم سيبقى رصيد هذا التغير عند الناس وقدرته على منحهم تقبل ما جرى بعد ذلك؟
أظن ان المراهنة على هذا الجانب غير مضمونة؛ بسبب نسيان الناس لما مروا به من احداث وازمات، لانهم يركزون على ما يعيشونه في الحاضر، وهذا ما يكشف لنا عن عمق ازمة استيعاب الماضي وما جرى فيه من وقائع، وكأننا امام اختلال عميق يدور حول كيفية صناعة ذاكرة اجتماعية وثقافية، نتعلم منها عدم تكرار اخطاء الماضي، وهنا يأتي دور المتحف والتاريخ الاجتماعي المدون ونموذج التنشئة الاجتماعية سواء في الاسرة او في المدرسة لكي تحفظ الاتصال بالماضي وفهم ما جرى فيه، وهذا غير حاصل بشكل واضح في العراق منذ نشوء الدولة العراقية ولغاية اليوم، اننا امام حالة غريبة من النسيان والتخطي لما واجهه العراقيون من محن وكوارث اجتماعية وطبيعية!.
الفشل وتحدي دوامه:
لا يخلو مكان يتجمع فيه العراقيون، من حديثهم الدائم عن ما يجري في بلدهم، وجل هذا الحديث يدور حول الاستياء والاستجهان لما جرى بعد 2003، اذ مجريات حالهم الاجتماعي والسياسي تمنحهم طاقة شبه مستمرة في المضي بهذا الحديث، حتى مع محاولة احد ما ان يعاكس مجرى هذا الحديث، ويقف ضده فأنه لن يصمد مطولا في هذا الموقف، اذ يواجهه الاستياء من الفساد، المحسوبية الحزبية، الطائفية، والشعور بفقدان الأمل، فضلا عن ذلك الفوضى الكامنة في أغلب مظاهر الحياة العامة، حيث كلما حاول الناس التقاط ملامح النجاح تأتي ازمة تعزز فقدانه، فمنذ تفجير سامراء 2006، وما حصل في كنيسة سيدة النجاة 2010، وصولا الى أخطر ازمة واجهها العراق بعد التغير، وهي اجتياح داعش لثلاث مدن عراقية واحتلالها لمدة ثلاث سنوات، جعلت العراق ونظامه امام تحدي البقاء أو الانهيار، هنا تصبح المقارنة بين الفقد والكسب غير مجدية لأنها تنطلق من ما هو حاصل على أرض الواقع منذ 2003 ولغاية الان.
وإلا بماذا نفسر تنامي ظاهرة الحنين الى ما قبل التغير، وازدياد تذكر تلك المرحلة من خلال التركيز، على ما كان فيها من أمور يرى الناس انها كانت جيدة، وحين تسأل ما الذي تغير بعد الخلاص من النظام السابق، قد ينحصر الجواب في حال الكلام والفعل، اذ قبل 2003 كنا لا نمتلك لا الكلام ولا الفعل، فقط الرجاء والامل بالخلاص من ما نحن فيه، ولكن بعد التغير حصلنا على الكلام ولغاية الان لم نحقق الفعل الذي يغير ما كنا عليه من فقدان لمظاهر الحياة المستقرة والخالية من الخوف من القادم، والمفارقة اصبحنا نعاني صعوبة تخطي الفشل.
اضف تعليق