يؤكد كثيرون من المهتمين بشأن الثورات الكبرى التي حدثت في التاريخ، ان ظروفا متشابهة كانت موجودة في بريطانيا او المانيا او روسيا مع ماموجود في فرنسا، وربما كان وضع الفرنسيين افضل من غيرهم، لكن فرنسا وحدها هي التي ثارت وانتفضت على واقعها دون تلك البلدان، لتسجل ثورتها في سجل الثورات الكبرى في التاريخ..
يعزو كثير من الباحثين اسباب ذلك الى كتابات فولتير وجان جاك روسو، إلى جانب كل من مونتسكيو وجون لوك وتوماس هوبز ممن يطلق عليهم تسمية (فلاسفة التنوير).
هذه الاحالة لدوافع الثورة الفرنسية لاتخلو من الصحة، بل هي صحيحة الى حد كبير، لكن ماحدث في فرنسا دونا عن بقية البلدان، هو ان الفرنسيين قد امتلكوا حساسية اكبر تجاه (الظلم) ولم ينشغلوا بتسمية الظالم او يركزوا عليه كهدف لثورتهم، وهذا كان كافيا في ذلك الوقت لكي يكون سببا رئيسيا في قيام تلك الثورة.
الانتفاضات العربية، او ما عرف بثورات الربيع العربي غابت عنها مافطنت اليه الثورة الفرنسية وهو الاحساس بالظلم والاستبداد، وحولت ذلك الى المستبدين كشخوص مجردة كانت الهدف الرئيسي والشعار الابرز للافتات احتجاجاتهم، اختصرتها كلمة (ارحل)، وكان ان رحل الحاكم المستبد ولم ترحل معه ثقافة الاستبداد وسلوكه، ليعود هؤلاء المنتفضون الى المربع الاول، وتعود الدولة المستبدة الى ماكانت عليه، حاكمة ومسلطة على الرقاب، وان بأسماء شخصيات جدد، هم قادة افرزتهم الحقبة الثورية الجديدة.
تلك العودة تصالح على تسميتها (الدولة العميقة) كما هو الشان في مصر او اليمن او تونس.
العراق الذي شهد تغييرا دراماتيكيا لنظامه السياسي في العام 2003، لم يحدث هذا التغيير نتيجة حراك اجتماعي او سياسي عبر فاعلياته الاجتماعية او السياسية، بل هو تغيير من الخارج عن طريق قوة عسكرية هي قوة الولايات المتحدة الامريكية وعدد من الدول المتحالفة معها.
حاولت امريكا وهي امام استحقاقات عديدة لهذا التغيير، ان تروج للفكرة الديمقراطية وتداول السلطة في العراق، الا انها وبعد هذه السنوات لم تستطع من ترسيخ تلك الفكرة في العقول والضمائر، رغم العديد من الممارسات الديمقراطية الشكلية.
بعد اكثر من عقد على التغيير السياسي في العراق، ما الذي يمكن استخلاصه من تلك التجربة؟
في تصريح لافت لرئيس مجلس النواب العراقي الدكتور (سليم الجبوري) يقول فيه: (هناك من له النفوذ والقدرة على تحريك الأرض أكثر مما يملك رئيس الوزراء أو رئيس مجلس النواب أو رئيس الجمهورية).
وهو ما يمكن توصيفه بالدولة العميقة في العراق، او بعبارة تحيل الى استذكار الثورة الفرنسية (ثقافة الاستبداد) ويمكن تلمس تمظهراتها الاولى في الاحداث التي اعقبت التاسع من نيسان، بعد اسقاط نظام تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس، وهو اسقاط رمزي لم يمتد الى بنية نظامه وثقافته التي امتدت على مدار اكثر من ثلاثة عقود..
وشاهدنا الكثير من تلك التمظهرات التي كان وراءها البعثيون وافرادا من الاجهزة الامنية، والتي اتخذت طابعا سريا في اغلب الاحيان، اما الطابع العلني منها فقد تمثل في اشتراك كثيرين من المحسوبين على ثقافة النظام السابق في مفاصل السلطة الجديدة، والذين مارسوا دورا تخريبيا للعملية السياسية طيلة السنوات الماضية، تحت شعارات المعارضة التي تتطلبها فكرة الديمقراطية.
اذا كانت الظاهرة (الصدامية) التي حكمت العراق طيلة اكثر من ثلاثة عقود، هي المتبدية بوضوح قبل العام 2003، واستمرت من خلال ثقافتها في النفوس والعقول والضمائر بعد ذلك العام، ترافقت معها ظاهرتان جديرتان بالاهتمام لم يتم التركيز عليهما بالشكل الكافي، واقتصر الحديث عن واحدة منهما بشخص صاحبها المجرد واقصد به نوري المالكي.
هاتان الظاهرتان هما ما يمكن تسميتهما (المسعودية) نسبة الى رئيس الاقليم الكردي مسعود البرزاني، و(المالكية) نسبة الى السيد نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي السابق لدورتين متتاليتين.
اذا كانت (المسعودية) قد ترافقت في بعض سنواتها مع (الصدامية) في تسعينات القرن المنصرم بعد حرب تحرير الكويت، ولجوء الاولى الى الثانية في اقصاء طرف كردي اخر من المنافسة على السلطة في الاقليم (جماعة جلال الطالباني) الا انها استمرت بعد العام 2003 بزخم اكبر، وهذه المرة تحت اللافتة الديمقراطية، الا انها في تغولها لم تحسب ما يمكن لهذه الديمقراطية ان تدفع اليه من بروز جماعات اخرى تروم الوصول الى السلطة او الحصول عليها، في تبادل للمواقع تسمح به فلسفة الديمقراطية.
الا ان (المسعودية) وهي التي ترسخت بفعل عوامل عديدة (عشائرية – حزبية – عائلية) وهي تجد نفسها امام استحقاقات جديدة يفرضها المنطق الديمقراطي للسلطة، تجد نفسها ممتنعة عن التغيير وفق تلك الاستحقاقات، ويمكن لها ان تلجا الى تغيير الدستور (لاقليم كردستان) للحفاظ على تلك السلطة، مع اعلان حالة الطوارئ، التي ستسمح بمزيد من اقصاء الاخرين.
الظاهرة المسعودية، رغم تبدي مساوئها الا انها لم تواجه بالنقد الكافي والمطلوب، الا عبر اقلام كردية قليلة، ترفع الصوت بين حين واخر، الا انه صوت خافت، يقابله صراخ عالي مندفع من المستفيدين من تلك الظاهرة، متعللين بدفاعهم بمنجز عمراني واستثماري يتبدى ظاهرا للعيان في اقليم كردستان، وهو منجز يعتبره هؤلاء حضاريا، لكنه وللسخرية يتطابق مع توصيف اطلقه الباحث العراقي هادي العلوي في كتابات سابقة له (الطغاة يصنعون الحضارة).
الظاهرة الثالثة هي المالكية، وهي التي رسخت اقدامها طيلة سنوات ثماني من خلال تركيز النقد على صاحبها اكثر مما كان يتم التركيز على ماتمثله من توجه وسلوك لدى المستفيدين منها.
وكنت كثيرا ما اعترض على الهجوم الذي يتعرض اليه شخص المالكي، بسب ان اقتصار الحديث عنه سيسمح بتمدد ظواهر استبدادية اخرى مستفيدة من هذا التحشيد ضده، من خلال الاغفال عنها، وهو اغفال يتحول الى استغفال للوعي تستريح اليه تلك الشخصيات.
وحتى بعد رحيل المالكي، استمرت ظاهرته في التحكم في الكثير من الملفات، سواء التي كان معنيا بها مباشرة او التي تدور على هامش الظاهرة، مثل الفساد المالي او المحسوبية والمنسوبية، وغيرها من تمثلات للظاهرة تحت معطف الأحزاب، والتي تحمي مصالح المتنفذين فيها، ومن يقوم برعاية مصالحهم من كوادرها.
صحيح ان المالكي انتهى كمسؤول سياسي على رأس الهرم التنفيذي، الا ان المالكية لم تنته مثلها مثل الصدامية او المسعودية، وهي مستمرة في الاحزاب والتشكيلات السياسية في سيادتها وهيمنتها على القرار.
(الدولة العميقة) و (ثقافة الاستبداد) هما المتحكمتان في مسارات التجربة العراقية بعد مرور اكثر من عقد على التغيير، وهو تغيير في حقيقته انصب على شكل النظام السياسي دون بنيته الثقافية، التي لايمكن تغييرها دون العمل على تفكيك عناصرها الرئيسية وتقديم مقاربات جديدة تشعر الناس بالظلم، وتجعلهم يمتلكون حساسية اكبر نحوه بغض النظر عن الاشخاص او الاسماء.
اضف تعليق